بعد ضغوط غربية ودولية، وتحذيرات من الأمم المتحدة، والكثير من التقارير التي صدرت عن منظمات إنسانية، وقمّة روسية – أميريية، لم تستخدم روسيا الفيتو ضد مشروع لمجلس الأمن الدولي لتمديد عمل آلية نقل المساعدات الإنسانية إلى شمال سورية عبر الحدود مع تركيا، ووافقت على إبقاء معبر “باب الهوى” مفتوحًا لمدة سنة أخرى بشكل مشروط، وهو المعبر الوحيد الباقي على قيد العمل، بين سورية وتركيا، ويُعتبر شريان الحياة لأكثر من أربعة ملايين إنسان يعيشون في شمال غرب سورية، بعيدًا عن سلطة النظام السوري.
لم تُمرر روسيا المشروع بسهولة، فقد اشترطت أن يعرض الأمين العام للأمم المتحدة بعد مرور 6 أشهر تقريرًا حول عمل آلية نقل المساعدات الإنسانية هذه، وهو ما يُتيح لها بعد ستة أشهر أن تعيد المطالبة بإغلاقة من جديد إن كان لديها استراتيجية حصار للمعارضة السورية شمال غرب سورية.
رحبت الأمم المتحدة بالموقف الروسي، وشددت على أنه سيسمح بتلبية احتياجات الشعب السوري الإنسانية، كما رحّبت الولايات المتحدة بالقرار وقالت إنه “من المهم أن الولايات المتحدة وروسيا استطاعتا التوصل إلى اتفاق حول مبادرة إنسانية تخدم مصالح الشعب السوري”، وأعربت عن أملها أن يستمر “العمل المشترك مع روسيا حول سورية” لأن هذا الموضوع “نقطة مهمة” في العلاقة بين البلدين، واعتبرت أن الموافقة الروسية أظهرت ما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة مع روسيا في العمل الدبلوماسي لتحقيق أهداف مشتركة.
كانت موسكو مُصرّة على أن يُغلق هذا المعبر، ويتوقف تدفق المساعدات منه إلى المناطق التي ما زالت خارج سيطرة النظام السوري، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في وقت سابق إن بلاده سوف تستخدم الفيتو في مجلس الأمن ضد القرار لإغلاق هذا المعبر، وأبدى إصراره على “تسليم المساعدات عبر خطوط النزاع داخل البلاد”، وهذا يعني من الناحية العملية تسليم المساعدات الدولية للسورييين عبر النظام ومعابره كي يقوم بتوزيعها وفق ما يشاء وبمعرفته ورضاه، ما سيحرم بشكل مؤكد كل من يقيم في مناطق لا تخضع لسيطرته، وخاصة الشمال السوري الذي بات يضم نحو أربعة ملايين سوري منهم 2.6 مليون من النازحين من مناطق أخرى من سورية هربًا من بطش النظام وحربه.
تذرّع لافروف بأن موسكو تشهد محاولات لعرقلة وصول قوافل المساعدات الإنسانية المُرسلة عبر دمشق من قبل الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر إلى شمال غرب سورية، وأن “هيئة تحرير الشام” وأنقرة، تُعيقان وتمنعان دخول هذه المساعدات، وهو أمر لم يلمسه سكان شمال سورية، ولا القائمون على المنظمات الإغاثية، الذين يقولون إن شمال غرب سورية لا يتلقى أي مساعدات عبر النظام السوري، وأن كل ما يمكن أن ترسله الأمم المتحدة يُصادر من قبل النظام ويُوزّع على المناطق الموالية له. وأنه لا إرهابيين يوقفون المساعدات كما يدّعي سفير روسيا لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا.
خلال الشهرين الأخيرين، طالبت دول أوربية والولايات المتحدة بضرورة تجديد الآلية الحالية لدخول المساعدات عبر باب الهوى، وكانت هذه النقطة على جدول أعمال مباحثات روسية – أميركية، منها اجتماع للافروف مع نظيره الأميركي أنطوني بلينكن في أيار/ مايو 2021، وقمة الرئيسين الأميركي جو بايدن والروسي فلاديمير بوتين التي انعقدت في جنيف في حزيران/ يونيو الماضي، حيث شكلت المساعدات نقطة أساسية على جدول أعمال، وتوقّع كثيرون أن هذه الاجتماعات ستنتهي إلى اتفاق حول هذه المسألة، لكن لم يصدر من الروس ما يوحي بذلك، رغم أن الرئيس بايدن قال خلال مؤتمر صحفي، إنه أكد لبوتين الحاجة الملحة للحفاظ على الممرات الإنسانية، وإعادة فتح المعابر المغلقة في سورية، لإدخال “مجرد طعام بسيط، وضروريات أساسية لمن يتضورون جوعًا حتى الموت”.
تعرف روسيا أن لدى الولايات المتحدة بدائل لإدخال المساعدات إلى مناطق المعارضة السورية فيما لو أصرّت على إغلاق معبر “باب الهوى”، وهي تحاول الضغط على المجتمع الدولي بالكلام، لكنها رضخت لأن البديل سيكون برعاية أميركية، ولا يمكن لفيتو أن يُعرقله أو يمنعه، ومن الواضح أن الرئيس بايدن لم يضغط على الرئيس بوتين لأن بيده بدائل أولًا، ولأنه يريد أن يكون هذا الأمر اختبارًا لمدى تجاوب بوتين مع رغبات الإدارة الأميركية الجديدة، ومدى رغبته بأن يتقرب منها ويصنع علاقة جديدة متوازنة.
كانت إدارة بايدن تريد اختبار روسيا، ومن المرجح لو رفضت روسيا التماشي مع رغبة الولايات المتحدة، أن تقطع الأخيرة قنوات الحوار التي بالكاد بدأت مع موسكو، كما أن روسيا لا تريد إغضاب الشريك التركي، لذلك كان من المهم بالنسبة لها أن تميل مع التيار وتقبل بحل وسط، مرضٍ لكل الأطراف.
يذهب بعض المعارضين السياسيين السوريين إلى التأكيد بأن موافقة روسيا على القرار، وسماحها بإبقاء معبر باب الهوى مفتوحًا، وعدم استخدام الفيتو الذي هددت به، سببه حصولها على وعود بفتح معبر داخلي بين مناطق النظام ومناطق المعارضة، بإشرافها، وهذا يعني إعادة إحياء اقتصاد النظام، علاوة على وجود وعود أميركية بتخفيف العقوبات المفروضة على النظام السوري وفق قانون “قيصر”.
يمر عبر معبر “باب الهوى” ألف شاحنة شهريًا، فيها غذاء ومياه نظيفة وإمدادات طبيّة لمن همّ في أمسّ الحاجة إليها، وإغلاقة وفق المنظمات الإنسانية، سيعرّض مئات الآلاف من السوريين للموت، وتشدد هذه المنظمات على أن بقاء المعبر هو “قضية إنسانية وليست سياسية”، حيث يعيش معظم سكان شمال غرب سورية على المساعدات، ولم يعد للكثير من الدول الغربية أي دور في الأزمة السورية سوى دور تقديم المساعدة الإنسانية للسوريين، بعد الإخفاق في فرض حل سياسي، وتأمين حماية دولية للسكان من القتل ووقف التهجير القسري.
يرى الإعلام الغربي عمومًا أن إصرار روسيا على إغلاق المعبر كان محاولة ابتزاز للكثير من الأطراف، السورية والإقليمية والدولية، فهي تريد من جهة أن تستخدم سلاح التجويع لإخضاع بقايا المعارضة السورية المسلحة المتواجدة في الشمال الغربي من سورية، والتي تعمل بإشراف وتعاون وثيق مع تركيا، وكذلك إرضاخ حاضنتها الشعبية لدفعها لرفضها، ومن جهة ثانية، تريد أن يستولي النظام السوري على المساعدات الإنسانية واستخدامها لسد عجزه، وفي نفس الوقت تريد أن تضغط على تركيا لكسب تنازلات سياسية تزيد من الهوة بين أنقرة وواشنطن، وأخيرًا، تريد أن تقول لأوربا والولايات المتحدة إنها باتت قوة لا يُستهان بها في سورية والشرق الأوسط ويجب أن يكون لها اعتبار.
الأمر الخطير الآخر هو أن لقاح كورونا يمر للملايين في الشمال السوري عبر هذا المعبر، ووفق منظمة “هيومن رايتس ووتش”، وصل حتى نيسان/ أبريل الماضي نحو 55 ألف جرعة من لقاحات فيروس كورونا إلى شمال غرب سورية عبر هذا المعبر قادمة من تركيا، وفي حال أُغلق هذا المعبر، غالبًا لن تصل لقاحات إلى المنطقة بعد ذلك، ما يُعرّض المنطقة لكارثة صحية.
واضح أن روسيا كانت تريد تطبيق سياسة الحصار على الشمال السوري، وهي استراتيجية بدأتها منذ عام 2014، حيث كان هناك أربعة معابر حدودية، وفي العام الماضي رفض الروس تجديد التفويض الأممي لهذه المعابر الأربعة، وقلّصوها إلى أن بقيت معبرًا واحدًا فقط مفتوح على تركيا.
في كل الاحوال، تأجل الصدام حول هذ المعبر الاستراتيجي ستة أشهر، ولا توجد ضمانات بأن روسيا لن تعود إلى استخدام الفيتو مرة أخرى من أجل إغلاقه، لتشكل مزيدًا من الضغط على تركيا، وإحراجًا للولايات المتحدة، وإضعافًا للمعارضة السورية، ودعمًا للنظام السوري، والأهم، تحقيقًا لمصالحها وخاصة تأهيل النظام السوري وإعادة الإعمار.
إغلاق المعبر، الآن أو بعد ستة أشهر، سيؤدي دون شك إلى كوارث إنسانية هائلة، وإن لم يضع المجتمع الدولي آليه دائمة بعيدًا عن فيتو مجلس الأمن، في إطار قرار جديد لإيصال المساعدات الإنسانية لملايين السوريين، فإن أربعة ملايين إنسان في شمال غرب سورية سيظلون معرضين للكارثة، والتي ستولّد بدورها كوارثًا أمنية قد تُشعل كل سورية من جديد.