سوريا موحدة… والسوريون مفككون

نوفمبر 17, 2022

حسام جزماتي

مقالات

تقدّم المناهج الدراسية التي طرحتها الإدارة الذاتية لشمال شرقي سوريا، وردة الفعل العاصفة عليها في مناطق تقع تحت حكم هذه الإدارة، مثل دير الزور، نموذجاً فاقعاً على التباين الذي وصل إليه السوريون الذين بدوا، في حالة كهذه، أشبه بمن يعيش على كوكبين مختلفين ومتداخلين.

والحال أن حرية الخيار، الفردي والجماعي، الذي أطلقته الثورة وعزّزه تراجع السلطة المركزية، أنتج مفاعيل لا تزال تتراكم وتتشعب وتتشجر. وإذا كان الانقسام في 2011 قد تمظهر سياسياً، كما يُفترض، بين معارض للنظام ومؤيد له، مع ما انطوت عليه المواقف من عمق طائفي/أهلي في كثير من الحالات، فإن ما يقرب من عقدٍ مر على ذلك كان لديه الكثير مما أضافه من تفاعلات كيماوية شبه انشطارية في بعض الأحيان.

فما إن توسعت الثورة حتى تحولت إلى ثورات، بحكم خصوصية الظروف المحلية أو نتيجة الحصار والعزل. ومن انخرط في إحدى هذه الثورات بدرجة فاعلة حالت تفاصيل اليومي بينه وبين متابعة أحوال أبناء قضيته نفسها في مناطق أخرى إلا في حدود الخطوط العريضة.

يعرف هذا ثوار حمص وحلب والغوطة ودرعا… إلخ. وقد أسهم في ذلك غياب قيادة سياسية موحدة وقوى عسكرية ذات امتداد وطني وانسجام داخلي.

بالإضافة إلى هؤلاء، ومنهم، خرجت ملايين اللاجئين إلى دول الجوار، ثم إلى المهاجر الأوروبية لمن أراد واستطاع إلى ذلك سبيلاً. وصاروا تجمعات متفاوتة الحجم في أعداد يصعب حصرها من البلدان، يعيشون تحت أنظمة حكم متباينة سياسياً ومتنوعة اجتماعياً وثقافياً. يتعلمون لغات كثيرة، ويحفظ أولادهم كتباً دراسية مختلفة حتى ضمن البلد الواحد أحياناً.

وإذا كانت المناهج الموحدة أبرز سمات الدولة الشمولية، فإن تخلخل هذه الأخيرة فسح المجال للجماعات السياسية كي تحدد المقررات التي تناسب مشروعها وتطلعاتها في المناطق الي سيطرت عليها.

وإذا كانت الهيئات التربوية المرتبطة بالمعارضة المنظمة قد اكتفت بحذف مادة «القومية» وبعض الدروس من مقررات التاريخ والأدب العربي والديانة؛ فإن انقلابين جذريين في المناهج جريا على أيدي عدوين لدودين، هما داعش والسلطات المنبثقة عن حزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) وحلفائه.

وفي حين تبدو الأمور أكثر انتظاماً في المناطق التي لم تنقطع سيطرة النظام عليها، بخلاف تلك التي استعادها في السنوات الأخيرة؛ فإن هذا الاستقرار لا يعدو كونه تسويفاً أمام الانفجار القادم يشبه تأجيل استحقاق انتقال السلطة، وهو الأمر الذي لا بد منه.

من هذه الناحية الأخيرة، أي التغيير السياسي الآتي ولو متأخراً، هناك إجماع بين كل الأطراف، المتحاربة داخلياً والداعمة خارجياً، على وحدة البلاد. لا ينطلق هذا من دوافع وطنية بالضرورة وحسب، بل من وقائع الجغرافيا والتداخل السكاني الذي ازداد اختلاطاً بموجات النزوح، ومن شعور الطرفين الأساسيين في «النزاع»، أي النظام وقوى الثورة، بالشرعية الكافية لحكم كامل البلاد.

وإذا كانت داعش قد انتهت فلا بأس أن نتذكر أن إحساسها بالشرعية كان يتجاوز الحدود بكثير. أما حزب الاتحاد الديمقراطي فيعي أن الظروف الداخلية والإقليمية والخارجية، بمن فيها حلفاؤه وداعموه، لا تسمح بأكثر من الفيدرالية.

يتباين السوريون إلى درجة التذرر. تنهشهم الاختلافات السياسية والثقافية والاجتماعية. ونتيجة ضعف تكوينهم الوطني كانوا معرّضين للإيمان بمشاريع كثيرة في الداخل، ولولاءات مختلفة في الخارج بحكم الإعجاب الذي ينتابهم تجاه أي دولة تقوم على الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان وأي حكومة تقدم حداً معقولاً من الخدمات.

وفي الوقت نفسه تعتريهم ردات فعل جمعية غريزية لا محتوى لها إلا «الغضب»، المحق أو المبالغ فيه، تجاه حوادث أو جرائم يقع ضحيتها سوريون هنا أو هناك.

وفضلاً عن الهويات الجماعية المشار إليها أعلاه، والتي تتطبق فوق هويات أهلية، طائفية وعشائرية وجهوية، نمت للسوريين هويات فردية، وإن بشكل عشوائي ومضطرب، انبنى بعضها من ذكريات القصف والاعتقال والقتل والفقد والحصار والتهجير وركوب البحر نحو الجنة الباردة الباعثة على الاكتئاب.

من هذه الطبقات والوجوه المتعددة للهويات، التي صارت متراكبة في دواخل معظم السورين كبناء مخالف شكّل أحياء عشوائية شاسعة غزت البلاد، بات يتكون «المجتمع السوري» الذي يحوي ثواراً ومؤيدين، دواعش ومتحولين جنسياً، علمانيين ليبراليين ومتعصبين طائفياً ومتحيزين مناطقياً، منسلخين وأصوليين، محتسبات ونسويات، الجيش السوري الإلكتروني وفريق ملهم التطوعي ومجموعة ملحمة تاكتيكال، نجوم يوتيوب ومقاتلين أميين، طلاباً في أفضل جامعات العالم ومنقطعين عن الدراسة أمام بسطات مشتقات النفط المكرر محلياً والدخان الرديء والمخدرات الرخيصة والأسلحة المستعملة وقوالب البوظ.

ومن هؤلاء جميعاً… على أحدٍ ما أن يبني سوريا الحديثة في يوم ليس بعيداً.

المصـــدر

المزيد
من المقالات