أواسط عام 2012 كانت مدينة حلب قد وصلت إلى مرحلة مفصليّة في تاريخها، فكان العديد من أحيائها قد خرج فعلياً عن القبضة الحديدية لنظام الأسد، مما سمح لتنسيقياتها بتنظيم مظاهرات مسائية كبيرة فيها على غرار تلك التي تشهدها أحياء المدن التي اشتهرت ثورياً باحتجاجاتها الكبرى، كما كانت المدينة تُؤوي آنذاك أعداداً كبيرة من النازحين من مدن سورية أخرى تحاصرها وتقصفها قطعات جيش الأسد العسكرية، وليس بعيداً عن المدينة بدأت مجموعات الجيش السوري الحر المشكلة من العسكريين المنشقين عن الجيش مع المتطوعين من الثوار معارك تحرير ريفي حلب الشمالي والشرقي، على شكل ضربات نوعية تستهدف الحواجز العسكرية ومخافر الشرطة، حتى تسنّى لها تجميع قواتها مطلع شهر تموز في معركة تحرير مدينة إعزاز على الحدود السورية التركية، والتي تتحكم بمعبر باب السلامة الحدودي الهام.
في تلك الفترة كان نظام الأسد قد نشر مئات الحواجز في الريف الحلبي -كما فعل في كل أرياف سوريا- على الطرق الرئيسية في محيط التجمعات السكانية الرئيسية، حيث يضمّ كل حاجز منها عدداً من الرشاشات المتوسطة، إضافة إلى المجنزرات والمدافع الثقيلة ومجموعة من الجنود تتراوح أعدادها بين 50 و 250 بحسب أهمية الحاجز، أما معارك التحرير فكانت تتم بطريقة أبسط مما خبرته سوريا لاحقاً، فيكفي للثوار أنْ يضربوا الحاجز الرئيسي على مشارف البلدة التي يريدون تحريرها، دافعين عناصره للفرار، ويسيطروا على مخفر الشرطة فيها -والذي نادراً ما كان يقاومهم- لإعلانها محررة، فإذا حرّك النظام رتلاً عسكرياً من إحدى ثكناته العسكرية القريبة باتجاهها، وعجزت جموع الثوار عن ردع آلياته الثقيلة بفتات السلاح الذي يملكونه، يتمكن الأسد من إعادة سيطرته على البلدة.
لكن الأمر في مدينة إعزاز كان مختلفاً؛ فقد عمدت قوات النظام -قليلة العدد- في المدينة إلى التمترس في فرع الأمن العسكري فيها، بعد أن حوّلتْ كتلة من المباني في محيطه إلى قلعة حصينة، تضم عدداً من الفلل السكنية ومسجداً يعرفه أهالي إعزاز باسم “جامع حج فاضل”، والذي استخدم أحد قناصي النظام مئذنته كبرج قنص أذاق الثوار الويلات، وأفشل كثيراً من محاولاتهم لاقتحام الكتلة الحصينة.
فضلاً عن إرسال النظام أرتالاً من الدبابات تتوالى إلى المدينة لفك الحصار عن جنوده فيها، والتي تمركز بعضها في مشفى إعزاز الذي تحول إلى ثكنة عسكرية، بينما تمكن رتل عسكري يضم أكثر من دبابة وسيارة مصفحة محملة بالذخائر من الوصول إلى مشارف الكتلة المحاصرة، مهدداً بإفشال معركة التحرير ودحر الثوار الذين قدّموا حتى ذاك الحين الكثير من الشهداء.
إلى اعزاز
آنذاك كنتُ أقطن في حي المارتيني الحلبي في منزل يستأجره ثلّة من طلاب الجامعة من أبناء طيبة الإمام في حماة، كان أصغرهم عمراً وأقربهم إليّ عبد الله الموسى المكنى بأبي عروة، وثانيهم رامي المكسور أما ثالثهم فيوسف موسى الذي تخرّج في كلية العمارة وبدأ يدرس ماجستير آثار، وكان أحد الروّاد الدائمين للمنزل هو خريج كلية الطب من أبناء مدينة حلب، والمعروف باسمه الحركي “حمزة الخطيب”، الذي تمكّن عبر علاقاته مع عدد من ثوار الريف الحلبي من تأمين “رحلة” لنا إلى معركة تحرير إعزاز التي ستغيّر حياة “شلّتنا” كلها بشكل جذري.
وصَلْنا عبر طرق آمنة إلى المدينة التي استقبلتنا من بعيد بأصوات إطلاق الرصاص المتقطع، وبجموع الشباب الذين يحملون السلاح الخفيف في أحيائها شبه الخالية من المدنيّين، حتى وصلنا إلى مشارف الكتلة المحاصرة، والتي نصَبَ الثوار في نقطة متقدمة في محيطها إذاعة بمكبرات صوت يبدو أنهم اعتادوا أن يخاطبوا منها المحاصرين داعيهم للانشقاق، وكذلك فعلنا حيث جعلنا نخاطبهم كلٌّ بلهجته علّهم يطمئنّون: “أنا من دير الزور من الميادين.. نحن أهلكم وهذا النظام عدونا وعدوكم.. انشقّوا وتعالوا وإلكم الأمان..”؛ “أنا من حماة…”؛ “أنا من حلب…”..
لم تفلح خطاباتنا في إقناع عناصر نظام الأسد المحاصرين بالانشقاق، فقد كانت قيادتهم تمنّيهم بوصول المدد من “الجيش العربي السوري” قريباً.
بقينا نتجول في النقاط التي اتخذها الثوار في محيط الكتلة المحاصرة والتي التقينا فيها “محمد طلاس” الملازم أول المنشق من أبناء الرستن، والمشهور بين ثوار الريف الشمالي بكنيته “أبو الجولان”، حيث كان واحداً من ثلاثة قادة عسكريين للمعركة، كما التقينا القائد الثاني “أبو راشد”، النقيب المنشق “أحمد غزالي” من أبناء حوران والذي قاد كتلة عسكرية من أبناء إعزاز أسّسَها “عمار داديخي” باسم عاصفة الشمال، ولا أنسى حتى اليوم روح “أبو راشد” المرحة التي كانت تُخفّف عن المرابطين في النقاط ما يجدونه.
انتقلنا بعدها إلى قرية في محيط إعزاز إلى منزل ريفي بسيط استضافنا فيه مجموعة من الثوار، لم نكن نعلم حينها أنهم استخدموه لتجهيز ألغام محليّة الصنع! حتى إذا ورَد اتصال إلى أحدهم يخبره فيه بضرورة التحرك طلب منّا المساعدة، فتطوّعتُ للذهاب معه برفقة أحد شباب مجموعتنا، لنتفاجأ بخمسة “قازانات” في ساحة المنزل كان يجب أنْ نحمِلها إلى سيارة “سوزوكي”، والقازان هو أسطوانة معدنيّة قُطرها نحوٌ من 50سم وطولها متر ونصف تقريباً، نستخدمه في سوريا لتسخين المياه في الحمامات.
إلا أنّ هذه “القازانات” لم تكن مليئة بالماء، بل بخلطة من الأسمدة والمواد المتفجّرة، أعدّها أحد أبناء المنطقة ممّن اكتسبوا خبرةً في “تجهيز الألغام” أثناء مشاركته في المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في العراق.
انتقلنا بسيارة السوزوكي مع الشاب الذي لم يكن يبالي كثيراً بوعورة الطريق، التي جعلَتْ حمولَتنا من الألغام تترجْرَجُ في صندوق السيارة الحديدي بعنفٍ انخلَعَتْ له قلوبنا مع كلّ مطبّ عبرناه، حتى وصلنا أخيراً إلى طريق ريفي كان ينتظرنا فيه شابان بدراجة نارية يحملون بنادق آلية، ليتسلّما الحمولة منّا ويزرعاها على أطراف الطريق الذي سيعبره أحد أرتال “جيش الأسد” المتّجهة إلى المدينة كما أخبرونا.