داريا.. ثورةٌ بيضاء تُغتال على مرأى الجميع

يناير 4, 2023

عبادة كوجان

مقالات

لم تكن داريا، منذ أن باغتها الحصار في تشرين الثاني 2012، مكانًا يصلح لتقديم حالة نموذجية منفردة في الثورة ضد النظام السوري، لولا سعي أبنائها من مدنيين وعسكر للنهوض بها، عن طريق الالتفاف حول قيادة مدنية منتخبة تكون مظلة قانونية لفصائل الجيش الحر فيها، فأضحت هذه المدينة المتاخمة للعاصمة دمشق رمزًا ثوريًا في عُرف الناشطين والمعارضة السياسية والعسكرية على امتداد الجغرافيا السورية.

إلا أن جملة عوامل داخلية وخارجية أنهكت داريا طيلة أربع سنوات مضت، من خلال محاولات اقتحام متكررة، وقصف بأنواع مختلفة من الأسلحة برًا وجوًا، وحصار أخذ مؤخرًا يتمدد ويخنق كافة أساليب العيش فيها، يضاف إلى ذلك صمت المجتمع الدولي وفشله في فتح طرق إمداد نحوها، أو حتى الإسهام في تهدئة مديدة تحقق استقرارًا جزئيًا ومعيشة بالحدود الدنيا لمحاصريها.

اليوم، وعقب تصعيد زادت وتيرته ابتداءً من منتصف أيار الفائت، نجحت قوات الأسد بتحقيق تقدم واضح على جبهات داريا، الجنوبية والغربية، لتصل هذه القوات إلى الأحياء السكنية التي شهدت بدورها نزوحًا نحو مركز المدينة، الأمر الذي دعا ناشطيها ومجلسها المحلي لدق ناقوس الخطر، مطالبين بضرورة التحرك بشتى الطرق والوسائل، للحيلولة دون مجازر ومآسٍ إضافية محتملة الحصول.

 

سياسة قضم الجسد” مستمرة

ضبابية حول مستقبل داريا في ظل التصعيد الأخير، بدت واضحة من خلال حديث النقيب سعيد نقرش (أبو جمال)، قائد لواء “شهداء الإسلام” العامل فيها، إذ أكد وجود رؤية إزاء ما يحدث على أطراف المدينة، لكنه امتنع عن الخوض في تصريحات حولها. أما بخصوص اتفاق هدنة أو تهدئة مع النظام السوري من المحتمل أن تشهدها داريا، فأشار أبو جمال إلى وجود اتصالات مع أطراف دولية عديدة بما فيها الأمم المتحدة، إلى جانب أطراف من النظام السوري، لكن دون وجود مفاوضات مباشرة حتى اللحظة.

تدهور الوضع الإنساني في المدينة، وسيطرة قوات الأسد على معظم الأراضي الزراعية، لم يأتِ بين يوم وليلة، كما أفاد كرم الشامي، مدير المكتب الإعلامي في المجلس المحلي لداريا، وتابع “بل كان نتيجة ثمانية أشهر من الاستنزاف البشري والمادي، في معارك لم تهدأ وتيرتها سوى ثلاثة أشهر في بداية (وقف الاعمال العدائية) يضاف إليها أربع سنوات من الحصار والمعارك والقصف المتواصل”.

darya 1وأشار الشامي إلى أن النظام اتبع في حملته الأخيرة سياستي “قضم الجسد” و”الأرض المحروقة”، بحيث يعتمد هذا التكتيك على التقدم التدريجي فيحشد النظام كل إمكانياته في منطقة محدودة، ويقصفها برًا وجوًا، ثم يأتي دور آلياته وكاسحات الألغام لتؤمن دخول القوات، معتمدًا على طيران الاستطلاع، وبإشراف روسي في مراقبة تحركات “الجيش الحر” وتحديد الأهداف.

بدأ النظام حملته العسكرية مع مطلع العام الجاري، وتحديدًا من الجبهة الغربية لداريا، فعمل على إتمام فصل داريا عن معضمية الشام، ثم توجه إلى المنطقة الجنوبية لتضييق الخناق على أهالي المدينة وحرمانهم من الأراضي الزراعية التي تعدّ مصدر القوت الوحيد للمحاصرين، ونجح بذلك ووصل إلى مشارف الأبنية السكنية رغم تصدّي “الجيش الحر” والخسائر البشرية التي تلقتها قوات الأسد.

وأوضح مدير المكتب الإعلامي أن الأحداث الأخيرة دعت سكان المنطقتين الغربية والجنوبية للنزوح إلى المناطق الداخلية وسط داريا، مؤكدًا حسب اطّلاعه أن “ثوار المدينة آثروا في الفترة الماضية التواصل مع الجهات العسكرية والسياسية الفاعلة، لإيجاد حلول تخفف عن المدينة بعيدًا عن ضجيج الإعلام، ولكن الاستجابة كانت دائمًا خجولة وتكاد تكون معدومة”، ومشددًا أن “الجيش الحر مازال يدافع عن المدينة بكل جهده، في ظل خذلان محلي ودولي، لكن داريا تعيش ظروفًا معيشية وعسكرية مأساوية، قد تدفع إلى خيارات صعبة تفرض عليها، ويحاول النظام جاهدًا استكمال السيطرة عليها، مستغلًا الشلل السياسي وغياب المؤازرة العسكرية”.

مدير المكتب الإغاثي في داريا، هيثم أبو مصطفى، تحدث لعنب بلدي عن ظروف معيشية بالغة الصعوبة يعاني منها أكثر من ثمانية آلاف محاصر، لافتًا إلى أن “الوضع الغذائي يزداد تدهورًا، لا سيما بعد فصل المدينة عن معضمية الشام، وسيطرة النظام على المنطقة الجنوبية التي تعتبر سلة غذائية للمحاصرين، إضافة إلى انعدام جميع مقومات الحياة، والخدمات الأساسية من ماء وكهرباء واتصالات منذ بداية الحملة”.

وأبدى أبو مصطفى تخوفه من تركز وجود الأهالي في منطقة محدودة من الأبنية المدمرة وغير الصالحة للسكن “ازدياد ازدحام الأهالي ينذر بكارثة، فقذيفة واحدة كفيلة بارتكاب مجزرة، كما أنه لا توجد أقبية وملاجئ تتسع لجميع الأهالي، الذين لم يعودوا يأبهون بمعايير الأمان في البحث عن مكان للسكن، فغالبية المباني تعرضت للقصف وهي إما مدمرة أو لاقت أضرارًا كبيرة جعلتها غير صالحة”.

13705238_1019637574758744_626789395_n

مساعٍ للحيلولة دون وقوع الكارثة

ورشة عمل حول داريا شهدتها مدينة غازي عنتاب التركية، الجمعة 15 تموز، تمحورت حول ضرورة فك الحصار عن المدينة، وإعادة تفعيل وقف إطلاق النار الذي أقر من قبل المجموعة الدولية بتاريخ 22 شباط الماضي، وكسب تأييد سياسي دولي عن طريق التحالفات السياسية، للضغط على المجتمع الدولي ومجموعة العمل الدولية لدعم سوريا بالاستناد إلى القرار الأممي رقم 2254 وباقي القرارات ذات الصلة، إلى جانب إطلاق حملة مناصرة إعلامية للضغط على الجهات السياسية الدولية والمحلية، والمشاركة بالضغط من قبل الهيئات السورية على شركائها الدوليين المؤثرين، لفك الحصار عن داريا وباقي المناطق المحاصرة.

معتز مراد، وهو ناشط سياسي مستقل مقيم في داريا، قيّم في اتصال مع الورشة، التي حضرتها عنب بلدي، أوضاع مدينته بالقول “لا محاولات جدّية من طرف النظام للتهدئة، حلوله كلها أمنية، نسعى حاليًا لإيقاف الحرب بشتّى الوسائل، فداريا استنزفت بشكل كبير، والحصار يزداد يومًا بعد يوم”، مضيفًا “خسرنا خلال الأشهر الماضية مساحات واسعة تعتبر سلة المدينة الغذائية، الحرب باتت على مشارف المباني السكنية.. الوضع الإنساني بالغ المأساوية.. ثمانية آلاف برميل متفجر، وصل المعدل إلى 60 برميلًا يوميًا”.

ناشطون في الورشة طرحوا حلولًا ومطالبات عاجلة لتدارك ما يحدث في داريا من خلال الضغط على المجتمع الدولي والمعارضة

السياسية والمسلحة، أبرزها “تفعيل وقف الأعمال العدائية وإدخال مساعدات غذائية، وتدخل إنساني بقوات فصل بين مناطق الجيش الحر والنظام السوري، والضغط باتجاه طلب جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي، ومقاطعة مشاورات المبعوث الدولي إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، والضغط على الفصائل العسكرية لتفعيل الجبهات ضد النظام السوري، والسعي إلى إسقاط مساعدات إنسانية وعسكرية، وفي النهاية ضرورة تبنّي المعارضة لبيان موحد يحمل ذات المطالب”.

وبعيدًا عن اجتماع عنتاب، وقّعت نحو 95 منظمة حقوقية ومدنية وإعلامية سورية، إلى جانب 250 ناشطًا وصحفيًا سوريًا، على بيان مشترك، طالبوا من خلاله بالتدخل الفوري من قبل المجتمع الدولي، لإنقاذ المدنيين المحاصرين في مدينة داريا، موضحين أن النظام السوري والميليشيات المساندة له من عناصر “حزب الله” اللبناني والميليشيات العراقية، يسعون للسيطرة على كامل المدينة، من خلال حملة جديدة بدأتها بقصف شديد وتضييق الحصار بشكل أكبر على المحاصرين.

وحذر البيان من أن هذا التقدم “يشكّل خطرًا مضاعفًا على حياة الناس الموجودين داخل داريا، حيث يسعى النظام إلى إبادة من تبقى من المدنيين بغية التطهير العرقي والعبث في التركيبة السكانية”، ولفت الموقعون إلى أنها “المناشدة الأخيرة” قبل فوات الأوان، وجهوها إلى المجتمع الدولي وهيئات حقوق الإنسان والمنظمات الدولية، بما فيها مؤسسات الأمم المتحدة والصليب الأحمر، للتحرك الفوري والعاجل لإنقاذ القابعين تحت الحصار في داريا، وتأمين الحماية وسبل العيش لهم لاستمرارهم بالحياة.

ردود فعل خجولة لا ترقى لحجم الكارثة

ربما لا تشكل داريا أهمية استراتيجية للمعارضة كونها محاصرة منذ أعوام، واتجاه “الجيش الحر” للدفاع عن جبهاتها في وجه الهجمات المتزايدة، وبالتالي انعدام أي تأثير مباشر على النظام السوري في دمشق المجاورة، إلا أن رمزيتها وأهميتها المعنوية لدى السوريين جعلت الناشطين يوجّهون نداءات لـ “الجيش الحر” والمعارضة بشكل عام بضرورة التحرك لإنقاذها.

وتوجه الناشطون بدعواتهم إلى فصائل الجبهة الجنوبية في “الجيش الحر” تحديدًا، باعتبار لواء “شهداء الإسلام” في داريا يتبع لها

من ناحية، ولأهمية فتح جبهات في مواجهة قوات الأسد في المنطقة الجنوبية، وما له من آثار إيجابية بالتخفيف عن المدينة من ناحية أخرى.

وتزامن ذلك مع دعوة محكمة “دار العدل في حوران”، الثلاثاء 12 تموز، الجهات الإعلامية والعشائرية والفصائلية في محافظة درعا لاجتماع عاجل تحت عنوان “نصرة داريا”، حضره رئيس المجلس المحلي لمحافظة درعا “الحرة” يعقوب العمار، المكلف مؤخرًا بوزارة الإدارة المحلية في الحكومة المؤقتة، والشيخ “الشديدي” ممثلًا عن هيئة الإصلاح في حوران، بالإضافة للشيخ عصمت العبسي رئيس المحكمة، إلى جانب عدد من قادة الفصائل المختلفة في درعا.

وناشد المنظمون، الفصائل في درعا لتحريك الجبهات بشكل عاجل لإنقاذ داريا، كما ناقش الحضور حالة الركود العسكري الذي تشهده المحافظة، والذي وصفه رئيس المحكمة بـ “غير المبرر”، وانعكس سلبًا على باقي المحافظات السورية، وبشكل خاص الغوطة الشرقية وداريا وحلب.

تحرك خجول من قبل فصائل المنطقة الجنوبية، جاء عقب مناشدات الناشطين ووجهاء حوران، فأعلن 11 فصيلًا من الجبهة الجنوبية عن إطلاق معركة “هي لله”، الهادفة وفقًا للإعلان إلى تخفيف الضغط عن داريا، واستهدفت حواجز ومواقع قوات الأسد في منطقة “مثلث الموت” بين ريفي القنيطرة ودرعا، لتنتهي المعركة في يوم إطلاقها، الجمعة 15 تموز، دون تحقيق أهدافها.

ما عدا ذلك، لم يرصد في محافظة ريف دمشق والغوطة الشرقية تحديدًا عمليات معاكسة ضد قوات الأسد، والتي تقضم أيضًا مساحات من الغوطة مستغلة الاقتتال السابق بين فصائلها، وحالة الخلاف غير المعلن على الأولويات هناك.

أما على المستوى السياسي، فتبدو الهيئة العليا للمفاوضات، المنبثقة عن اجتماع الرياض لقوى المعارضة، مغيبة عن واقع داريا، فاكتفت إلى جانب الائتلاف المعارض بإصدار بيانات تندد بالحملة الأخيرة، دون إجراءات فاعلة واتصالات مع الدول صاحبة القرار، أو حتى التهديد بتعليق المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة، وهو ما انتقده ناشطون سوريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

إلا أن داريا، باعتبارها “إرثًا ثوريًا”، كان لها حضور واسع عبر الإعلام المحلي والعربي مؤخرًا، إلى جانب إعداد وقفات احتجاجية واعتصامات في محافظات حلب وإدلب وحمص، رفعت لافتات حيّت صمود المدينة، ونددت بالتصعيد الأخير لقوات الأسد، واستنكرت صمت المجتمع الدولي إزاء ما يحدث في محيطها.

darya 3

كيف أصبحت داريا رمزًا بنظر السوريين

منذ أن خضعت داريا لسيطرة “الجيش الحر”، قدّمت نموذجًا مغايرًا لما بدت عليه المناطق “المحررة” في سوريا، من خلال إنشاء مجلس محلي ومكاتب مدنية تسيّر أمور المواطنين فيها، ومكتب عسكري ينضوي تحته فصيلي لواء “شهداء الإسلام” التابع لـ “الجيش الحر، ولواء “سعد بن أبي وقاص” التابع لـ “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام”، وكلاهما يضمّان أبناء المدينة ونسبتهم حوالي 90% من عدد المقاتلين، بالإضافة إلى منشقين عن قوات الأسد من مناطق مجاورة.

خطاب واحد وراية واحدة (علم الاستقلال) خرجت بها داريا خلال الأعوام الأربعة الماضية، دون السماح لتغلغل الفصائلية التي اتسمت بها المدن والبلدات الخارجة عن سيطرة قوات الأسد، فلا وجود لتنظيمات عابرة للحدود بتوجه يختلف عما خرج به المتظاهرون ضد النظام، ولم تسجّل أي حالة اقتتال داخلها بين الفصيلين الرئيسيين، كما أن الخطاب السياسي لمجلسها المحلي اتسم بالوعي السياسي والتوازن في الطرح ونقاش الأمور المصيرية، رغم الضغط الكبير على جبهاتها.منذ أن خضعت داريا لسيطرة “الجيش الحر”، قدّمت نموذجًا مغايرًا لما بدت عليه المناطق “المحررة” في سوريا، من خلال إنشاء مجلس محلي ومكاتب مدنية تسيّر أمور المواطنين فيها، ومكتب عسكري ينضوي تحته فصيلي لواء “شهداء الإسلام” التابع لـ “الجيش الحر، ولواء “سعد بن أبي وقاص” التابع لـ “الاتحاد الإسلامي لأجناد الشام”، وكلاهما يضمّان أبناء المدينة ونسبتهم حوالي 90% من عدد المقاتلين، بالإضافة إلى منشقين عن قوات الأسد من مناطق مجاورة.

كذلك لم تمنع البراميل والأسطوانات المتفجرة والقنابل الفراغية والقذائف المتنوعة، إلى جانب الحصار الكامل، وتركز وجود قوات الأسد في الجبال المحيطة بالمدينة، وحساسية قربها من العاصمة دمشق، “ثوار” داريا من تنفيذ عمليات نوعية ضد قوات الأسد وعدد من الميليشيات المحلية والأجنبية التي تحاول باستمرار اقتحامها، وفشلت جميع المحاولات، التي شهدت زخمًا كبيرًا، في حسم المعركة لصالحها، وتلقت خسائر بشرية قدّرت بالمئات خلال الأعوام القليلة الماضية.

كل هذه المعطيات جعلت ناشطي سوريا يتغنون بداريا، وأطلقوا عليها عدة ألقاب دللت على الرمزية التي اكتسبتها منذ مطلع الثورة السورية “مثلث برمودا، الثقب الأسود، مقبرة الدبابات، عاصمة البراميل المتفجرة..”، وغيرها من الأوصاف التي التصقت بمسمى هذه المدينة الرازحة تحت حصار الأسد.

معارك خاضها الحر” تحت الحصار وكسبها

الثورة السورية “مثلث برمودا، الثقب الأسود، مقبرة الدبابات، عاصمة البراميل المتفجرة..”، وغيرها من الأوصاف التي التصقت بمسمى هذه المدينة الرازحة تحت حصار الأسد.لصالحها، وتلقت خسائر بشرية قدّرت بالمئات خلال الأعوام القليلة الماضية.

رغم المتغيرات الميدانية التي طرأت خلال الأسابيع القليلة الماضية، وحالة الضبابية حول مستقبل داريا، إلا أن ناشطي المدينة والفاعلين فيها يرون في التفاؤل أمرًا لا بد منه، بحسب ما رصدت عنب بلدي من آراء مختلفة داخل المدينة، أجمعت أن لا مكان للتشاؤم في داريا، وأن “الجيش الحر” أثبت في مراحل معقّدة قدرته على صنع “المعجزات” في هذه الرقعة الضيقة جغرافيًا. وهنا نذكر على سبيل المثال ثلاث معارك كسبتها فصائل المدينة باستحقاق وجدارة:

وبشّر الصابرين

بدأ “الجيش الحر” في داريا هجومًا معاكسًا مطلع كانون الثاني 2014، استهدف مواقع قوات الأسد شرق وجنوب المدينة، ونتج عنه إعلان السيطرة على مساحات واسعة في المنطقة، وعدة أبنية استراتيجية كانت تتخذها قوات الأسد مراكز لقيادة عملياتها في المدينة.

أسفرت المعركة عن مقتل نحو 70 عنصرًا وجرح 20 آخرين من قوات الأسد، بينهم ضباط برتب مختلفة من الحرس الجمهوري، وعناصر من ميليشيات أجنبية ومحلية، بحسب بيان صدر عن قيادة المعركة آنذاك، كما تمكن “الحر” من تدمير آليات وعربات ثقيلة للنظام، والاستيلاء على كميات من الأسلحة الخفيفة والمتوسطة.

وإن عدتم عدنا

تمكن مقاتلو “الجيش الحر” في داريا، كانون الأول 2014، من استعادة أبنية سيطرت عليها قوات الأسد سابقًا، وأسفرت العمليات عن مقتل حوالي 33 عنصرًا من قوات الأسد، بينما سقط تسعة مقاتلين من الجيش الحر.

وصرح النقيب سعيد نقرش (أبو جمال)، قائد لواء شهداء الإسلام، لعنب بلدي سابقًا، أن “عملية (وإن عدتم عدنا) رسالة واضحة للنظام، أن مقاتلي الجيش الحر قادرون على التصدي للقوات المهاجمة، وأن عملية التقدم داخل مدينة داريا ليست بالأمر السهل.. أي عملية اقتحام أو تسلل داخل المدينة سيكون فيها مصير مقاتلي الأسد بين قتيل وجريح”.

لهيب داريا

أعلن عن المعركة مطلع آب 2015، وحسمت بسيطرة “الجيش الحر” على منطقة الجمعيات شمال غرب داريا، وقال النقيب أبو جمال في تصريحات سابقة، إن 70 قتيلًا وعشرات الجرحى من الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة سقطوا خلال العمليات، إضافةً إلى عددٍ من الأسرى، بينما لم يفصح النظام عن عدد القتلى بشكل رسمي.

استغرق التحضير للمعركة حوالي سبعة أشهر من الحفر والتجهيز، بحسب بيانٍ مشترك لفصيلي المدينة، واعتبر البيان المعركة “خطوة متقدمة في مشروع فك الحصار عن المدينة وإضعاف قدرات النظام العسكرية في مطار المزة العسكري الذي يقوم بتشريد أهلنا وإلحاق الأذى المستمر والتنكيل بهم، وسعيًا نحو تخفيف معاناة إخواننا المرابطين على جبهات العز والكرامة على أرض سوريا”.

لا تقتصر معارك داريا على الأمثلة أعلاه، فهي تعتبر أكثر المناطق سخونة في سوريا، ويخوض مقاتلوها معارك يومية على جبهاتها، في ظل إصرار النظام على سياسة “القضم” الممنهجة على المحورين الجنوبي والغربي.

 

هدنة على الطريقة الدمشقية” أم خروج آمن؟

تصعب التكهنات حول مستقبل داريا القريب في ظل التطورات الراهنة، فلا يخفي ناشطوها وفصائلها ومجلسها المحلي أن هدنة تتيح لهم البقاء في داريا هي الحل الأمثل، بينما يبدي آخرون خوفهم من مصير مشابه لما حدث في الزبداني أو حمص القديمة.

وخلال ورشة عنتاب، طرحت على العلن ضرورة تنفيذ هدنة مع النظام السوري، على غرار قدسيا وبرزة ومناطق دمشقية أخرى، عاد إليها الهدوء بعدما سلّمت سلاحها الثقيل وسمحت بإعادة افتتاح الدوائر الحكومية فيها، شريطة أن تبقى بيد “الجيش الحر” ويتعهّد النظام بإخراج معتقليها.

لكن النظام السوري بدا واضحًا بتمسكه بالخيار العسكري، واستبعاد أي حلول سلمية وفق أطروحات المجتمع الدولي المتمثلة

بالالتزام بنظام “وقف الأعمال العدائية” أو تلك التي أقرتها موسكو مؤخرًا عبر نظام “تهدئة” في ريف دمشق ومناطق أخرى في سوريا.وخلال ورشة عنتاب، طرحت على العلن ضرورة تنفيذ هدنة مع النظام السوري، على غرار قدسيا وبرزة ومناطق دمشقية أخرى، عاد إليها الهدوء بعدما سلّمت سلاحها الثقيل وسمحت بإعادة افتتاح الدوائر الحكومية فيها، شريطة أن تبقى بيد “الجيش الحر” ويتعهّد النظام بإخراج معتقليها.

وبالعودة إلى المخطط العمراني الذي أقره بشار الأسد عام 2012، والذي يشمل بساتين المزة وكفرسوسة انتهاءً ببساتين داريا، فإن قرارًا مبطّنًا اتّخذ في أروقة النظام الضيقة يقضي بإنهاء الحياة في داريا كليًا، لتصبح بساتينها وجزء من أبنيتها السكنية جزءًا من المخطط التنظيمي، كما ذهب محللون.

ووفقًا لتصريحات سابقة لمدير التخطيط والتنظيم العمراني في محافظة دمشق، خصّها صحيفة “تشرين” الحكومية، فإن المشروع التنظيمي يقسم إلى قسمين، الأول يهدف لتنظيم منطقة جنوب شرقي المزة وبناء 20 ألف وحدة سكنية، بمساحة 214 هكتارًا، والمشروع الثاني لمنطقة جنوب المتحلق الجنوبي بمساحة 880  هكتارًا ويشمل المنطقة الممتدة جنوب داريا والقدم والعسالي ونهر عيشة وبساتين القنوات.

وينطبق هذا المخطط مع ما نفذته آليات الأسد العسكرية خلال الأعوام القليلة الماضية، من تدمير ممنهج لأراضي داريا المجاورة لمنطقة كفرسوسة، من خلال التلغيم المباشر والبراميل المتفجرة، بحسب ما رصده ناشطو المدينة سابقًا، ما يرجّح لجوء الأسد في نهاية المطاف إلى سياسة ترحيل من تبقى من سكانها و”الجيش الحر” فيها إلى مناطق المعارضة شمالًا، في سياسة اتبعها سابقًا في مناطق مختلفة من سوريا، أبرزها أحياء حمص القديمة (أيار 2014) ومدينة الزبداني في ريف دمشق الغربي، أواخر العام الفائت.

“ستبقى داريا نموذجًا فريدًا في الثورة السورية، ولن تشابه أي حالة محلية أو دولية، كما يجمع ناشطو الحراك السلمي، معتبرين أن حصار “ستالينغراد” الروسية من قبل الألمان في الحرب العالمية الثانية لبضعة أشهر، ما هو إلا نزهة أمام صمود داريا أربعة أعوام في مواجهة نظام وضع في خانة نيرون وهتلر وغيرهما ممن نفذوا جرائم ضد البشرية”.

 

المصـــدر

المزيد
من المقالات