انتصرت درعا البلد على قوات النظام السوري والإيراني معاً، ولولا القوات الروسية لحرروا المدينة بأكملها؛ ولا يغير من هذه الحقيقة ما سمعناه، بعد الاتفاق الأخير، أن الأهالي يرفضون الوجود الأمني أو تفتيش البيوت أو تسليم قطع سلاح منزلية إضافية، ويطلبون من الوسيط تأمين طريق للنزوح إلى الأردن أو تركيا، أو أي مكان آمن. “الوسيط” الروسي بين أهل البلاد وقوات الاحتلال الروسي ونظام القمع والنهب في دمشق لم يألوا جهداً في تركيع سوريا ومنها درعا، ولكنه كاحتلال قبل أن يكون وسيطاً، يخوض معركته في درعا وفقاً لأسس التفاوض التي يجريها مع جميع الدول المتدخلة في الشأن السوري، وتحديداً أميركا وإسرائيل وتركيا وإيران، وكذلك بحثاً عن تموقع مستمر في سوريا والمنطقة. وساطته في درعا لكي يوضح للنظام وإيران فشلهما في إحكام السيطرة على تلك المدينة وسوريا من دون إشرافه وتغطيته لأفعالهما إقليماً ودولياً.
انتصرت درعا البلد حينما منعت النظام دخول تلك الأحياء، وحينما ناورت وفقاً لإمكانياتها الشحيحة للبقاء الفيزيائي، وإصرارها على ضرورة تغيير النظام؛ طلبها الأخير بالنزوح يتضمن ذلك الإصرار. التسريبات التي نُشرت عن لسان الضابط الروسي بأن النظام سيعود إلى كل بلدة وحارة توضح سياسة الروس؛ السياسة الداعمة بالمطلق للنظام، والرافضة بالمطلق للمعارضة ولأهل البلاد، وضمن ذلك علينا تأمل دور كل من تركيا وإيران في القبول بخيار أستانا ومناطق خفض التصعيد والتراجع عن القرارات الدولية، وبالتالي إعادة إنتاج النظام، وشطب الثورة وأهلها كذلك، حيث إن التهجير بمنزلة الشطب والإعدام والاجتثاث.
سنتكلم عن دروس درعا، ولو نزح كل أهلها، أو استطاع النظام تدميرها بالكامل وإفناء أهلها! لقد زاوجت بين شبابٍ يقاتل من ناحية، ولجنة مركزية تفاوض، وخضوع الشباب للجنة، أي خضوع العمل العسكري للعمل السياسي، وهو ما فشل فيه المجلس الوطني، والائتلاف الوطني والحكومة المؤقتة واللجنة الدستوري وهيئة التفاوض، حيث لا علاقة فعليه لها مع أية فصائل “وطنية” وأغلب الأخيرات تحولت إلى ميليشيات “وزعران” أو “إسلاميين”، وهذا يتناقض مع الرؤى الوطنية، والثورية، للنهوض بسوريا بأكملها.
نجحت درعا في إبراز قيادة وطنية بامتياز، لم تتخل عن الأرض، وظلت إلى جانب الشعب والفصائل التي تمثلها. هذا عكس رؤية سادت بأوساط المعارضة ومن 2011 بأن مكانها الطبيعي في الخارج! عدم التخلي، سمح لها بالاستقلالية، ورفع عن كاهلها الارتهان للخارج كما في مرحلة غرفة الموك مثلاً، وكذلك منع عنها الإفساد عبر المال، ومختلف أشكال الضغوط، ومنها الترحيل من الدول المجاورة لسوريا. كذلك استطاعت قيادة اللجنة المركزية ضبط رؤية المقاتلين، فلم يتورطوا بأية عمليات انتقامية للجنود والضباط الذين أسروهم في الحصار الأخير لدرعا البلد، منذ أزيد من شهرين.
استطاعت قيادة درعا في الأشهر الأخيرة أن تستوعب جميع التشكيلات المحلية، كالعشائر والفيلق الثامن، ووظفتها من أجل المناورة السياسية مع الوسيط الروسي “المحتل” وحماية المقاتلين والأهالي من الفتك بهم. طبعاً التسريب الصوتي، وموافقة أهل درعا واستمرار النظام وحليفه الإيراني بالحشد على الاتفاق الأخيرة يوضح أن جميع الأطراف لديها أسبابها لتبريد المعركة هناك، ويبدو انتقلنا مجدداً من التبريد إلى الحرب!، وبالتالي هناك ضرورة للتأكيد أن هناك معركة قريبة، وربما تنقلها روسيا وحلفاؤها إلى طفس وسواها، وربما بصرى الشام، وإن كانت الأخيرة تحت “الإبط” الروسي، أي لا ضرورة لاجتثاث الفيلق الثامن حالياً، وربما تعطيه روسيا وظائف جديدة مستقبلا، ولا سيما أن الخلافات مع إيران والنظام ما زالت قائمة، وستتوسع في حال اتفق الطرفان الأميركي والروسي على مسائل جديدة في جولة التفاوض التي ستعقد في هذا الشهر.
شهدنا تحركات متعددة في السويداء، ترفض الحضور الإيراني والنظام، وأصوات تنادي بتقوية العلاقة مع أهل درعا. وهناك الأزمة الاقتصادية العنيفة التي يعيشها سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، وتُضاعف من الأزمة الاجتماعية، والأزمتان تبرزان أزمة النظام الكبيرة، والتي رأينا بعض ملامحها في انفضاض كتلة كبيرة من الموالين عن تأييده ومحاولتها انتقاده والاحتجاج بل والتظاهر ضده. التململ أصبح خطيراً على مستقبل النظام، ولا سيما مع ترسخ مراكز نفوذ الدول المتدخلة، وتراجع الشعور بالخطر الافتراضي من الإسلاميين القادمين “لابتلاع” الأقليات وسكان المدن الرئيسة.
استطاعت درعا أن تقدم دروساً عديدة، وذكرنا بعضها أعلاه. السؤال هنا، ما هي إيجابيات الائتلاف الوطني وهيئة التفاوض واللجنة الدستورية ووفد الائتلاف إلى لقاء الأستانا؟ أي ماذا تفعل المعارضة السياسية؟ وطبعاً لن أُدخل المجلس الإسلامي السوري فيها، حيث لا أجد له مكاناً هناك، بل يفترض أن يعود إلى دوره الديني فقط، ويترك السياسة وشؤون المرأة “والدنيا” والعلاقة بين المعارضة وتركيا وسواها للساسة وللساسة فقط؛ والرأي هذا نسبة للرداءة التي أبلاها في المواقف إزاء ما ذكرنا وقبلها كثير. السؤال يتعلق بماذا تفعل هذه المعارضة إزاء الأزمة الشاملة المتصاعدة في سوريا؟ إن هزال مؤسساتها، والتراجع الدولي والإقليمي عن تأييدها يوضح رداءة سياساتها، وعدم قدرتها على إنتاج مشروع وطني ليس للمعارضة وللثورة فقط، بل ولكل السوريين، ويقويها بآن واحد.
بوضحٍ نقول، إن مهد الثورة لم يتنازل عن موقعه هذا منذ 2011، وتقسيم روسيا لها منذ 2018 “شرقية وغربية”، وضعف “فزعتها” مع درعا البلد مؤخراً، لا يغير من قوة صمود درعا، وأهمية دروسها. تملل السوريين الشديد، من ممارسات النظام والمعارضة والفصائل وقسد وهيئة تحرير الشام، ولا سيما مؤخراً مع تسليمها بعلاقات “قوية” مع النظام عبر السماح للشاحنات بالوصول إلى إدلب من مناطق النظام. المؤشرات السابقة تقول بأن الأوضاع الداخلية في سوريا تحتاج إلى قيادة جديدة، تشبه قيادة درعا البلد، وترفض بشكلٍ قاطعٍ أية فصائل ترتبط بنزوع جهادي أو منفلتة وبعيدة عن التوافق مع القيادة السياسية، وهذا من دروس درعا.
المؤتمرات الأخيرة الداخلية والخارجية لبعض أطراف المعارضة (جود، ومؤتمر السويداء، ومؤتمر استعادة القرار والسيادة) لا تقدم جديداً، يتجاوز الائتلاف، ولا معنى لوجودها من دون تجاوز ذلك الائتلاف وهيئة التنسيق من أصله؛ الحرتقة التافهة بأنها ليست بديلاً عن مؤسسات المعارضة القديمة، توضح هامشيتها وضعف مؤسسيها، و”شلليتهم” وغاياتها القصيرة الأمد. بالسياق ذاته، لم تعد الانتقادات التي يوجهها مثقفون بارزون، للمعارضة وعقليتها وهزالها مفيداً، حيث التكرار يفسد الأفكار ويسمم الأجواء ويعزز الكراهية!
مستقبل سوريا أيها السادة أصبح معقداً للغاية، ولن أكرّر أنّه أصبح بيد الدول العظمى والإقليمي بشكل رئيسي. الجديد أن هناك تحركات داخلية في سوريا، ويمكن أن يُبنى عليها. شروط البناء تتطلب بالضرورة هيئة سياسية وطنية للمعارضة، ويُقَرُ لها بالقيادة ولتحدث باسم المعارضة؛ هل يستدعي ذلك شطب هيئات المعارضة السابقة؟ القضية هذه تتحقق بالتدريج، ومواقف تلك الهيئات يساهم في إبعادها عن قلب السوريين، وبالتالي، الصراع مع النظام يجب أن تقوده فئات سياسية جديدة.
ليست الأوضاع الداخلية فيها الجديد فقط، بل إن التوافق الأميركي الروسي على مسألة المساعدات الإنسانية، وإعلان واشنطن أنها لن تنحسب حالياً من سوريا بعد مغادرتها أفغانستان، ولا تبتغي تغيير النظام السوري؛ أقول هذه معطيات يجب التفكر بها مليّاً، وقد تؤشر إلى جديدٍ على صعيد الحل السياسي، فهل نرى معارضة تقتدي بالقيادة المركزية لدرعا، التي لازمت شعبها، وفي حالة النزوح ستنزح معه.