خواطر دستورية في الشكل المرتقب للدولة السورية

ديسمبر 21, 2022

عارف الشعال

مقالات

“الشعب يريد إسقاط المحافظ” كان هذا الشعار أحدَ بواكير الشعارات التي طرحها المتظاهرون، بداية الحراك السلمي، في آذار/ مارس عام 2011، قبل أن تتصاعد طلباتهم في مختلف أرجاء الدولة باتجاه تغيير النظام السياسي برمّته.

حملَ شعار “إسقاط المحافظ”، في أبعاده، مفهومًا عميقًا في الاحتجاج على شكل الدولة القائم في سورية، بوصفها دولة مركزية تُصنع قراراتها وسياساتها في العاصمة، ومنها يُسمّى المحافظ الذي يتمتع بسلطات تنفيذية واسعة في المحافظة يصعب حصرها. وكان طرح المتظاهرين هذا الشعار مؤشرًا على أننا لم نكن نعيش في دولة مستقرة، حيث كان أبناء الدولة ومكوناتها يشعرون بأنهم تحت سلطة دولةٍ تُقصيهم ولا تأبه لمطالبهم ورغباتهم، وإذا أخذنا بالاعتبار مشكلة الإقصاء التي يشعر بها أبناء المكوّن الكردي في سورية؛ غدا موضوع شكل الدولة السورية المستقبلي من الأولويات التي يجدر بالسوريين مناقشتها بعمق ومسؤولية.

أثار الطرح بالانتقال من الشكل الحالي للدولة الموحدة (البسيطة)، إلى دولة فيدرالية تتكون من أقاليم تتمتع بشيء من الاستقلال عن المركز، مخاوفَ جدية بتقسيم سورية أو باقتطاع جزء منها وإلحاقه بدولة أخرى، أو بإقليم في دولة أخرى. وعزز هذه المخاوف ما يحدث على الأرض في المناطق الخارجة عن سلطة الحكومة المركزية.

وبين مفاهيم الدولة البسيطة والفيدرالية واللامركزية (الإدارية والسياسية) الواسعة التي يتحاور السوريون حولها، لا بدّ من الدخول في التفاصيل التي يكمن الشيطان فيها، للوقوف على أبعاد الشكل المرتقب لسورية. هذه التفاصيل التي قلّما يتحاور السوريون فيها تتركز حول كيفية توزيع السلطات والصلاحيات والاختصاصات في الدولة، بين الأقاليم والمركز، إذ لم يعد منطقيًا أن يحتكر المركز كل السلطات، كما كانت عليه الحال قبل آذار 2011، ولا بد من توزيعها بين المركز والأقاليم/ المحافظات، بالطريقة التي تناسب سورية.

ليس من السهل أبدًا الحديث عن شكل توزيع السلطة المناسب لسورية، فهذا أمر يحتاج إلى دراسات تخصصية معمقة وحوارات واسعة، وورشات عمل، ومؤتمرات خاصة بذلك، ولكننا سنلقي الضوء على أهم محاور توزيع السلطة، للوقوف على أبعادها والتفكير بآلياتها، توخيًّا لاختيار الشكل الأنسب من جانب، وتجنبًا للازدواج في السلطة بين العاصمة والمحافظات من جانب آخر.

في البداية، نرى أنه لا بد من إعادة النظر في التقسيم الإداري للمحافظات السورية، وفي حدودها الإدارية، وإعادة تشكيلها ثانية بما يناسب التركيبة الديموغرافية السورية، بحيث تتشكل محافظات جديدة يقوم السكان فيها بانتخاب مجالس إدارتها ورئيس بلديتها، وإذا تمَّ الاتفاق على تقسيم إداري جديد، فيُفضل تثبيته في متن الدستور.

أولًا: الآلية الدستورية لتوزيع الاختصاصات بين المركز والأطراف

هناك اتجاهات دستورية عدة لتوزيع الاختصاص بين السلطة المركزية والسلطات المحلية، وذلك على النحو التالي:

الاتجاه الأول: يذهب إلى تحديد صلاحيات السلطة المركزية على سبيل الحصر، ويترك ما لا يدخل في اختصاصها للسلطات المحلية، وهذا الاتجاه يرمي إلى توسيع اختصاص الأطراف؛ لأنّ هذه الصلاحيات -مهما وسَّع المشرّع من صلاحيات المركز- تبقى محددة، وستدخل المسائل المستجدة، بفعل تغيّر الظروف، ضمن اختصاص الأطراف غير المحدد أصلًا، وذهب بهذا الاتجاه كلٌّ من الدستور السويسري والأميركي والمكسيكي والأسترالي.

الاتجاه الثاني: يحدد اختصاص السلطات المحلية على سبيل الحصر، ويترك باقي الاختصاصات للسلطة المركزية، على خلاف الاتجاه الأول، ويؤدي هذا الاتجاه إلى توسيع اختصاص المركز غير المحدد، على حساب اختصاص الأطراف المحدد على سبيل الحصر، وتبنّى هذا الاتجاهَ كلّ من الدستور الكندي والفنزويلي.

الاتجاه الثالث: وهو يجمع بين الاتجاهين السابقين، بحيث يحدد اختصاص المركز والإقليم/ المحافظة على سبيل الحصر، وأخذ به الدستور الهندي. وهذا الاتجاه منتقد؛ إذ ستطرأ مسائل مستجدة لم يُتطرّق إليها، مهما كان المؤسس الدستوري واسع الخيال في تحديد الاختصاصات وتقسيمها بين المركز والأطراف، وستبقى هذه المسائل من دون اختصاص!

الاتجاه الرابع: يحدد الاختصاص الذي يمارسه المركز على سبيل الحصر والانفراد، والاختصاصات التي يمارسها بالاشتراك مع الأطراف، كما فعل الدستور الألماني. وهذا الاتجاه هو الذي نميلإليه في الواقع، وهو يستدعي، من دون شك، جهدًا دقيقًا ومكثفًا ونوعيًا من واضع الدستور، وأن يكون واضحًا، إذا طرأت مسائل مستجدة لم ينصّ عليها في الدستور، بأن تكون من صلاحية الأطراف، كون صلاحية المركز محددة بشكل حصري في الدستور.

ثانيًا: اختصاصات السلطة المركزية:  

تعدّ الاختصاصات التي يمارسها المركز أكثر المسائل حساسية، وتخضع لتجاذبات كثيرة بين سياسيي المركز والأطراف، ولا شك في أن ظروف دولةٍ خارجةٍ من حرب ضروس، كادت تمزقها، تستوجب منح اختصاصات واسعة للمركز منعًا لتفتتها، لذلك يجب الانتباه في هذا المقام إلى تحذير الفقهاء من الإفراط في سحب الصلاحيات من السلطة المركزية لصالح الأطراف، خشية انهيارها، حيث يقول الأستاذ شاكر الحنبلي (وزير المعارف والأستاذ في معهد الحقوق في دمشق) في كتابه الجامعي الحقوق الإدارية، ج1، ط 1928: “إن المركزية السياسية هي روح الدولة، ومفهوم الدولة يستلزم وجود المركزية السياسية، لذلك كان من اللازم عدم الإخلال بها بوجه من الوجوه، وإلا كانت الدولة عرضة للانحلال، مثل الرابطة التي كانت تربط السويد بالنروج، وانفكت عراها لأسباب تافهة”.

ومن أهم الاختصاصات الشائعة للسلطة المركزية في الدساتير المقارنة: (الشؤون الخارجية، الجيش والدفاع والأمن القومي، مسائل الجنسية، الشؤون المتعلقة بحرية الانتقال ومنح الوثائق، كالبطاقات الشخصية وجوازات السفر ومسائل الهجرة، تسليم المجرمين، شؤون النقد والموازيين والمكاييل والتقويم، وحدة الأراضي الجمركية، وحماية الحدود والسيطرة على المعابر الحدودية، والنقل الجوي والبري والبحري، البريد والاتصالات، مسائل الحرب والسلام).

ثالثًا: نظام البرلمان ذو الغرفتين:

من الشائع، في الدول التي تتقاسم السلطة بين المركز والأطراف، وجودُ نظام برلماني من غرفتين (نواب – شيوخ)، حيث يمثل مجلس النواب كل المواطنين، ويكون لكل عدد من المواطنين نائب يمثلهم، بينما تتمثل الأطراف/ السلطات المحلية بعدد محدد من نواب الغرفة الثانية (الشيوخ)، وبذلك تضمن المحليات صوتًا لها في العملية التشريعية وإصدار القوانين، ونعتقد أن هذا النظام التشريعي ضرورة في سورية المستقبل.

رابعًا: محكمة دستورية فعّالة:

تعدّ المحكمة الدستورية العليا، في دولةٍ تتوزع فيها السلطات على النحو السالف ذكره، ضمانةً لعدم تغوّل السلطة المركزية على سلطات الأطراف، أو عدم تغوّل الأطراف على بعضها البعض أو على المركز، في ممارسة اختصاصات لا تملكها دستوريًا، وهذا يُوجب إيلاء عناية فائقة لوضع قواعد دقيقة، تمكّن هذه المحكمة من ممارسة ولايتها بسلاسة بعيدًا عن التجاذبات، مع ضمان آلية سهلة للوصول إليها. إضافة إلى ذلك يجدر التنبيه في هذا الصدد إلى ضرورة العناية أيضًا بتطوير مجلس الدولة، والعمل على استقلاله كلّيًّا عن السلطتين الأخريين، بحسبان أن القضاء الإداري يعدّ معقلًا لإلغاء القرار الإداري ويمنع تعسّف الإدارة بالأصل، ويُعدُّ ركنًا أساسيًا في بناء الدولة، مهما كان شكلها.

وأخيرًا

لا بدّ من الإشارة إلى أن المخاوف من التقسيم التي تثار بشأن تحوّل شكل الدولة السورية، من بسيطة إلى فيدرالية، أو من مركزية شديدة إلى لامركزية موسعة، أو لا مركزية سياسية، ومن تغيير التقسيمات الإدارية فيها، قد تتلاشى إذا تمّت هذه العملية عبر نقاشات ومفاوضات وطنية جدية مخلصة، تراعى فيها هواجس الجميع، وصولًا إلى اتفاق محكم، وهذا لا يكون إلا إذا توفرت الشروط الموضوعية المناسبة لمثل هذه النقاشات والتسويات بين السوريين، وليس في أجواء العنف وانعدام الثقة والاستقواء بالخارج.. فالمخاوف لا تأتي من الطروحات بحد ذاتها، بقدر ما تأتي من الطريقة واللحظة التاريخية التي تطرح بها، مع الأخذ بالاعتبار وجوب الخروج من التسميات والنماذج الموضوعة مسبقًا في الذهن، لأنه لا يوجد نماذج معلبة لشكل الدولة اللامركزية والصلاحيات التي يتمتع فيها كلٌّ من المركز والأطراف في هذه الدولة، فهي تختلف كثيرًا من دولة لأخرى في الدساتير المقارنة، وإن كانت تشترك في الصلاحيات الرئيسية التي ذكرناها آنفًا، عندما تحدثنا عن اختصاصات السلطة المركزية، ولذلك يُستحسن أن نتجنب الحديث عن نماذج محددة (فيدرالية، لا مركزية سياسية….) حتى لا نغرق في جدل بيزنطي سفسطائي، ونبحث مباشرة في توزيع السلطات بين المركز والأطراف، بهدف تكوين رؤية عن شكل دولة لا مركزية، يكون فيها المركز قويًا والأطراف قوية أيضًا، وتتمتع بقدرة واسعة على إدارة شؤونها وتحقيق تنمية مستدامة، ولعلّ في تغيير شكل الدولة الحالي، وتخفيف الصلاحيات الهائلة التي يتمتع بها المركز ونقلها إلى الأطراف، الترياقَ الذي تحتاج إليه سورية، لتصبح دولة ديمقراطية يسودها القانون ويسمو بها الدستور.

المزيد
من المقالات