برعت مدينة سراقب السورية في التعبير عن ثوريتها ومقاومتها لنظام الأسد بطرق مختلفة، الأمر الذي جعلها حاضنة من حواضن الثورة السورية، فالمدينة الصغيرة التي تقع في ريف إدلب شمالي البلاد، اهتمت بإيصال صوتها واحتجاجها عبر ما ترسمه ريشات رساميها على جدران أزقتها أو بيوتها المدمرة، فطائرات الأسد لا تفتأ تكرر قصفها للمدينة وتدمر بيوتها ومرافقها.
بدأت حكاية الجدران في سوريا عندما خط أطفال درعا بعض الكلمات المطالبة بالحرية على سور مدرستهم، فاعتقلهم النظام وتعامل معهم بطريقة وحشية لتكون الجدران بدايةً لصرخة الحرية الأولى، ومع توالي الأيام وتطور الفنون المقاومة للنظام، وظهور الإبداع في طرائق إيصال المعاناة للعالم وتوثيقها، باتت المدن تتسابق بما لديها من فنون، وصار لكل مدينةٍ رسامها الخاص، ليجسد برسوماته الحالة الاجتماعية أو يؤرخ للحالة وللأحداث الجارية.
لم تكن سوريا هي الأولى في إبداع فنون المقاومة، إذ إن الجرافيتي وهو الاسم المشهور للرسم على الجدران، أصبح احتجاجًا عالميًا وبه تصل الأفكار وتتجسد المعاناة، ليصبح أداة مقاومة قبل أن يكون فنًا بصريًا للفنانين ومبهرًا لمن يراه، ولعل أشهر مثال على ذلك جدار الفصل العنصري الذي بناه الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، إذ أصبح لوحةً كبيرةً لرسومات مختلفة وأفكار مميزة تلامس الواقع وتنتفض في وجه الاحتلال، وقد رسم فنانون عالميون عليه لوحاتهم بمن فيهم بانكسي الذي شهد الجدار عددًا من أعظم لوحاته.
لم يكتف الفنانون السوريون بلوحات الجرافيتي لإيصال رسائلهم، فقد أبدع بعضهم بالنقش على القذائف العنقودية والمحرمة دوليًا التي ألقيت على المدن والأحياء الآهلة بالسكان، ولمّا كانت كمية الذخائر كبيرة وأصبحت ملازمةً للسوريين انطلق الإبداع في الرسم عليها ونقشها بنقوشات معينة، لتزيد فنون الثورة السلمية فنًا إبداعيًا يميز الشعب السوري.
جرافيتي الثورة
تبرز فكرة الجرافيتي في إيصال المعلومات أيًا كانت، من أجل ذلك أطلقت المنظمة الإنسانية السورية “كش ملك” منذ شهور في إدلب، مشروعها للرسم على الجدران “سيريان بانكسي”، ويهدف المشروع هذا كما يقول فاروق نشار المدير الإعلامي للمنظمة إلى “نقل صوت الشارع السوري، وإظهار قيم الحرية والعدالة والديمقراطية التي يسعى الشعب السوري لتحقيقها منذ انطلاقة الثورة، وذلك من خلال الرسم للفت أنظار العالم لما يحدث في سوريا من جرائم وانتهاكات لحقوق الإنسان”.
كان هذا المشروع استكمالًا لكثير من المشاريع الفردية التي تستوحي رسوماتها مما يحدث على الأرض، ويمكننا تقسيم الرسومات إلى عدة أقسام وهي جرافيتي الأحداث الجارية ورسائل مكتوبة تحتوي على كلمات تحفيزية مع تمثيل صوري لها والتضامن مع المدن أو ثورات الدول الأخرى أو القضايا العالمية التي تشغل الرأي العام، كما حصل في تضامن لوحات مدينة بنش التي تقع في ريف إدلب مع الصحفي الفلسطيني معاذ عمارنة الذي فقد عينه عندما أصابه جيش الاحتلال الإسرائيلي أو التضامن مع ثورة لبنان بإحدى جداريات سراقب.
النظام السوري من جانبه دأب منذ بداية الثورة على محو الآثار الثورية لكل منطقة يدخلها، إذ كان يهدم كل حائط يرى عليه ما يعبر عن الحرية، كما كان يعتقل أصحاب البيوت التي ترسم عليها تلك اللوحات فيما لو كانت ما زالت قائمة ولمّا تقصف وتستحيل إلى أنقاض.
يروي الرسام السوري والناشط الثوري أبو مالك الشامي لـ”نون بوست”، تجربته التي اشتهر من خلالها عبر رسوماته على جدران مدينة داريا في أثناء حصارها واستمر بعمله بعد تهجيره لمدينة إدلب، يقول الشامي المنحدر من مدينة كفرسوسة في دمشق إنه دخل داريا بعد أن سيطر النظام وبشكل كامل على منطقته ولم يعد هناك أمل لأي عمل سلمي أو ثوري، يضيف الشامي أنه كان يبحث خلال فترة جلوسه في المدينة المحاصرة عن أفكار للتعبير عما بداخله لإيصال الرسائل إلى العالم، ومن هنا بدأت رحلة الرسم على الجدران كما أفاد.
كان أبو مالك يحاول في بدايات الثورة التعبير بكتابة اللافتات والرسم عليها، إلا أن بداية فنّه على الجدران كان في مدينة داريا عام 2014، وهي لوحة لشخص مقاتل يجلس في مقابل طفلة صغيرة تشرح لهذا الشخص عن الحب ومعناه، يقول الشامي عن هذه الصورة إنها “موجهة لكل المسلحين في سوريا”، مشيرًا إلى أن اللوحة وجدها على الإنترنت وأخذ إذن صاحبها باستخدامها للرسم على الجدران المدمرة.
لاحظ أبو مالك أن نجاح هذه الجدارية “فاق توقعاته”، ليبدأ بالتفكير بمشروع رسم موسع أكثر على جدران المدينة المدمرة بعد انتشار الظاهرة في مدن سراقب وكفرنبل بالشمال السوري، إلا أن الشامي واجه تحديات تمثلت بـ”إبداع الأفكار من ذاته”، دون الاستعانة برسم صور مأخوذة من أشخاص آخرين، خاصةٍ أنه لم يدرس الرسم أكاديميًا بل هو مجرد حب لهذا الفن.
بدأ الشامي العمل على رسم صور نابعة من أفكاره وخطها على الجدران، وكانت أفكاره كما يقول “تعالج مشاكل الثورة والحديث عن الصمود والنضال وما يؤمن به ثوريًا”، وعمل الشامي على استخدام أسلوب مبسط ليصل إلى أكبر شريحة ويسهل فهمه، فيروي أن رسوماته أوصلت الرسالة إلى شريحة واسعة داخليًا وخارجيًا وقائلًا: “مواقع عديدة نشرت أعمالي ومنها نيويورك تايمز وصحف عالمية أخرى”.
القذائف.. تحف فنية
إلى ذلك، ولد القمع الوحشي الخانق الذي واجه به نظام الأسد الثورة السورية إبداعات الناس، فالقذيفة التي تقتل الأطفال والنساء لا بدّ أن تصبح لوحةً فنية، كيف ذلك؟ الجواب كان لدى الفنان السوري أكرم أبو الفوز الذي كان يجمع بقايا الصواريخ بأنواعها المتعددة، ويحولها إلى تحفة تضج بألوان الحياة، عبر نقشها والرسم عليها وكتابة عبارات الحرية الأولى التي خرجت ضد بشار الأسد في 2011.
أطلق الفنان السوري على مشروعه اسم “الرسم على الموت”، ويؤكد الفنان أبو الفوز في حديثه لـ “نون بوست” بأن الفن يؤدي رسالته ومقاومته مثل أي عمل آخر في زمن الحرب “مثل المعلم والطبيب والجندي والفلاح” وغيرهم ، وعن مشروعه في الرسم على القذائف يقول “مع مرور الأيام في الثورة السورية وتصدير صور الدماء والأشلاء والدمار وغيرها ، كان لابد لي أن أصدّر شي ترتاح له العيون ولا يكون خارجاً عن نطاق الثورة والحرب ويصل لقلب المشاهد ويقرأ عليه الرسالة دون شعور المتلقي بالإستياء بمناظر قد تكون مؤذية للعين ولكن بنفس الوقت أكون قد أوصلت رسالة هذا الشعب وحبه للحياة ومقاومته كل السبل ليحيا حياة كريمة يتنفس بها الحرية”.
ولأن للثورة طرقٌ ومنعطفات كثيرة وقصص تروي حكايا لم يسمعها أحد إلا في الكتب والأفلام الخيالية التي لا يمكن استدراكها من قِبل العقل البشري، فإن مشروع “الرسم على الموت” أو على مخلفات الحرب كما يقول أبو الفوز كان “بمثابة الحكواتي الذي يروي هذه القصص ولكن بالأسلوب الذي يعشقه المستمع ويتفاعل معه”، موضحًا: “كنت ولم أزل أستثمر كل قضية في هذه الثورة وكل حادثة او موضوع هام فيها لأترجمه عبر الألوان أو نموذج من مخلفات الحرب وأبعث به رسائل هذه الثورة وهذا الشعب الذي قاوم وجاهد وتحمل كل انواع القتل في سبيل أن ينال حريته وكرامته المفروضتين أنها له ومن حقه”،
ويشير أبو الفوز إلى أن أعماله استطاعت “ولو بنسبة قليلة إيصال الصوت من خلال معارض في الكثير من الدول والمدن الأمريكية والأوربية والعربية ومازلت أسعى لأكثر من هذا”.
الأمثلة على الفنون التي رافقت الثورة السورية كثيرة والفنانون الذين سردوا حكاية الثورة كلٌ على طريقته كُثر، إلا أن الفنون البصرية التي تعطي للمشاهد صورة واضحة سهلة الفهم، قد تكون أهم ما يوصل الفكرة ويوثق المعاناة ويسرد الرواية، ليكون الفن من أهم الوسائل المقاومة التي تجعل الريشة والألوان سلاحًا يوثق الحكاية ويحمي تاريخها.