انطلقَتْ شلّتنا المكوّنة من خمسة طلاب جمعَهم الحراك الثوري في جامعة حلب، من مدينة الشهباء إلى الريف الشمالي الذي كان يشهد معركة تحرُّره في السابع من تموز عام 2012، في رحلة غيّرت بالفعل حياة كلّ منا..
نقَلَنا إلى مدينة إعزاز في ريف حلب الشمالي “أبو محمد” بسيارته “المتسوبيشي”، والتي ستصبح لاحقاً واحدةً من أفراد شلّتنا! وأبو محمد رجل خمسينيّ من أبناء قرية “منّغ” التي وضعتها الأقدار في جوار مطارٍ عسكري، جعل الحياة في القرية مستحيلةً مع القصف الذي كان يدكُّ منازلها بشكل يومي، مهجِّراً أهلها لإبعاد خطر الثوار عن المطار الذي سيتمكّنون من تحريره بعدها بعامٍ تقريباً إثر حصار طويل.
في الطريق إلى إعزاز صادَفْنا سيارةً عرَف يوسف وحمزة -من شلّتنا- سائقها “خطاب أبو أحمد”، أحد أوائل الثوار الحلبيين من حمَلَة السلاح ضمن كتائب “أبو عمارة”، والذي استشهد مع عائلته في حلب تحت ركام منزلهم في حيّ المشهد إثرَ قصفٍ لطيران النظام استهدف الحي في تموز 2016.
ركنّا السيارة وترجّلنا منها مسلِّمين على خطاب ورفاقه الذين كانوا يحملون جثماناً لشاب استشهد في معارك إعزاز، يتّجِهون به إلى منزل أهله في قرية “كلجبرين”، وهو ما دفعَنا لتغيير وجهتنا برفقتهم لندخل القرية التي انتشر فيها الخبر فتجمّع الجيران أمام منزل الشهيد، الذي دخلناه حاملين الجثمان إلى ساحته الداخليّة ليودّعه الناس.
أمّا أنا فقد كتبتُ اسم الشهيد على ورقةٍ مع التاريخ، وصوّرت للمرة الأولى “فيديو استشهاد” بالطريقة التي شاهدتها في عشرات المقاطع التي كان يبثها السوريون لشهدائهم من مدن سوريا الثائرة.
قضَيْنا الأيام التالية بين مدينة إعزاز التي حاصَر فيها الثوار جنود النظام في مبنى الأمن العسكري وكتلةً في محيطه أحالَها الجنود قلعةً حصينة، وبين قرى وبلدات ريف حلب الشمالي الخارجةِ حديثاً عن سيطرة النظام، مُختَبِرَة تشكيلَ بدايات المجالس المحلّية التي كانَتْ تسعى لإدارة المنطقة المحررة، وأُتيحَت لنا في فرصةٌ نادرة لتصوير أولى معسكرات الجيش السوري الحر في الشمال السوري، والذي أنشأَتْه مجموعة من أبناء إعزاز عُرِفَت باسم “عاصفة الشمال”، أسّسها وقادها “عمار داديخي” من أبناء إعزاز.
وصَلْنا إلى المعسكر الواقع على الحدود السورية التركية فوق قطعة أرضٍ زراعية أُحِيْطَت بسواتر ترابيّة مُشَكّلَةٍ حديثاً، وفي داخل المعسكر بُنِيَتْ عدد من الكتل البسيطة المتفرقة، التي ضمّ كلّ منها غرفاً اكتفَت جدرانها بطلائها الإسمنتيّ “الزريقة”، فيما رُكّبَت لها على عجالة أبوابٌ حديدية متواضعة.
وقد جُعِلَتْ إحدى تلك الكتل مهجعاً للمقاتلين مع غرفة مسجد، فيما استُخدِمت أخرى مستودعاً للإطعام والذخيرة، وتواجد مطبخ بسيط وحمّامات في كتلة ثالثة، أما الرابعة فكانت مكتباً لقيادة المعسكر، والذي تواجد قريباً منه سجن أمنيّ للكتيبة.
كان “الداديخي” معروفاً بعمله في التهريب قبل الثورة السورية، لكنه ومنذ انطلاقتها انحازَ إليها مسخِّراً أمواله لشراء سلاح بسيط أَسّسَ به واحدة من أولى كتائب الجيش الحر في المنطقة.
بعد انتظارٍ في ساحة المعسكر دخلْتُ مع أحد أفراد مجموعتنا لنقابل الداديخي الذي جلس خلف طاولة متواضعة تَواجَدَت فوقها قبضة “جهاز توكي ووكي” وقبّعة شمسية مُصمَّمَةٌ بألوان علم الثورة كان الداديخي معروفاً بارتدائه الدائم لها، وبعد شدّ وجَذْب لنصف ساعة تقريباً تمكّنّا من إقناعه بتصوير المعسكر، مع عددٍ من المعتقلين لديه من ضباط وعناصر أمن، فيما رفض بإصرار إجراءَنا أيّ مقابلة مع “الأسرى اللبنانيين”، والذين تمكّنَت الكتيبة من إلقاء القبض عليهم قبل شهرين تقريباً في أيّار، حيث ادّعَى اللبنانيون أنّهم “حُجّاج” قادمون من إيران إلى لبنان عبر سوريا برّاً، فيما أكّد لنا الثوار في الشمال أنّهم مقاتلون من حزب الله جاؤوا دعماً للنظام السوري.
عُرِضَ على “الداديخي” آنذاك الإفراج عن الأسرى مقابل مبالغ ماليةٍ طائلة كما أكّد لنا غير واحد من المقرّبين منه، وتُسعِفُني الذاكرة اليوم باسترجاع صوت شخصٍ تحدّثَ إلى الداديخي أثناء تواجدنا في مكتبه عبر اتصال هاتفي، لم تستطِع سمّاعة الهاتف الملتصقةُ بأذنه إخفاءَه، كان الشخص ذو اللهجة “الخليجية” يُحدِّث الداديخي عن “اهتمام” كبير بحلّ المشكلة، مع جهوزيّتهم لتقديم ما يحتاجونه، فيما كان وجه الداديخي خالياً من أي تعبير طوال الاتصال الذي انتهى سريعاً.
بقيَ الأسرى اللبنانيون مُحتَجَزِين مع رفض “الداديخي” إطلاق سراحهم قبل تنفيذ شروطه بتحرير كل المعتقلات السوريات في سجون النظام، حتى استشهد في بدايات عام 2013 إثر إصابة تعرض لها في محيط مطار منغ العسكري، مع كثيرٍ من الضّبابيّة لفّتْ حادثة استشهاده التي لم يتمّ الإعلان عنها إلا بعد استشهاده بشهور، فيما يتناقل بعض ثوار المنطقة حتى اليوم قصصاً عن أنّ الإصابة لم تكن سبب موته، فقد نُقِلَ على إثرها إلى تركيا للعلاج وبرئ منها!
أما الأسرى فقد تم الإفراج عنهم في تشرين الأول من عام 2013 بوساطة تركية قطرية ضمن شروط غامضة، وذلك بعد اختطاف طيّارَين تركيَّيْن في لبنان قبلها بشهرين! قِيلَ أنّ المسؤولين عن اختطافهما هم عوائل الأسرى اللبنانيين!
وتكريماً للشهيد القائد “داديخي” أطلَقَ ثوار الشمال على مطار منّغ اسم “مطار الشهيد عمار داديخي” بعد تحريره، كما سُمِّيَت إحدى حدائق مدينة إعزاز باسمه.
بعد انتهائنا من تصوير الأسرى فوجئنا بتجمهر المقاتلين وبعض شباب شلّتنا حول شاب يجلس على حقيبة سفر قرب الشريط الحدودي القريب من المعسكر، كانت هيئة الشاب توحي بغرابَته عن جوّ المنطقة التي تشهد معركة تحررها آنذاك، بنظاراته الشمسية من نوع “ريبون” و”جمَدَانة” لفّها حول رأسه بطريقة غريبة.
وبعد اقترابي منه عرفتُ الشاب المشهور آنذاك بمقاطع ساخرة ضد نظام الأسد بثَّها على برنامج اليوتيوب من السعودية، والذي فهمنا أنّه عبر الحدود قاصداً التوجه إلى مدينة حلب -المحتلة آنذاك- للمشاركة في ثورتها بعد أنْ ترك مغتربه.
سأله حمزة: “شلون رح تطلع؟!”
أجاب ببراءة: “بالسّربيس..” وهو وسيلة النقل العامّة المعروفة بين المدينة وأريافها، والتي كانَت تتحرك مروراً بحواجز النظام على مشارف المدينة، ضحِكنا لعفويّته واصطحبناه معنا، ليصبح “عبد الوهاب الملا” أو “أبو صطيف” كما يعرِفه ثوار حلب منذ ذلك الحين واحداً من أفراد “شلّتنا” الذين يفارقوننا نادراً، وأحد أكثر ناشطي حلب -بعد تحريرها- صخَباً وأثَراً.
أخذَنا “أبو محمد” بسيارته عبر الطريق نفسها التي جئنا منها إلى النقطة التي أٌقلّنا منها قبل ذلك بأيام قبالة كراج “الليرمون”، حيث انتظرنا فيها أحد أًصدقائنا لاصطحابنا إلى منزلنا في حيّ المارتيني الحلبي، بعد رحلة شهدتُ فيها جانباً آخر للثورة غير الجري في المظاهرات الطيارة أمام جموع الشبيحة التي تطاردنا، وكان أبلَغُ أثرٍ في نفسي من تلك الرحلة هو منظر والد الشهيد “ياسر سقّار”، والذي عُدنا إلى قريته ليلَتَنا الأولى في الرّيف لنشارك في عزاء ابنه.
كان قد اجتمع أهالي القرية وعدد من ثوار الشمال على كراسٍ رُصِفَت في الشارع قبالة منزله، ووقَف والد الشهيد يستقبل الوافدين في مدخل العزاء، ورغم ضآلة جسده بدا لي كالجبل الشّامخ بوقوفه هناك دون أنْ يذرف دمعةً واحدة، وكلّما مرّ به أحدنا مُسلِّماً ومُعزِّياً كان يكتفي بالقول “الحمدلله.. شهيد إن شاء الله”..
تلك كانت أول محاولة لي لتعزية والد شهيد في الثورة، لذلك لم أتمالك نفسي عندما حان دوري للسلام عليه، فانعقد لساني ولم أجِد ما أفعل إلا أنْ أنزل إلى يده مُقَبّلاً إياها.
هذا قبل أن نعتاد في الشمال على التعزية بالشهداء، حتى صرتُ أحفظ عن ظهر قلب صيغةً تنطلق بلا عناء كلّما قابلتُ عائلة شهيد.
بعدها بثلاثة أعوام وأثناء اجتماع في مقرّ “تجمع فاستقم” في مدينة حلب، جلسنا نتَذَاكر فيه الشهداء وأوّل عهدِ كلٍّ منّا بهم، اكتشفتُ بأنّ صديقي لعامين سبَقَا، والقائد العسكري للتجمع “أبو الحسنين” هو أخُ الشهيد ياسر، وأنّ أوّل والد شهيدٍ قابلتُه في الثورة كان والده..