أكثر ما افتقدته بعد التهجير إلى الشّمال كان الياسمين، ليس لأنه أساس في هوية السوري، يتعرّش بدلال على أسوار داره، أو يتسلّق شرفاته لينشر حسنه وشذاه، ولا لكونه ارتبط بالثورة ارتباطاً وثيقاً، حتى سُميت بثورة الياسمين، كناية عن النقاء والقوة والشعبية، وارتباطاً أوثق بالأرض، بل ربما لحالة ودٍّ دائمة، تجعله في الوجدان والذاكرة، عندما يغيب عن أرض الواقع.
هذه الأرض جافة لا تنبت الياسمين!
هكذا أخبروني عندما أتيت، وفعلاً فتّشتُ في كل الأماكن ولم أعثر على شجرة ياسمين واحدة تسقي روحي، لكنني كنت أعذر الياسمين حين لم ينبت هناك، فأرض أحرقت فيها داعش كل معالمٍ للجمال، وقتلت فيها الرّوح، أنّى يتعايش معها الياسمين وكيف له أن يتفتّح؟!
سيتّهمونه بالفتنة، وإغواء الناس، أو يعدمونه ميدانياً بتهمة التوشّح بالبياض، وربّما اعتبروه مرتدّاً كون أوراقه مثل علم الحرية خضراء، وكلها مبررات
ممكنة لرحيل الياسمين، وكيف يبقى والأشجار القديمة القوية باتت رمادية، تراها فتحسّ بأنها مذعورة، إذ شاهدت شيئاً مرعباً، شعثاء الأغصان وكأنها همّت بالهرب والابتعاد ولكنها لم تتمكن، ولا استطاعت أن تغمض أعينها عن صور الإعدامات الوحشية للأبرياء وتقطيع الرؤوس وانتثار الدم، لقد فزعت الطبيعة من الإنسان ففكّرت بالتّخلّي عنه حين تخلى هو عن كونه إنساناً.
حاولت خلال ما يقارب عامين أن أتصالح مع الواقع، وأجلب الزّهور إلى حيث أنا، وقلما كانت تستجيب، وكأن سمّاً أودع في التراب وحكم على الجمال بالموت هنا، مع أن ثلة من الزهر استجابت وتفتحت لتكون الأنس والسلوى ورسالة للمقاومة والبقاء كحال أشباهها القلة من البشر.
لا أنكر أني كنت أستعيد الروح في جولات إلى المناطق المجاورة باتجاه الغرب، حيث ترف الجمال هناك بديع، وحيث الزهر يعرف موطنه، فيتبعثر على السهول والتلال ليخبر الجميع بأن وجوده طبيعي، غير الطبيعي هو انعدامه، ومع ذلك لم أيْئَس من ولادة ربيع جديد حيث أقيم.
طرقتُ أبواب المشاتل بحثاً عن ياسمينة، قالوا لي إنها في حلب، وستقدم إلينا بعد أسابيع، سألت سريعاً إن كانت تحمل زهرها المتفتّح؟ كانت الإجابة نافية، وكنت أفكر كيف بوسعهم احتجاز الياسمين بزهره، هل يريدون أن يضعوه كما وضعوا هذا الشعب في تحدّ جديد؟ اذهب إلى بيئتك الجديدة، قاحلة ربما، مرّ تتار العصر من خلالها ربما، لا يهم كيف تتعايش، هذا شأنك، عِش بعيداً عن أهلك ورفاقك، وتكيّف كما تشاء، أو اطلب الموت تسلم، وحدث أنني لم أعد بل اكتفيت بصبّارة صغيرة جميلة احتفظت بها على مكتبي قرب أوراقي وأقلامي، وقد تركتها تطل على جدارية أعددتها تلخّص عمراً من جداريات الثورة في مدينتي، ولست أدري ما جرى، لكن الصبارة عاشت، وكأنما الثورة أمدتها بروح الحياة.
حلّ ربيع جديد، والربيع عندي مرتبط بشقائق النعمان، والشقائق مرتبطة عندي بالشهداء ودمائهم الزكيّة، ولذلك فكلما حل ربيع شعرتُ بتوقٍ للشقائق، للشهداء، فأفتش عنهم في الطبيعة فلا أجدهم، هنا يتناثر النسرين وبعض الزهر الأصفر، وللخضرة امتداد ساحر، لكن لا حمرة تغزو المكان، وصادف أن خرجت متجهة إلى عفرين لأجد بضعة منها تتجمع بشكلٍ متكاتف لكنه خجول، ما أشبهها بنا!
فكرت لو أنني أحملها وأزرعها في الحقول التي غادرتها، لكنني تذكرت بأن الشقائق لا تُزرع بل تخرج من تلقاء نفسها، تختار البقاء والانتشار والسِّحر والثورة من تلقاء نفسها، إنها تدرك كم للحرية من قيمة، ولذلك فإنها تتمسّك بما تؤمن به، ولذلك احترمت خيارها واستسلمت عن فكرة احتجازها المؤقت.
ذات يوم غيرت الطريق العام وسرت في الأزقة الجانبية، وكانت مفاجأة كبيرة لي أن ألتقي بها، ياسمينة حقيقية، كأجمل
ما يمكن أن يكونه الياسمين، متدلية بهدوء على سور منزل، ساكنة وكأنها لا ترغب بالبوح، ولا ترغب أن يدري بها أحد، تمنيت لو كان للنباتات لغة، ولو أن للأزهار صوت، لسمعت منها حكايات كثيرة، ولأخبرتها بحكايات أكثر اكتظت بها ذاكرتي عنها وعني وعن الرّبيع والثورة والشهداء.
لقد ظلموا الأرض وقالوا بأنها لا تنبت، وظلموا الياسمينة وقالوا بأنها لا تحيا هنا، وظلموني أنا حين طالبوا بأن أكف عن البحث، فهل كان اللقاء مجرد صدفة؟
لا أعتقد!
يقترب نيسان بسحره ليقول الكثير، في الحين الذي يريده العالم أخرسَ عابراً جافاً بلا حياة، لكنه يخالف توقعاتهم، ويأتي أجمل من نيسان الذي مضى، وكأنه يؤكد بصوتٍ واضحٍ لا يحتمل الشّك أن الربيع لا يُقتل، ولا يُصادر، ولا يفنى، بل يستمر لتغدو في كل زهرة منه رسالة وفكرة، لتغدو الزهرة بحد ذاتها ثورة.