مع انتهاء عام 2015 كانت الثورة السورية قد تمكنت رسميًا من هزيمة عدوٍ آخر من أعدائها المتكالبين عليها، ففي أواسط عام 2013 وبعد عجز نظام آل الأسد عن مواجهة الثوار بفتات سلاحهم، دخلت إيران المواجهة إلى جانبه بحرسها الثوري وبعشرات الميليشيات الشيعية الطائفية متعددة الجنسيات، من لبنان والعراق وأفغانستان تحت قيادتها، في إعلان رسميٍ عن هزيمة نظام آل الأسد، لتصبح هذه الميليشيات منذ ذلك الحين عماد قوات نظام آل الأسد وقوته الضاربة في مواجهة الثوار.
ولعامين تليا حاولت إيران حسم الأمور في سوريا لصالح نظام آل الأسد دون جدوى، بل بدا أن الثوار تمكنوا أخيرًا من امتصاص صدمة دخولها المواجهة، فتحولوا في النصف الأول من عام 2015 إلى الهجوم مرة أخرى، رغم وقوع عدد من المناطق المحررة تحت حصار خانق في محيط العاصمة دمشق وفي حمص، حيث تمكنوا بعد تأسيس “جيش الفتح” في مارس/آذار عام 2015 من تحرير محافظة إدلب شمالي غربي سوريا، في أول عملية تحرير واسعة شهدتها البلاد منذ مدة، بل وكادوا أن يحرروا محافظة حلب بشكل كامل مع انتهاء النصف الأول من العام، بعد تأسيس “غرفة عمليات فتح حلب” في أبريل/نيسان، لولا اجتياح تنظيم داعش ريف حلب الشمالي، مستنزفًا عُدة فصائل الثورة فيها وأعدادها في صده على امتداد النصف الثاني من عام 2015.
روسيا تعلن هزيمة إيران في سوريا
جاءت عمليات الثوار في الشمال واقترابهم من إخراجه بشكل كامل عن سيطرة نظام آل الأسد والميليشيات الإيرانية، تنبيهًا لروسيا التي تعد منذ انطلاق الثورة السورية أكبر داعمي النظام سياسيًا وعسكريًا من خلال الإمداد، ليبدأ الحديث بشكل جدي عن دخول ثاني أقوى جيوش العالم إلى المواجهة في سوريا برفقة جيشي نظام آل الأسد وجيش إيران (ممثلًا بفيلق قدس والمليشيات المختلفة التي زجتها طهران بسوريا) اللذين اقتربا من الهزيمة.
ثم كان شهر سبتمبر/أيلول عام 2015 الذي بدأ فيه “جيش الإسلام” في الغوطة الشرقية ملحمة “الله غالب” لتحرير السلاسل الجبلية المحيطة بالغوطة والمشرفة على أوتستراد “دمشق/حمص” الدولي، الذي يعد أهم الطرق الواصلة إلى العاصمة دمشق، حيث تمكن الثوار خلال المعركة من السيطرة على الطريق والجبال في عملية خاطفة تعتبر واحدة من أكبر معارك الثورة السورية التي قلبت الموازين في العاصمة بشكل كلي.
وهو ما دفع موسكو للدخول بشكل مباشر إلى المواجهة في سوريا، من خلال أسراب طيرانها التي صبت حممها صبًا ليس على المواقع التي سيطر عليها الثوار حديثًا فحسب، بل وعلى مدن وبلدات الغوطة الشرقية وسكانها المدنيين، مُجبرة الثوار على الانسحاب من الجبال والمواقع التي تقدموا عليها، ومُفشلة معركتهم التي كادت أن تُخرج العاصمة عن سيطرة النظام، بحسب تصريح وزير خارجية روسيا لافروف الذي قال: “لولا دخول روسيا في المعركة لسقطت دمشق خلال أسبوعين”! مُعلنًا بشكل رسمي هزيمة إيران وجحافلها من الميليشيات الطائفية متعددة الجنسيات في سوريا على أيدي الثوار.
الجيش الروسي
رغم أن الحجة التي دخلت بها روسيا إلى سوريا دوليًا كانت قتال تنظيم داعش، فإن خط عملياتها اللاحقة أوضح أن الهدف الحقيقي لهذه العمليات هو حماية نظام آل الأسد من السقوط بأيدي ثوار سوريا، فكانت عمليتهم الأولى هي إفشال معركة الثوار للسيطرة على دمشق، ليبدأوا بعدها إعادة هيكلة قوات نظام آل الأسد تحت قيادتهم المباشرة، إضافة إلى تنظيم عمل الميليشيات الإيرانية بالتنسيق مع قوات جيش النظام، وذلك للتوجه إلى الشمال السوري الذي سبق للثوار فيه التمدُد وتحرير مساحات واسعة.
فبدأوا في أواخر أكتوبر/تشرين الأول بعد شهر تقريبًا على إفشالهم معركة “الله غالب”، اجتياحهم لريف حلب الجنوبي الذي يُمثل خط الدفاع الأساسي عن الشمال السوري وعاصمته حلب، حيث استمرت المرحلة الأولى من العملية 27 يومًا، واجهت فيها الفصائل التي كانت تمتلك قطاعات رباط في المنطقة الحملة الروسية دون أن تستطيع أكثر من تأخير تقدُمها، حيث كانت القدرات النارية الهائلة لطيران وصواريخ روسيا حاسمةً في المعركة، التي تولت جانبها الأرضي من العمليات قوات نظام آل الأسد المعاد هيكلتها مع الميليشيات الإيرانية، خاصة أن فصائل حلب كانت مُنهكةً ومُستنزفةً آنذاك بعد المعارك الضارية التي خاضتها في ريف حلب الشمالي ضد تنظيم داعش لأشهر خلت.
ثم وبعد مرور شهرٍ تقريبًا على انطلاق العمليات، توافدت المؤازرات تباعًا إلى المنطقة من مختلف فصائل الشمال السوري، حيث كان لتشكيلات “جيش الفتح” ولكتائب ريف حلب الغربي من الجيش الحر (كتائب ثوار الشام وجيش المجاهدين)، دور بارز في إيقاف التقدم الروسي، بل وتنفيذ عددٍ من العمليات العسكرية مطلع عام 2016، تمكنت فيها من استعادة السيطرة على عدد من المواقع الإستراتيجية التي خسرتها في المواجهة مع روسيا، خاصة بعد فراغ ريف حلب الجنوبي من سُكانه، الأمر الذي أفقد الروس سلاحًا مهمًا طالما عوّلوا عليه في معارك سوريا، وهو سياسة الأرض المحروقة والاستهداف المباشر للمدنيين، وبات واضحًا أن ما قبل دخول روسيا إلى سوريا، لن يكون أبدًا كما بعدها.
عزل ريف حلب الشمالي
كانت حلب بدايات عام 2016 تعيش أصعب أيامها منذ تحرير الثوار لقسمها الشرقي أواسط عام 2012، حيث كان ثوارها يقاتلون في ريف حلب الجنوبي جحافل روسيا وإيران، في الوقت نفسه الذي كان فيه تنظيم داعش يكثف عملياته على ريف حلب الشمالي، وبالتزامن مع محور آخر تحرك فيه الإيرانيون شمالي المدينة، حيث كررت الميليشيات الإيرانية عمليتها البرية التي حاولت فيها قبل عام في مارس/آذار عام 2015 فك الحصار عن بلدتي نبل والزهراء المُحاصرتين شمال حلب، التي أفشلها الثوار آنذاك بعد أن أسروا عشرات المرتزقة من جنسيات مختلفة، لتكرر إيران العملية نفسها في فبراير/شباط عام 2016 لكن هذه المرة بغطاء ناري من الطيران الروسي، وبمشاركة ميليشيات قسد!
انطلقت ميليشيات إيران من جبهة باشكوي شمال حلب في محور أفقي تقدم شرقًا باتجاه نبل والزهراء، بالتزامن مع اجتياح ميليشيات قسد لقرى وبلدات ريف حلب الشمالي الملاصقة لمنطقة عفرين شرقًا في محور موازٍ ومعاكس لمحور إيران تحرك شماله، ليتمكن المحوران من السيطرة على مساحة واسعة من ريف حلب الشمالي كان ضمنها بلدة “تل رفعت” التي احتلتها قسد، وبلدتا “نبل والزهراء” التي دخلهما الإيرانيون.
وقبيل رمضان الثورة السادس في مايو/أيار عام 2016 بدأ تنظيم داعش عملية واسعة استهدفت السيطرة على ما تبقى من ريف حلب الشمالي الذي بات معزولًا عن المناطق المحررة في الشمال السوري، مُتمكنًا من احتلال قريتي كفر كلبين وكلجبرين مطبقًا الحصار بشكل كلي على بلدة مارع، التي استبسل أبناؤها بالدفاع عنها لمدة أسبوعين حاول فيهما التنظيم احتلالها دون أن ينجح في ذلك، قبل أن يتمكن الثوار من فك الحصار عنها في أول أسابيع شهر رمضان، وذلك بعد غارات جوية نفذها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية دعمًا لهم.
ليصبح ريف حلب الشمالي المُحرر جزيرةً معزولةً، تُحاصرها داعش شرقًا وقسد غربًا وإيران مع نظام آل أسد جنوبًا.
حصار حلب
بعد تمكن إيران بدعم روسي من عزل ريف حلب الشمالي عن مدينة حلب وأجزاء من القرى والبلدات الملاصقة لها شمالًا، انطلقت عملية حصار المدينة التي قادتها روسيا بالاشتراك مع ميليشيات إيران وقوات نظام آل الأسد للسيطرة على “طريق الكاستيلو”، المنفذ الوحيد للقسم المُحرر من المدينة، وذلك بالتنسيق مع ميليشيا قسد الموجودة في حي الشيخ مقصود الذي يشرف على طريق الكاستيلو.
حيث تمكن المهاجمون من السيطرة بشكل كامل على الطريق، وإطباق الحصار على المدينة في شهر يوليو/تموز من عام 2016، بعد أيام من انقضاء شهر رمضان المبارك الذي شهد ذروة المعارك الضارية في مخيم حندرات ومعامل الشقيف ومزارع الملاح والسكن الشبابي على مشارف المدينة، التي حاول فيها ثوار المدينة والريف تأخير حصارها لإدخال أكبر كم من الذخائر والمواد الغذائية إلى قسمها الشرقي المُحرر استعدادًا لمعركة حصار طويلة.
مع إطباق الحصار على القسم المُحرر من مدينة حلب، بدأ ثوار الشمال السوري التحضير لمعركة مفصلية، يحاولون فيها كسر الحصار عن ما يقارب 300 ألف مدني مُحاصر في الأحياء الشرقية، بينما برزت ملامح تحالف دولي جديد بشأن الملف السوري أضلاعه الثلاث هي (روسيا – تركيا – إيران).