كان عام 2014 ثقيلًا جدًا على ثورة سوريا منذ بدايته، فهو العام الذي شهد ظهور تنظيم داعش، ومن ثم اندلاع المواجهات بينه وبين فصائل الثوار، حتى تمكن التنظيم من احتلال كل المناطق التي سبق للثوار تحريرها شرق سوريا، إضافةً إلى معظم مناطق الشمال السوري المحرر حتى ريف حلب الشمالي غربًا، الذي نشأ فيه خط رباط طويل يفصل التنظيم عن المناطق المحررة في شمال سوريا وشمالها الغربي، حيث شهد هذا الخط معارك ضارية كان أبرزها “نهروان الشام” التي أطلقها الثوار في أغسطس/آب لتحرير ريف حلب الشمالي وأجزاء من ريفه الشرقي، لتمتد المعركة على مرحلتين لم يتمكن فيهما الثوار من تحقيق أهدافهم، لكنهم تمكنوا من لجم التنظيم عن تمدده في المنطقة.
بينما كان ثوار الغوطة الشرقية أشد حزمًا مع التنظيم منذ بداية انتشاره فيها، حيث نفذوا أواسط عام 2014 عمليةً واسعة بقيادة “جيش الإسلام” اجتثوا فيها التنظيم من الغوطة ككل، تمكن التنظيم من حجز مساحةٍ خاصة به ضمن كتلة “جنوب دمشق” المحاصرة أساسًا، أما في القلمون ودرعا فقد شكل ثوار الشرقية الذين أجبرهم التنظيم على الانسحاب من أرضهم باتجاه الجنوب عاملًا مساعدًا في الحملات التي شنها ثوار المنطقتين ضد جيوب التنظيم التي كانت لا تزال منتشرة فيهما، حتى اقتصر وجود التنظيم فيهما على مناطق يحاصرها الثوار.
شكلت خسارة الثوار للمنطقة الشرقية في سوريا ضربةً قاسيةً لخريطة انتشارهم وعائقًا كبيرًا أمام أي خطط إستراتيجية – كان وقتها قد أزف – للعمل على معارك كبرى على مستوى البلاد، ففي هذه الفترة كان ثوار سوريا قد دخلوا مرحلة تنسيق عالية بين تشكيلاتهم في مناطق البلاد المختلفة، لكن دون جدوى بعد احتلال داعش للمنطقة الشرقية التي مثلت عقدة وصل الشمال بالجنوب، لتتحول المناطق المحررة منذ أواسط عام 2014 إلى جزر متباعدة.
تمدد النظام
سمح تشكيل تنظيم داعش ومن ثم بدئه معارك احتلال المناطق المحررة لقوات نظام آل الأسد بالاستفادة من تشتت جهود الثوار على جبهتين، فانطلقت قوات النظام رفقة الميليشيات الشيعية الطائفية التي باتت – مع قوات الحرس الثوري الإيراني – منذ أواسط عام 2013 الفاعل الأبرز ضمن صفوفها تشن معارك تزايدت ضراوتها ضد المناطق المحررة لاحتلالها، وانقلب ميزان المواجهات في سوريا الذي غلب عليه طوال عامي 2012 و2013 تمدد الثوار وانكفاء قوات النظام، لتصبح المواجهة منذ أواسط عام 2014 دفاعيةً بشكل أساسي بالنسبة للثوار.
مع بدايات عام 2015 باتت العديد من المناطق المحررة إما ترزح تحت ضغطٍ عسكري هائل، أو محاصرةً لا تكاد تملك الغذاء لقاطنيها، حيث توسعت رقعة المناطق المحررة المحاصرة التي كانت تضم غوطة دمشق الشرقية وأحياء جنوب العاصمة ومدينة داريا، مع حي الوعر في مدينة حمص وريفها الشمالي، لتشمل في رمضان الثورة الخامس عام 2015 بلدتي “مضايا والزبداني” في ريف دمشق على الحدود السورية اللبنانية، فيما كان الشمال السوري يعيش نوعًا مختلفًا من المواجهات.
توحش جبهة النصرة
بعد خروج تنظيم داعش من رحم جبهة النصرة في سوريا واستئثاره بمعظم قوة الأخيرة عددًا وعدة في الشمال السوري، انكفأت جبهة النصرة على نفسها في مقراتها القليلة المتبقية بين يديها، منتظرةً فرجًا ما جاء على أيدي الجيش السوري الحر الذي قاد معركة تطهير الشمال من تنظيم داعش، لتستعيد “النصرة” شيئًا من وجودها فيه وإن كان متواضعًا خاصة بعد تمكن داعش أواسط عام 2014 من السيطرة على المنطقة الشرقية في سوريا، التي كانت تعتبر الرافد المالي الأهم للنصرة، بسبب سيطرتها على عدد من آبار النفط فيها، لتصبح الجبهة في وضع حرج كانت تبحث فيه عن مخرج!
آنذاك شهد الجيش السوري الحر انتعاشًا في مكانته بالشمال السوري بعد تمكنه من طرد داعش من الشمال في وقتٍ عجزت فيه الفصائل الإسلامية عن مواجهته، حيث برزت في إدلب “جبهة ثوار سوريا” بقيادة جمال معروف كأبرز فصائل المنطقة العسكرية، التي كانت تسيطر على مناطق واسعة في جبل الزاوية وعلى الحدود السورية التركية شمال إدلب، مستفيدةً من الحدود عبر عدد من معابر التهريب التي كانت توفر رافدًا ماليًا جيدًا لها.
وضعت جبهة النصرة عينها على المنطقة التي يسيطر عليها “ثوار سوريا” طمعًا في رافد مالي ينتشلها من ضعف مواردها، واستثمارًا لظرف دولي مناسب كانت تركيا تحب أنْ تنتهي فيه “جبهة ثوار سوريا”، لتنفِذ النصرة عملية واسعة بحجة تجاوزات الجبهة بحق المجاهدين والمدنيين، تمكنت فيها من إنهائها في الشمال السوري في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014، مسيطرةً على كامل معاقلها ومعيدةً فتح معابر التهريب على الحدود السورية التركية بضرائب وفرت لها ما أرادت.
دقت تحركات جبهة النصرة ناقوس خطر عند فصائل حلب التي استشعرت إعادة إنتاجٍ لنهج داعش في المناطق المحررة من خلال حملات النصرة، ليتنادى ثوار حلب وريفها أواخر ديسمبر/كانون الأول عام 2014 لتشكيل “الجبهة الشامية” التي تعتبر أكبر اندماج لتشكيلات عسكرية في الثورة السورية، حيث انضمت تحت رايتها غالبية تشكيلات حلب وريفها من الجيش السوري الحر بل والفصائل الإسلامية، ولم يخرج عن هذا الاندماج إلا جبهة النصرة وبعض مجموعات حركة أحرار الشام في حلب، إضافة إلى حركة حزم من مرتبات الجيش الحر المنتشرة في ريف حلب الغربي وإدلب الشمالي، مع مجموعات متفرقة صغيرة أخرى، في حركة كان هدفها الأول ردع النصرة عن أي تحرك ضد إحدى مكونات الشامية.
لتتحرك جبهة النصرة بعد إغلاق الباب أمامها عن أي تحرك استئصالي ضد تشكيلات الشامية في حلب، باتجاه اجتثاث التشكيل الوحيد خارجها، خاصة مع الرعاية الأمريكية المباشرة لحركة حزم، والرغبة التركية في تصفية الوجود الأمريكي في الشمال، لتبادر النصرة بعد أشهر من المواجهات ذات الطابع الأمني مع الحركة، إلى عملية اجتثاث واسعة استهدفت معاقلها الأساسية في ريف حلب الغربي، وخاصة “الفوج 46″، ورغم محاولة الشامية التدخل لردع النصرة، فإن تخلخل صفوفها الداخلية منعها من ذلك، لتتِم النصرة حملتها باجتثاث حزم بعد مواجهات دامية، اضطرت الحركة على إثرها لحل نفسها نهاية فبراير/شباط 2015.
المد السلفي من جديد
في سبتمبر/أيلول تلقت حركة أحرار الشام الإسلامية ضربة قاسية باغتيال الصف الأول من قادتها المؤسِسين ضمن عملية أمنية لم يعرف المسؤول عنها حتى اليوم، وذلك بعد مراجعات كبيرة للحركة خرجت فيها أصوات بعض قادتها إلى العلن تتبرأ من نهج السلفية الجهادية، فيما يبدو استمرارًا لنهج انكفاء المد السلفي في الثورة الذي أسس له تطهير الشمال من تنظيم داعش مطلع عام 2014.
لتأتي عملية الاغتيال تلك تقويضًا لمسار تغيير توجهات الحركة، فعاد نفسها السلفي الجهادي للظهور هويةً لها في بدايات عام 2015، خاصة بعدما دخلت ضمن تحالف جيش الفتح في مارس/آذار عام 2015، الذي تشكل في محافظة إدلب وأرياف حماة الشمالية وأجزاء الساحل السوري المحررة في الشمال، من تحالف 3 مكونات أساسية هي: (جبهة النصرة – حركة أحرار الشام – فيلق الشام) إضافة إلى تشكيلات أخرى غلب عليها الطابع السلفي الجهادي.
ورغم أن فيلق الشام يعتبر ذا توجه إسلامي بعيد عن السلفية الجهادية وكامتداد لفكر الإخوان المسلمين، ورغم تشكله أساسًا من مجموعات وتشكيلات الجيش الحر، فإنه بلا شك كان أحد دعائم جيش الفتح الأساسية بما امتلكه من دعم تركي سمح له بامتلاك تذخير مميز، خاصة أنه تكوّن بمركزية سياسية وليس نواةً عسكرية مناطقية على طريقة معظم تشكيلات الثورة السورية.
بدأ جيش الفتح فور تشكيله معركة تحرير محافظة إدلب، في أول عملية تحرير واسعة ضد نظام آل الأسد منذ عامين تقريبًا، تمكنوا فيها بعد مواجهات شرسة من السيطرة على المحافظة بشكل كامل، باستثناء قريتي “الفوعة وكفرية” ذاتا الأغلبية الشيعية أساسًا واللتين تحولتا إلى معسكرٍ لميليشيات نظام آل الأسد منذ بدء معارك التحرير في الشمال السوري.
غرفة عمليات فتح حلب
لم تعمِّر الجبهة الشامية كثيرًا كتشكيل يضم فصائل حلب وريفها، لينهار الاندماج وتعود معظم مكوناته إلى تشكيلاتها الأساسية في مارس/آذار عام 2015 بعد ثلاثة أشهر على تشكيله، لتحتفظ الجبهة الإسلامية في حلب وريفها – التي تعد وريث لواء التوحيد – باسم الجبهة الشامية، فيما شكل صدمةً كبيرة لمعظم ثوار الشمال، خاصة مع النجاح الكبير الذي حققه “جيش الفتح” في تحرير محافظة إدلب، وبروز أصوات أعادت إلى الأذهان أجواء عام 2013، التي كانت تتهم فيها فصائل الجيش الحر بـ”التخاذل” مقابل تمجيد الفصائل الإسلامية – السلفية خاصة – فيما شكل تمهيدًا لحملة داعش آنذاك، وفيما هدد بحملةٍ مشابهة لجبهة النصرة بعد تحرير إدلب، التي سبق لها اجتثاث فصيلين من كبرى تشكيلات الجيش الحر في الشمال، وهو ما دفع فصائل حلب وريفها لتشكيل غرفة عمليات فتح حلب في أبريل/نيسان عام 2015، بقيادة من فيلق الشام الذي أمن التذخير الأساسي للغرفة، وبهدف واضح في اسمها وهو تحرير حلب، فيما بدا محاولةً مدعومةً تركِيًا لإخراج الشمال عن سيطرة نظام آل الأسد والإيرانيين.
بدأت غرفة عمليات فتح حلب منذ تشكيلها التخطيط لتحرير مدينة حلب ومحيطها من نظام آل الأسد، وتم حشد الأعداد والذخائر للمعركة الفاصلة التي كان شهر رمضان موعدًا شبه معلنًا لها، إلا أن اجتياحًا واسعًا غير مسبوق بدأه تنظيم داعش للسيطرة على ريف حلب الشمالي أواخر مايو/أيار قوض تلك الجهود، حيث وصل التنظيم إلى مشارف مدينة إعزاز مقتربًا من احتلالها واحتلال معبر باب السلامة الحدودي مع تركيا، الذي يعتبر رئة حلب وريفها الشمالي.
ليقضي الشمال السوري رمضان الثورة الخامس في معارك ضارية استمرت حتى نهاية العام، تمكنوا فيها من صد تقدمه بعد أن استنزفت تشكيلات فتح حلب معظم ذخائرها في صد الاجتياح، فضلًا عن استشهاد عددٍ من نخبة القادة العسكريين في حلب وريفها، لتنتهي بهذا فرصة الثوار الأخيرة لتحرير الشمال بشكل كامل.
استمرت المعارك ضد تنظيم داعش حتى أواخر عام 2015، تمكن فيها الثوار من تثبيت جبهة المواجهة ضده في ريف حلب الشمالي، إلا أن تحولًا جديدًا طرأ على خريطة الأحداث منعهم من التقاط أنفاسهم وترميم صفوفهم، ففي أواخر العام دخل الجيش الروسي بشكل مباشر إلى جانب نظام الأسد وإيران في معركتهما ضد الثوار.
حيث بدأ الروس أولى عملياتهم العسكرية الواسعة في سوريا في ريف حلب الجنوبي، ووجد ثوار الشمال أنفسهم في مواجهة مباشرة مع ثاني أقوى جيش في العالم، إضافة إلى جيشي دولتين أخرييْن وعشرات الميليشيات الشيعية الطائفية متعدِدة الجنسيات.
لتدخل الثورة السورية مرحلة مختلفةً تمامًا، تبدلت فيها المواقف الدولية بشأن الملف السوري، وكان على الشعب السوري فيها أن يعيش مرارة التهجير ضمن واحدة من أكبر عمليات التغيير الديمغرافي في العصر الحديث.