أتابع وقائع الانتخابات التونسية بكثير من الغبطة والحسد أيضاً، وأفكر بتونس التي تحتفي اليوم بطيّ عهد من الظلم والظلام، من أجل بداية عهد جديد يصنعه الشعب بإرادته التي لم تكلّ أبداً أو تمل من أجل تحقيق مطالبه المحقة.
وأتابع في ذات الوقت خبر رحيل بن علي، فيتثبت في قلبي يقين حول حتمية رحيل الطغاة مهما استمروا، الرحيل هو الحقيقة التي لا مهرب منها، ولا خلاف عليها، ولكن الخلاف على رحيل يستبق الرحيل، الخلاف على ترك كرسي الحكم لمن يستحقه، لا لمن يحتله.
ربما كانت تونس محظوظة أكثر من الآخرين في كون حاكمها هرب بعد أن أدرك بأن من هدر الوقت والطاقة والجهد وبأن من الخطر المحدق به شخصياً استمراره على الكرسي، وهو الذي قال جملته الفصيحة جداً، في موقعها الحساس جداً، فذهبت مثلاً؛ ” فهمتكم”!
الفرق بينه وبين بقية الحكام بأنه فهم، ولم يفهوا، وهرب فجنب نفسه البلد والناس الخراب ولم يجرؤوا على التنازل والهرب، فحتى الهرب في حالات كهذه يتطلب الجرأة والشجاعة، لكنهم كانوا جبناء بما يكفي ليقاتلوا شعوبهم، ويخربوا الأرض والإنسان، والمشكلة كل المشكلة تتلخص في أنهم لم يدركوا ولم يفهموا، وهو إذ كان لم تتح للشعب أن يحاكمه المحاكمة العادلة، فهناك حساب ينتظره، حيث لن يتمكن من الهرب إلى مكان.
ولنترك بن علي جانباً ونعود إلى غبطة التونسي بانتخاباته، ورغبته العميقة في بناء بلاده، ومبادرته الحقيقية بالمشاركة السياسية، بعد عهد من الصمت وتكميم الأفواه، يمكن لمشهد كهذا أن يشعر من هم مثلنا بالتفاؤل والأمل، نحن الغارقون تحت ظلمات من الاضطهاد والكبت والقهر، لنسأل أنفسنا بعد سنوات من الثورة، إلى أين وصلنا كشعب سوري في ثقافة المشاركة السياسية الشعبية، وماذا حققنا على الصعيد الشخصي والمؤسساتي والجماعي والمجتمعي؟
أحاول استقراء الواقع من مشاهدات كثيرة، حيث المكان بيئة مهمشة في مجال البحث العلمي، فأجد في شباب الثورة الصادقين قوة وقدرة على التفكير الواعي والتحليل المنطقي واتخاذ القرار الصائب ونقد الخطأ، وإيجاد الحلول الممكنة، مما كان لن يتحقق أبداً، ما لم تكن هنالك ثورة، وأجد شيئاً من التحجر والجمود لدى الفئة التي أقصت نفسها بنفسها عن العمل الثوري مؤخراً، الفئة التي يئست وبدأت تحاول اتخاذ مسار آخر في حياتها بعيدا عن الدخول في شؤون الثورة والمجتمع يأساً ربما أو تكاسلاً وتعباً أحياناً، فممارسة العمل تكسب خبرة وتجربة وعمقاً، وهذا هو الأمر الذي حرم منه السوري بدرجات متفاوتة داخل سوريا وخارجها.
على صعيد المجتمع في الشمال السوري، يبدو موضوع المشاركة السياسية أمراً مبهماً وغائباً، ويشيع الظن أن التعبير عن الرأي أمر يخص فئة معيّنة، وتغدو ثقافة المطالبة بالحق أمراً يستحق التشجيع والمؤازرة، والتعبير عن تلك المطالب وتأطيرها في أفكار واضحة ومحددة، واكتساب ملكة التفاوض مع الخصم، وإثبات الحجج، والتنظيم والحشد أموراً في طور الولادة والظهور، وقد لفت نظري مؤخراً خطوات عملية لفئات شعبية استطاعت تحويل المشكلات الواقعة فيما بينها إلى قضية واضحة ذات أفكار ومطالب محددة، مما يسهل إجراءات الحل.
إن البدء بالممارسة السياسية على مستوى الأفراد والعائلات، كأمر عفوي وطبيعي آخذ بالظهور، وقد يخيل إلينا أن السنوات التي مضت حولت الناس إلى حالة من العبثية، ومنعتهم التفكير المنظم، ونحن إذ نغدو بمثابة الشاهد أو المراقب للحدث، فبوسعنا أن ندرك وجود شيء من النضج في آلية الخطاب، مع كون ذلك متأخراً، ومع كون ذلك قد تلا مرحلة قاسية وبشعة من جور وقتل ونزف دماء، إلا أنه بتكرار تركيز الجهود عليها تدريجيا، ومع مرور الزمن، وانتشار حالة مجتمعية من النفور والإنكار لما يحدث، ومخاطبة العقلاء، والتفتيش عن رجل رشيد في معمعة النزاع التي يشيع فيها انعدام الرؤية وتشويشها، الأمر الذي يجعلنا ندرك أنه إيجابي، وبأن تكراره وانتظامه، وتوافقه مع القانون والحق، وتطبيق العدالة سينتج مجتمعاً واعياً من بعد تخبط وعشوائية.
ولعله لا يخفى على أحد ضرورة وجود سفراء حقيقيين للنوايا الحسنة، يجوبون أرجاء المدن داخل سوريا وخارجها، يطرق فيها السوري باب أخيه، يخاطبه بلغة العقل والقلب معاً، فنحن نحتاج إلى مبادرات واعية لا تكل، تخاطب شركاء الأرض والقضية، تحمّل كل جانب مسؤوليته الأخلاقية، وتوكله عناء القدرة على أن يكون مرناً في الأوقات التي تتطلب المرونة، قاسياً صلباً في الأوقات التي تتطلب المواقف الصلبة.
إن من أكثر ما فشلنا في تحقيقه في السنوات التي مضت، والتي عندما أتيحت لنا مساحة من حرية لم نستغلها، هو أن نحاول أن نجتمع حتى بعد خلافاتنا، وأن نعبر عن أفكارنا بأساليب تندرج تحت بند الحكمة والرغبة الصادقة في التغيير، ذلك الفشل الذي آن لنا أن نتجاوزه بإصرار، ونتعلم جيداً ويوصي بعضنا بعضاً ألا يتكرر.