سوريا.. درب الآلام نحو الحرية

نوفمبر 29, 2022

حسين عبد العزيز

مقالات

لا تكمن أهمية كتاب “سوريا.. درب الآلام نحو الحرية” ـ المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2013 ـ للدكتور عزمي بشارة، في أنه كان من أوائل الكتب التي رصدت صيرورة الثورة في عاميها الأولين فحسب، بل تكمن أهمية الكتاب في القراءة المعمقة التي قدمها بشارة للخلفيات الاجتماعية والسياسية المباشرة للثورة السورية.

فرغم أوجه التشابه الكثيرة في الأسباب المحركة للاحتجاجات العربية، فإن بشارة يميز الحالة السورية عن مثيلاتها العربية بثلاثة فوارق:

ـ خصوصية المجتمع السوري المركب دينيا وطائفيا وإثنيا التي أعاقت تبلور هوية وطنية جامعة تسمح بفصل المجتمع عن النظام والنظام عن الدولة.

ـ وضع سوريا السياسي الجيوستراتيجي لأنها جزء من محور دولي لا يؤيد أي تحول ديمقراطي.

ـ اغتراب النظام شبه الكامل عن المجتمع وتعامله معه باعتباره استعمارا داخليا يسيطر عليه من خارجه.

يتناول بشارة خصوصية سوريا من ناحية التركيب الاجتماعي ومن ناحية بنية النظام وآلية حكمها.

يقول إن أبرز مخاطر المجتمعات المركبة في حال عدم رسوخ الدولة الحديثة عندما تُوهم جماعة أنها تمتلك الدولة، في هذه الحالة يصبح تأكيد الجماعات الأخرى لهويتها مسألة اعتراض على هوية الجماعة التي تدعي امتلاك الدولة، وإذا كانت هوية الجماعة التي تمتلك الدولة أقلية، فإن شعورها بأنها ضحية تاريخية يساهم في زيادة شدة القسوة في القمع، لأن الأقلية يجب أن تمارس قدرا أكبر من العنف لإخضاع الأكثرية.

وهذا يعني انتشار سياسات الهوية في العمل السياسي بشكل يحول الصراع من أجل الحقوق إلى استقطاب هوياتي، وينطوي على نزعات تقسيمية، وكل ذلك سببه أن الدولة لم تطور وظيفتها بتوحيد وطني لاختلافات المجتمع ومصالحه المتضاربة.

في مقطع مميز، يقول بشارة إن ما يجعل التمايز بين النظام والمجتمع صعبا هو الرابط نفسه الذي يجعل فصل الدولة عن النظام صعبا أيضا، وهو الفصل الذي أتاح خروج المجتمعين التونسي والمصري إلى المطالبة بإسقاط نظام الحكم.

إن القدرة على الفصل بين الدولة والنظام، والتمييز بينهما، هي التي مكنت الجيش من الامتناع عن استخدام القوة العسكرية في مساندة النظام في صراعه ضد الشعب في حالتي تونس ومصر، ونظرا إلى صعوبة هذا الفصل في الحالة السورية، بدا النظام أكثر تماسكا وقسوة.

ورغم ذلك، نجحت الثورة السورية خلال العامين الأولين

في إظهار ملامح هوية وطنية تعددية تتبلور ديمقراطيا من خلال مناهضة الاستبداد، وقد وجد بشارة هذا السياق ملائما لطرح واحدة من الفرضيات النظرية التي أسس الكتاب لها:

1ـ منعت أيديولوجية النظام وممارسته تشكل هوية وطنية سورية في حدود الدولة السورية، وذلك عبر الممارسات الآتية:

ـ عدم تحول المواطنة السورية إلى كيان حقوقي من أي نوع.

ـ التعامل مع المواطنين عبر الهويات الجهوية والعشائرية والطائفية من جهة، والتأكيد على الهوية العربية باعتبارها أيديولوجية دولة من جهة أخرى.

2ـ إن تجربة الثورة السورية هي التجربة الأولى بعد الاستقلال التي يجري فيها تشكل هوية وطنية.

3ـ الثورة ذاتها التي كانت العامل الأساس في تشكل هذه الهوية الوطنية، وضعت هذه الهوية أمام خيارين: الشرخ الطائفي واتخاذ الهوية الوطنية الجديدة طابعا سنيا طائفيا أو المواطنة الديمقراطية التي تقوم عليها هوية وطنية غير متناقضة مع عروبة أغلبية سكان سوريا.

4ـ كانت الثورة السلمية ذاهبة نحو هذا الاتجاه الثاني، أما الثورة المسلحة التي نشبت كردة فعل ممكنة ووحيدة في التصدي لخيار النظام العسكري في قمع الثورة، فشدت باتجاه الشرخ الطائفي وزادت من مخاطره، لأن الثورة المسلحة كان لا بد من أن تدخل في لعبة الأمم التي تؤدي في حالة سوريا والمشرق، إلى نماذج تسووية بين طوائف نافية للهوية العربية.

ترييف الحزب وتطييف الجيش

على الرغم من تغلغل الانتماء العروبي عميقا لدى السوريين، ظلت الأيديولوجية القومية العلمانية أيديولوجية فوقية لم تنجح في علمنة المجتمع بسبب طبيعة النظام التي حملها، فإلى جانب الشعارات القومية، استخدم النظام الانتماءات الجهوية والطائفية في عمليات محاصصة لكسب الولاءات، وتبلور مع الوقت مزاج سياسي ـ ثقافي يرى في النظام السياسي وأيديولوجياته غطاء لسلطة طائفية أقلياتية.

يتتبع بشارة بشكل سريع جذور الطائفية في سوريا خلال المرحلة العثمانية ثم مرحلة الانتداب الفرنسي مرورا بمرحلة الكتل العسكرية العقائدية بين عامي 1954 ـ 1963، وصولا إلى مرحلة قائدنا إلى الأبد..الأمين حافظ الأسد، لينتقل بعدها إلى عملية الترييف التي اتبعها البعث الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية في سوريا.

استند حزب البعث في انقلابه عام 1963 إلى نخبة عسكرية ريفية، وظهرت أولى نتائج ذلك في توسع قوة طبقة الفلاحين على حساب سكان المدن، ثم انتقل أثر ذلك إلى مؤسسات الدولة التي غلب عليها الطابع الريفي، فأصبحت بيروقراطية الدولة ريفية.

ومع الوقت، تحول القادة البعثيون الريفيون من قادة حزبيين وعسكريين في الستينيات إلى موظفين تابعين في السبعينيات والثمانينيات، ليصبحوا برجوازية جديدة إلى جانب البرجوازية المدينية.

ورث بشار الأسد عن والده قواعد اجتماعية في حالة تغير، وطبقة طفيلية متعفنة داخل جهاز الدولة، لكن مرحلته أتمت عملية الانزياح في التحالفات الاجتماعية التي بدأت في ظل الفساد والاستبداد، لتنقلب قواعد النظام القديمة ضده.

في هذه المرحلة الجديدة تلاشى دور الحزب نهائيا، ودمرت السياسات

النيوليبرالية القواعد الاجتماعية التي ارتكز عليها الحزب، وزادت سنوات الجفاف من مآسيها، نتج عنها عمليات هجرة واسعة نحو المدن، وزودت هذه الهجرة المدينة السورية بالشريحة المؤهلة للاحتجاج.

العنف الثوري

يميز بشارة العنف الاجتماعي عن العنف السياسي، ففي الأزمات يتداخل العنف الاجتماعي بالعنف السياسي، وتستند بعض أشكال العنف السياسي في مظاهرها إلى ديناميات العنف الاجتماعي، ومنها وجود انقسامات وعصبيات اجتماعية تحركه، وبالتالي يجب التمييز بين عنف الثورة المسلح والعنف الاجتماعي والسياسي الذي كان قائما خارج الثورة.

اختلطت المواقف وطريقة التوظيف السياسي لمظاهر العنف خلال الثورة بين النظام السياسي والمعارضة، حيث دأب إعلام النظام على الربط بين الثورة الشعبية وتلك المظاهر العنيفة بخلفياتها الجنائية والجهادية والطائفية، في حين كان خطاب المعارضة يتهم السلطة بتدبير هذا العنف ضمن نسق ديماغوجي واستيراد نظرية المؤامرة إلى صفوف المعارضة بشكل يسمح لها بالتهرب من مواجهة هذه المظاهر باعتبارها تحديا مجتمعيا تتطلب معالجته قيادة سياسية.

في الأشهر الأولى للثورة هددت الحملات الأمنية الشرائح المثقفة بالاعتقال والقتل لإبعادها عن الحركة الاحتجاجية السلمية ولتعطيل دينامو النشاط وقطع الرأس السياسي للحركة الشعبية، وبعد تواصل القمع الأمني بدأت التفاعلات الاجتماعية تنتج مظاهر عنف أخرى، ومع توسع الصدام غابت سلطة الدولة عن مساحات جغرافية كبيرة، الأمر الذي أدى إلى بروز مظاهر عنف اجتماعي ساهم في إذكائها ضعف المجتمع المدني وانحدار آليات الضبط الاجتماعي.

ومن الأهمية بمكان التذكير بأن مراسيم العفو الرئاسية شملت المجرمين الجنائيين الذين وُظف بعضهم لقمع المظاهرات، في حين استغل آخرون هشاشة الوضع الأمني لمتابعة أعمال السرقة والنهب والخطف، وفي حالات أخرى اختلطت الجرائم الجنائية بالعنف الطائفي الذي يمارس في المناطق المختلطة لا سيما في حمص وريف حماة وحيي تشرين والقابون في دمشق.

أما العنف الحركي الجهادي، فقد بدأ بالانتشار في النصف الثاني من عام 2012 مع اشتداد الأعمال القتالية، ولا يمكن حصر الكتائب والمجموعات الجهادية كلها، لكن يمكن تقسيمها بحسب مرجعياتها الفكرية:

ـ مجموعات تتبنى السلفية الجهادية العالمية وفق نهج القاعدة، ومن أبرزها جبهة النصرة التي ظهرت مطلع العام 2012 وتبنت مجموعة من التفجيرات “الانتحارية”، وأنشأت إمارات إسلامية في سوريا.

ـ مجموعات سلفية تقتصر أهدافها على سوريا بإسقاط النظام وإقامة نظام إسلامي، وما يميزها عن جبهة النصرة أنها تعمل تحت لافتة الجيش الحر، كما تختلف عنها في سلوكها فهي لا تفرض الحدود الإسلامية وليست لديها محاكم شرعية خاصة، ومن أبرزها (أحرار الشام، وصقور الشام في إدلب، وكتائب الأنصار في مدينة حمص، ولواء الإسلام في دوما، وتجمع أنصار الإسلام في دمشق).

ـ مجموعات تشبه في تركيبتها وثقافتها المجتمع الذي نشأت فيه مع بدء عملية التسلح، وهو مجتمع متدين على نمط التدين الشعبي، كما تشمل عددا من غير المتدينين، لكنها “تسلفنت” ضمن تفكير براغماتي للتقرب من المانحين أو بسبب ظاهرة التدين خلال القتال.

خاتمة

تعتبر الثورة السورية فريدة في الإقليم يقول بشارة في ختام الكتاب لجهة تشابك العوامل المؤثرة فيها التي قد تؤدي إلى سيناريوهات كارثية ما لم يتم التوصل إلى تسوية سياسية تتضمن رحيل النظام وبقاء جهاز الدولة، وتضمن التحول التدريجي نحو الديمقراطية من دون اجتثاث، وإلا فالبديل صراع طائفي وإثني قد ينتج صراعات أخرى في المستقبل، وهذه ليست دوافع الثورة وأهدافها حين انطلقت، ولكن يؤكد بشارة أن مبدأ إسقاط النظام وحده غير كاف لأن الدولة ستسقط معه إذا لم يوجد برنامج سياسي تلتف حوله قوى الثورة.

ولا يكفي ما يدعيه النظام من أن المقاومة مجرد شعار أجوف، فقد يندفع من ينفي كل ما يمثله هذا الشعار إلى التعاون مع إسرائيل ضد سوريا.

إن كارثة الطائفية في المشرق العربي ليس في كونها أيديولوجية زائفة، بل في كونها متجذرة في بنى اجتماعية وفكرية حقيقية، والمطلوب تجذير هويات ذات علاقة أوطد بالدولة الحديثة.

الطائفية في سوريا ليست افتراء، بل هي قائمة في نظام الحكم، ولا يمكن الطلب من المتضررين من نظام استبدادي يقوم على بنى طائفية وجهوية أن يعبروا عن مشاعرهم عفويا بلغة غير طائفية، فهذه وظيفة النخب السياسية التي تصوغ وعي الجماهير الشعبية وتتكلم باسمها.

الثورة السورية ثورة مجيدة تجسدت بخروج شعب مدافعا عن كرامته وحريته وصموده التاريخي أمام قمع غير مسبوق، ويمكن تحويل الطاقة الجبارة المادية والمعنوية لهذا الشعب في صنع نهضة عظيمة لسوريا ويلاد الشام والأمة العربية، كما يمكن أن تتحول إلى طاقة سلبية تفجر ذاتها ووطنها، ويتوقف كل شيء على وعي الفاعلين السياسيين، أي مسؤوليتهم الوطنية عن ثورة أصبحت ثورة وطنية، وصدقهم في تمثيل مطالب ديمقراطية أصبحت خلال الثورة المدنية مطالب وطنية.

المصـــدر

المزيد
من المقالات