سيناريوهات الحلّ في سورية في موازين قيادات وناشطين سوريّين (3/2)

ديسمبر 21, 2022

دراسات

هادي البحرة: الإستراتيجيّات المطروحة تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة

د. سميرة مبيض: سورية المستقبل: الانطلاق من الواقع السوري نحو بناء سورية الحديثة

د. سمير العبد الله: الجمود هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب

صباح الحلّاق: إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع

د. خلدون النبواني: خطر ضياع سورية كدولة هو السيناريو الأقرب لنا

واحة الراهب: استعادة اللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد

عز الدين الملا: الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين

بسام طبلية: سيناريوهات للخروج من هذا الاستعصاء

مرح البقاعيعلينا كسوريّين أفرادًا ومؤسّسات تكثيف التواصل مع الإدارة الأميركيّة

د. محمد الأحمد: لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة

جوان يوسف: السيناريو المفقود وأطراف الحلّ في سورية

خالد قنوت: استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة

فاروق حجّي مصطفى: مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير

بعد اندلاع الثورة السوريّة، في آذار/ مارس 2011، التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد؛ دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة، على درب الآلام والجُلجُلة نحو الحرّيّة والديمقراطيّة وبناء دولة القانون والمواطنة، وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة، الذي بيّنَ مقتل 227.413 مدنيًّا، بينهم 14.506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149.361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، فضلًا عن وجود أكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشريّة والاقتصاديّة، ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنية التحتيّة التي خلّفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.

ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوري، في ظلّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة، وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتداخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات، لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أيّ تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخّلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة، بوصفه حلًا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر؛ تفشّت في صفوف السوريّين حالة من اليأس الشعبي العامّ، من إمكانيّة إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، ومع هذا كلّه، يواصل مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والثورة دخلت عامها الحادي عشر، الملفّ الخاصّ بسيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة التي يحضر لها الروس ورأس النظام في دمشق، فكان أن استضفنا في هذا الجزء عددًا من القيادات والناشطات والناشطين السياسيّين والخبراء الإستراتيجيّين والكتّاب والكاتبات، من مختلف الأجيال والمكوّنات السوريّة، بعد أن كنّا استضفنا في الجزء الأوّل نخبة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض، بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.

هادي البحرة: الإستراتيجيّات المطروحة تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة

عندما نريد استشراف المستقبل بصورة علميّة مقبولة، لا بدّ من قراءة الواقع كما هو وتثبيت بعض النقاط الأساسيّة، من المؤكّد أنّ كلّ الأسباب التي دعت الشعب السوري للثورة ما زالت قائمة، لا بل ازدادت عمقًا وتنوّعًا وشدّة، حيث باتت آثارها تشمل الغالبيّة العظمى من أطياف الشعب السوري، وتعمّقت العلاقة العضويّة الوجوديّة بين أطراف التحالف السري لقوى الاستبداد والفساد والإرهاب، الأوّل يبرّر وجوده واستبداده بالثالث الذي صنعه وغذّاه، والثالث يبرّر وجوده باستمرار وجود واستبداد الأوّل، أمّا الحبل السري بينهما فهو الفساد الذي بات يموّل استمراريّة كلّ منهما، على حساب قوت الشعب ومستقبله ومعاناته.

لقد افترض النظام الاستبدادي أنّ بإمكانه تغييب الثورة السوريّة وقواها الوطنيّة وتطلّعات الشعب المشروعة للكرامة والحرّيّة والعدالة والديمقراطيّة، عبر تشتيت قوى الثورة والمعارضة، وطمسها بالسواد والتطرّف، وتجريدها من الاعتراف الدولي بها كممثّل للشعب السوري، مقابل النظام، في العمليّة السياسيّة التي تيسرها الأمم المتّحدة في جنيف، فهذه القرارات الأمميّة والعمليّة السياسيّة الناتجة عنها هي ما تبقي الصراع حيًا بصيغته الحقيقة، ثورة شعب يناضل من أجل استرداد حقوقه الإنسانيّة والسياسيّة والدستوريّة والقانونيّة، من نظام حكم مستبدّ ودكتاتوري، أجرم بحقِّ شعبه، ولا يمكن تغيير هذه الصيغة إلّا عبر إعاقة وتعطيل العمليّة السياسيّة، مع إفقاد الشعب للتمثيل السياسي، وصولًا إلى إعلان وفاتها للتهرّب الكامل من تنفيذ قرارات مجلس الأمن.

من هذا المنطلق، عمل النظام وداعموه على محاولة خلق الظروف لتحقيق انطباع يحدُّ من خيارات المجتمع الدولي، بين شيطان الإرهاب وشيطان الاستبداد، وهم على يقين بأنّه سيختار الثاني، عملًا بالمثل القائل بأنّ “الشيطان الذي تعرفه أفضل من الذي لا تعرفه”. إلّا أنّ هذه الجهود، وإن حقّقت بعض النجاح في الماضي، ممّا أدّى إلى تبدل السياسات الدوليّة من دعم الحراك العسكري إلى توازع النفوذ والتدخل العسكري الدولي والإقليمي المباشر والعلني، وبات الملفّ العسكري وقرار السلم والحرب خارج سيطرة الأطراف السوريّة من قوى الثورة ومن النظام؛ فإنّها حتّى اللحظة لم تتمكّن من إنهاء الثورة ولا تغييب مطالب الشعب وتطلّعاته، ولا من الاستفراد بالعمليّة السياسيّة وتحويرها وفق رؤيتهم.

على الصعيد العسكري، لا توجد اتّفاقية وقف إطلاق نار شامل ومستدام في سورية، فكلّ التفاهمات الموقّعة هي مؤقّتة، ولذلك لا يوجد استقرار، وكلّ تلك التفاهمات عرضة للانهيار في أيّ وقت. وجميع الأطراف تترقّب التوجّهات الأميركيّة الجديدة: هل ستستمرّ في توجّهات الإدارة السابقة، بما يلغي أيّ احتمال لتحقيق أيّ حسم عسكري لصالح أيّ طرف كان، وهذا يزيد فرص التوصّل إلى اتّفاق لتحقيق وقف إطلاق نار شامل، أم أنها ستتّجه نحو تخفيض الوجود العسكري المباشر أو الانسحاب، ممّا سيفتح المجال لكلّ طرف من الأطراف الأجنبيّة بأن يحاول تنسيق ذلك الانسحاب مع الطرف الأميركي لملء الفراغ لصالحه، ومن المستبعد قيام الولايات المتّحدة بالانسحاب عسكريًّا، دون اتّفاق وترتيب وضمانات مع تركيا أو مع روسيا أو مع كليهما، بما يضمن عدم استفراد إحداها بالنفوذ في شمال وشرق سورية، ولا بالإمساك بكامل مفاتيح الحلّ السياسي وتجاوز مصالحها ومصالح حلفائها.

إنّ كلّ القوى العسكريّة الأجنبيّة الموجودة داخل سورية تتخوّف من تحوّل الأوضاع في سورية إلى مستنقع يغرقها في صراع غير محسوب النتائج، أو يعرّضها لصدام عسكري مباشر فيما بينها، وكلّ منها يحرص على عدم حدوث ذلك. نستطيع تلخيص إستراتيجيّة القوّتين الدوليّتين الكبريين في سورية بالتالي: بالنسبة إلى الولايات المتّحدة فهي تعتبر أنّ ما وصلت إليه الأمور في سورية هو نتيجة السياسات الروسيّة، ولذلك على روسيا تحمّل عبء إيجاد الحلّ من منطلق المثل الأميركي “You brook it،you own it”، وترجمته هي “أنت كسرتها، أنت تملكها”، أي ليس من واجب الولايات المتّحدة الأميركيّة إيجاد الحلول والمخارج لروسيا، إنّما على الأخيرة أن تبادر نحو إيجاد الظروف اللازمة لتحقيق الحلّ السياسي، بما يؤدّي إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، وفق التفسير والمفهوم الدولي له، فالولايات المتّحدة لا ترى أنّها تحت ضغط من أيّ نوع أو وجود مصالح مباشرة لها في سورية، لترفع من مستوى تدخلها العسكري، فهي تكتفي حاليًّا بوجودها العسكري المباشر الصغير والمحدود، مع قدراتها الجوية والصاروخية من بضعة قواعد لها في المنطقة، ومن أسطولها البحري، والاستمرار في سياسة العقوبات الاقتصاديّة، وضمان عدم إعادة تدوير النظام دبلوماسيًّا، وتفعيل وسائل دوليّة للمساءلة والمحاسبة عن جرائم الحرب التي ارتُكبت في سورية وعدم السماح بأيّ تمويل لعمليّات إعادة الإعمار، وهذا يعوق أي جهد لفرض حلّ سياسي وفق المقاسات الروسيّة الداعمة لاستمرار النظام، ويجعل الإبقاء على الأوضاع الحاليّة في سورية مجمّدة بتكلفة اقتصاديّة باهظة لن ترغب روسيا في تحمّلها، ولن يكون بالإمكان تحقيق الأمن والاستقرار المستدامين.

روسيا ترغب في حلٍّ سياسي يُبقي النظام، بحدّ أدنى من التنازلات التجميليّة بأسرع وقت ممكن، فبذلت جهودها بأقصى ما تملك من إمكانات لإعادة تدوير النظام دبلوماسيًّا، ودفع الدول للمساهمة في تمويل عمليّات إعادة الإعمار عبر استغلال قضيّة عودة النازحين واللاجئين إلى أماكن سكنهم الأصليّة، ومنحت النظام التغطية السياسيّة اللازمة في مجلس الأمن في موافقتها الضمنيّة على تعطيله للعمليّة السياسيّة في جنيف، ودعمها لإجراء الانتخابات الرئاسيّة اللاشرعيّة والمخالفة لقرار مجلس الأمن رقم 2254(2015)، هذه الانتخابات إن تمّت فستكون كسابقتها التي جرت في العام 2014 التي أودت بسورية إلى الأوضاع الحاليّة.

إنّ كلّ هذه الجهود لم تحرز أيّ تقدّم ذي قيمة، فالرسائل التي صدرت عن جلسات مجلس الأمن الأخيرة وعن مؤتمر بروكسل، كانت جليّة وعادت بروسيا إلى المربع الأوّل الذي يصطدم بمطالبة المجتمع الدولي بضرورة التقدّم الفعلي في العمليّة السياسيّة، واشتراطه بدء تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) قبل رفع العقوبات أو الانخراط بتمويل أعمال إعادة الإعمار.

مجدّدًا، يستخدم النظام سياسات منهجية لمضاعفة معاناة الشعب، وتقوم روسيا  بإنذار المجتمع الدولي  بقرب انهيار مؤسّسات الدولة السوريّة، وحدوث الفوضى وخروج الأمور عن السيطرة، ممّا سيخلق موجات من اللاجئين باتّجاه دول الإقليم وأوروبا، إن لم ترفع العقوبات عن النظام، وحمّلوا المجتمع الدولي تلك المسؤوليّة، بينما يرى المجتمع الدولي أنّ روسيا تملك أكبر قوّة عسكريّة في سورية يقع على كاهلها مسؤوليّة ضمان الوصول المستمرّ للمساعدات الإنسانيّة الدوليّة التي تقدّر قيمتها ببلايين الدولارات دون عوائق إلى كلّ السوريّين وفي المناطق كافّة، دون إملاءات حكومة النظام على منظمات المجتمع المدني التي تؤدّي إلى حرمان قسم كبير من الشعب منها، كما أنّ انهيار مؤسّسات الدولة والفوضى التي يهدّدون بحدوثها ستكون روسيا هي أوّل من سيتأثّر بها، ومن سيترتب عليها حمل الأعباء المترتبة عنها. بالتالي سياسة شفير الهاوية التي اتبعت سابقًا باستخدام الإرهاب، وتُتبع الآن باستخدام العقوبات للتخويف من الانهيار، لن تعطي أكلها ولن تؤدّي إلى تبدل السياسات الدوليّة، فكلّ ما سينتج عنها هو المزيد من تعطيل العمليّة السياسيّة وإطالة أمد معاناة الشعب السوري وتعريض ما تبقى من كيان الدولة للتآكل، وسيضع ذلك روسيا في موقع لم ترغب في أن تجد نفسها فيه.

لطالما لعب النظام على عامل الزمن للخروج من أزماته، إلّا أنّ الزمن هذه المرّة لا يخدم مصالحه، وإنّ إعاقة العمليّة السياسيّة وإطالة أمدها لتمرير الانتخابات الرئاسيّة اللاشرعيّة المزعومة سيزيد أزمته تأزمًا، وتأمله بجني مكاسب محتملة من المفاوضات الخاصّة بإعادة تفعيل الاتّفاق النووي الإيراني هو أمل ضعيف، إن لم نقل هو معدوم، في ظلّ الموقفين التفاوضيّين الأميركي والإيراني، والذي يرجّح عدم إعادة التفاوض على بنود الاتّفاق بقدر التركيز على إعادة تجديده كما كان. وإن أخذنا في الاعتبار توتّر العلاقات الروسيّة – الأميركيّة، والصينيّة – الأميركيّة، فليس من مصلحة كليهما (روسيا والصين) إبقاء نقاط توتّر ثانويّة، لا سيّما إن كانت هذه النقاط تحمل مخاطر تورّط إحداهما في أعباء تستنزف مواردها سنوات طويلة، بينما لا تؤثّر على الطرف الأميركي ولا تشكّل عبئًا عليه، ولأن عنوان السياسات الصينيّة والروسيّة هو اعتماد الأمم المتّحدة وميثاقها وقراراتها كمرجعيّة دوليّة وعدم الانسياق لقبول السياسات الأميركيّة، كما يقولون، فالمخرج الوحيد الممكن في سورية هو عبر تطبيق قرار مجلس الأمن رقم 2254(2015) الذي وافقت عليه الدول دائمة العضويّة في مجلس الأمن، نصًّا وروحًا وفق تراتبيّته، ليس وفق القراءات التي تحرف نصّه، كما سمعناها خلال الأيّام القليلة الماضية.

في ظلّ هذه القراءة، لا يمكن للشعب السوري ولقوى الثورة والمعارضة أن تقف موقف المنتظر لحين تبلور السياسات الدوليّة، فهناك كثير من المهمّات الواجب إتمامها للمساهمة في بلورة التفاهمات الدوليّة والإقليميّة بما يخدم مصالحنا الوطنيّة، وفي تسريع التوصّل إلى تلك التفاهمات، يجب البقاء في دائرة الفاعلين لا المنفعلين، والقدرة على الفعل ترتبط بمدى بنائنا لقوانا الذاتيّة، ويجب التركيز على إصلاح الأخطاء التي تسببت في كثير منها سياسات النظام، وهذا يقتضي السير بعكس سياسات النظام التي اتّبعها ضدّ الشعب والثورة التي كانت تنطلق من مفهوم “فرّق تسُد”، فعمل على زرع الكراهية والحقد والشكّ بين السوريّين لجعل بعضهم عدوًا لبعض، وقام بتوظيف أكبر الموارد لترسيخها، ويجب الخروج من هذا الفخ الذي رسمه وخطّط له النظام، كما يجب الانتقال نحو العمل المنظّم الذي يعتمد على توزيع المهامّ والأعباء والتنسيق في الأعمال بما يؤدّي إلى تكاملها بين التنظيمات والأحزاب السياسيّة ومنظمات المجتمع المدني والحقوقيّة، داخل سورية وخارجها، كلٌّ في مجاله واختصاصه وبحجم موارده وقدراته، لتصبّ نتائج عمل الجميع في صالح إنجاز الكمّ الأكبر من هذه المهامّ لتحقيق الأهداف التي قامت الثورة من أجلها، لتحقيقها بأسرع وقت ممكن، ويجب نسيان وهم الحزب الواحد أو الجسم الواحد، وهدر جهود الجميع لمحاولة تشكيله، فهو سراب لا وجود له، يجب الاعتراف بتنوّع القوى الثوريّة والسياسيّة والمجتمعيّة، فهذا التنوّع هو ما يميّزها عن نظام اللون الواحد والفرد القائد الملهم، وهو أهمّ مصادر قوّتها إن تحوّلت من سياسة الإلغاء والإقصاء والتنافر والانغلاق، إلى سياسة الانفتاح والتنسيق والتكامل، ليتحوّل تركيزها من هدم ما أنجزه الآخر وتدميره، إلى التكامل معه، وهنا يأتي دور الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، ليقوم بدور المنسق بين هذه القوى الثوريّة والتنظيمات السياسيّة والمجتمعيّة وليس البديل عنها، وهذا يقتضي تحوّل هيكليّته التنظيميّة من هيكليّة هرميّة إلى هيكليّة شبكيّة، تتّسع لمساهمة الجميع في تحمّل الأعباء وإنجاز المهامّ وتحقيق الأهداف، وفق خطّة عمل مشتركة تساهم كلّ من هذه القوى والتنظيمات بوضع جزء منها، وبالرغم من الخلافات الأيدولوجيّة فإنّ الجميع متّفق على ضرورة تحقيق الانتقال السياسي، من نظام الاستبداد والإجرام والفساد، إلى نظام ديمقراطي قائم على التعدّدية السياسيّة والتداول السلمي للسلطة، والفصل المتوازن بين السلطات واستقلال القضاء وسيادة القانون، الجميع يريد تحقيق العدالة، ودولة المواطنة المتساوية، هناك الكثير ممّا يجمع السوريّين والقليل من النقاط الخلافيّة التي لن يعجزوا عن التوافق عليها. إنّ تحديد الإطار الأوسع من التفاهمات يؤدّي إلى تحديد أدقّ للمهامّ الواجب إنجازها وتوزيعها على القوى والتنظيمات والمؤسّسات التي تكون سندًا لبعضها البعض. إلّا أنّ تحقيق كلّ ذلك يقتضي إعادة صياغة الصراع، ليكون بين الشعب ونظام الإجرام والاستبداد الدكتاتوري، وهذا يتطلّب صياغة سليمة وواضحة للخطاب الإعلامي، وإعادة توجيهه لجميع السوريّين والسوريّات وللمجتمع الدولي بالتركيز على رؤيتنا وما نسعى لتحقيقه من تطلّعات مشروعة، وليس مبنيًا على المظلوميّة التي بات القاصي والداني يعلم بها، لكنّه يعلم القليل أو يملك رؤية ضبابيّة عن من نحن وما نريد تحقيقه، خطاب يطمئن السوريّين، ويبني الجسور بين مكوّنات وأطياف الشعب السوري التي باتت تعاني جميعها نتائج سياسات النظام، ليكون كلّ طيف من أطياف ومكوّنات الشعب السوري لبنة أساسيّة لا يكتمل دونه بناء سورية المستقبل، هذا الخطاب الجامع الذي من الممكن أن يجتمع عليه السوريّين بغالبيّتهم العظمى، هو الخطاب الذي يطمئن المجتمع الدولي حول توجّهات الشعب السوري لدولته المستقبليّة.

أما على الصعيد السياسي، عربيًّا، فيجب ألّا نهمّش الدور العربي فهو محيطنا الطبيعي، وعلينا العمل على تعزيزه وضمان مصالحه التي تتلاقى مع مصالحنا الوطنيّة، والعمل على بناء الجسور لا تعميق الهوّة، علينا أن نطمئنهم بأنّ مصالحهم الوطنيّة هي في أمان وضمن رؤيتنا وتوجّهاتنا، كما نعتقد أن تكون مكانة مصالحنا الوطنيّة لديهم. إقليميًّا، يجب أن نضمن المصالح الوطنيّة لدول الإقليم، لا سيّما الدول الداعمة لتطلّعات شعبنا، وأهمّها تركيا، بما يتلاقى مع مصالحنا الوطنيّة، وأن نزيل مخاوفها الأمنيّة ونقدّم الضمانات في سبيل ذلك، وننسج أفضل العلاقات معها. دوليًّا، يجب العمل على تعزيز شراكاتنا مع الدول التي تتلاقى مصالحنا الوطنيّة مع مصالحها بالحدِّ الأقصى. وكمبدأ عامّ السعي بأقصى جهد لتحييد الملفّ السوري عن الملفّات الخلافيّة بين الدول، وجعله في المنطقة الرماديّة التي يتلاقوا فيها على دعم تطلّعات الشعب السوري. ويجب علينا أن نعلم أنّ في السياسة لا يوجد صديق بالمطلق ولا عدو بالمطلق، وإنّما هناك تصنيف نسبي لكليهما، فمن كانت مواقفه معادية لتطلّعاتنا ومواقفنا بنسبة ثمانين بالمئة، واستطعنا تغييرها لتتوافق مع تطلّعاتنا ومواقفنا بنسبة خمسين بالمئة، فهذا يعدّ مكسبًا لنا، ومن هو صديق لنا بنسبة سبعين بالمئة، واستطعنا رفع نسبة صداقته إلى ثمانين بالمئة، فهذا ترسيخ للصداقة. بالتالي يجب السعي الدائم للتواصل مع الدول وعلى أوسع نطاق ممكن، لحشد التأييد لتطلّعات الشعب السوري.

في ما يخصّ العمليّة السياسيّة، وفي ظلّ تباطؤ المجتمع الدولي لا سيّما الدول ذات العلاقة بالمأساة السوريّة للوصول إلى توافقات لتحقيق الحلّ السياسي، الذي يسعى النظام بكلّ ما يملك للتهرّب منه والقضاء عليه، ليحوّل المفاوضات إلى عمليّة تفاوضيّة أمنيّة وعسكريّة بينه وبين الدول، لا بدّ من إبقاء العمليّة السياسيّة حيّة، كونها هي ما يُبقي قرار مجلس الأمن رقم 2254 (2015) حيًّا، فهو ضمان إبقاء المطالب الإنسانيّة والدستوريّة والقانونيّة والسياسيّة للشعب حيّة، وهو ما يثبت أنّه لا شرعيّة لهذا النظام، ويضع خارطة طريق للحلّ السياسي. لقد مضى الكثير وبقي القليل، ولكنّه الأشق والأخطر، يجب على السوريّين الثبات وشقّ طريقهم باستمرار نضالهم السلمي ضدّ الاستبداد والفساد والإرهاب ولتحقيق الاستقلال واسترداد سيادتهم على كامل أراضي دولتهم.

د. سميرة مبيض: سورية المستقبل: الانطلاق من الواقع السوري نحو بناء سورية الحديثة

لا بدّ بداية من الإشارة إلى ما قد يغيب عن أذهاننا في قراءة المشهد السوري، وفي الحديث عن سيناريوهات الحلّ، وهو وضع هذا المشهد في سياق التغيّرات الإقليميّة، ومن ثمّ في سياق الديناميكيّة الزمنيّة والتغييرات العالميّة الآخذة بالتسارع اليوم، حيث حُدّدت ملامح منطقة الشرق الأوسط، منذ قرن من الزمن تقريبًا، بناء على نتاج الحروب العالميّة، وطوال هذه الفترة الزمنيّة، لم تصل المنطقة إلى حالة من الاستقرار المستدام في ظلّ الأطر التي وضعت ضمنها، بل لبثت في صراعات داخلية، بالرغم من الغطاء الخارجي الذي أظهرته النظم المركزيّة والشموليّة المتحكّمة في المنطقة بمقدرتها على (حفظ الأمن) لكن واقع المجتمعات داخليًّا كان في تقهقر مستمرّ، وكان مولّدًا لتفكّك متزايد، ومُنشئًا لتيارات راديكاليّة على محاور عدّة فرضتها القوالب السياسيّة المؤطّرة للمجتمع.

من الحتمي أن يفرض التغيير نفسه في مثل هذه النظم، كجزء من مسار تطوّر الإنسانيّة عمومًا، ومع تراكم الأهوال التي أصابت المجتمعات في هذه المناطق، وتناقضها الهائل مع ما تتقدّم به وإليه البشريّة كلّ يوم، وبالرغم من صعوبة مسار التغيير الناجمة بدورها عن طول فترة الجمود والتراكمات المجتمعيّة السلبيّة، فإنّه مسار انطلق ووجد أرضيّة خصبة لاستقباله في دول المنطقة ومنها سورية. وعلى الرغم من المتاهة الطويلة التي دارت بها الثورة السوريّة على مدى عقد من الزمن، فإنّ هناك مفاتيح عديدة فرضت نفسها كجزء إلزامي من سيناريوهات الحلّ المستقبلي، ومن أهمّها:

  • – بناء الدولة السوريّة الحديثة وفق عقد اجتماعي تأسيسي أصيل وغير مشتقّ من الحالة السابقة.
  • – بناء الهويّة السوريّة وفق أسس معرفيّة سليمة، بالانطلاق من واقع الشعب السوري، هويّة تعدّدية القوميّات والمذاهب والثقافات والإثنيّات ذات ارتباط تاريخي وجغرافي بحضارات عديدة، وهو ما سعت لتغييبه الحالة الشموليّة السابقة.
  • – بناء نظام حكم جديد قائم على أسس اللامركزيّة ذات الصلاحيّات الواسعة في سورية، تحدّد وفق أسس جغرافيّة، وتضمن التناغم الاجتماعي والقدرة على العيش المشترك بين مختلف البنى المجتمعيّة في سورية.
  • – بناء حالة مدنيّة حياديّة تجاه الأديان والقوميّات والأيديولوجيّات، تكون قادرة على تحقيق التنمية والتقدّم والعدالة الاجتماعيّة على كل الصعد، وتضمن إنهاء وعدم إعادة إنتاج أيّ سلطة قمعيّة تحت أيّ مسمّى.
  • – إعادة تعريف العلاقة بين سورية والعالم، وفق أسس من الانفتاح والقدرة على بناء السلام العادل والاستفادة منه.

ترسم هذه النقاط السابقة المسار الزمني المتوسط المدى للمشهد السوري، في حين يتّسم الوضع الراهن بفشل العمليّة السياسيّة وبسعي الأسد لإجراء انتخابات رئاسيّة صوريّة، لإعادة تأهيل نفسه، بالتواطؤ مع التيارات التي دعمته في قمع الثورة السوريّة، وهو واقع يفضي إلى انقسام سياسي واضح وشبه نهائي بين مختلف المناطق السوريّة، بين مناطق خاضعة لسيطرة الأسد وماضية في موالاته، ومناطق خارجة عن سيطرته ورافضة لاستمراريّته، سواء في الشمال أو في الجنوب السوري، والواقعة تحت سيطرة قوى نفوذ مختلفة أخرى. يقود ذلك إلى غياب الشرعيّة لأيِّ انتخابات قد يجريها نظام الأسد خارج المناطق التي يسيطر عليها، وإلى انقطاع بين العمليّة السياسيّة التي تجري برعاية دوليّة، والتي يعتبر نظام الأسد جزءًا منها وبين مجريات الأرض ممّا يفسر الجزء الأكبر من جمود العمليّة السياسيّة اليوم.

من البديهي والمتوقّع أن ينتهي الواقع بفرض نفسه على العمليّة السياسيّة، وأن تحلّ مسارات قائمة على إيجاد حلول تستند إلى متطلّبات كلّ من المناطق السوريّة في المرحلة الحاليّة، وبشكلٍ خاصّ يمكننا تمييز ثلاث مناطق: منطقة شمال سورية، المنطقة الوسطى، والمنطقة الجنوبيّة. حيث تتّسم هذه المناطق بوجود قوى نفوذ مختلفة، وبوجود تيارات سياسيّة سوريّة تتبنى رؤى مختلفة في كلّ من هذه المناطق وبوجود بنى مجتمعيّة متمايزة ترتبط بكلّ من هذه المناطق.

في ظلّ هذه الأوضاع، يمكننا الحديث عن سيناريوهات حلول في سورية، وفق مرحلتين زمنتين ووفق مستويين جغرافيّين: المرحلة الأولى في المدى الزمني القريب تعتمد على إيجاد حلول ضمن القطاعات الجغرافيّة المختلفة على الأراضي السوريّة، ووفق خصوصيّة الأوضاع السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في كلّ منها. والمرحلة الثانية في المدى الزمني المتوسط، وتعتمد على إعادة بناء الدولة السوريّة الحديثة بما يتوافق مع واقع الشعب السوري ومع احتياجاته، ليُحقّق النهوض والتقدّم المطلوب، ومع ما يُحقّق العدالة والمواطنة المتساوية بالمطلق بين جميع السوريّين في إطار سورية كدولة واحدة ووطن نهائي لجميع أبنائها.

د. سمير العبد الله: الجمود هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب

هناك كثير من السيناريوهات التي يتمّ طرحها لتكون حلًّا في سورية، لكن حتّى الآن لم تثبت فاعليّة وإمكانيّة نجاح أيّ منها، فالقوى الفاعلة في الملفّ السوري حاليًّا هي التي تحدّد مسارات الحلّ السياسي كجنيف وآستانا وسوتشي، وحتّى مسار اللجنة الدستوريّة، التي لم ينتج عنها أيّ شيء ملموس.

وكانت أهمّ الأسباب لفشل الحلول السياسيّة التي تمّ طرحها، تعنّت النظام السوري، ومشكلة اللاجئين والمهجّرين والمعتقلين والتغيير الديموغرافي، والوجود العسكري الأجنبي في سورية، ومشكلة الفصائل المسلّحة، وفوضى السلاح على المستوى المحلّي، كذلك أمن إسرائيل والأطماع الإيرانيّة، وسياسات أميركا وبعض الدول الأوروبيّة الداعمة لبعض الجماعات الانفصاليّة، والسيطرة على المناطق الغنيّة بسورية. وكانت المعضلة الأكبر أنّ النظام وروسيا يعاملون كلّ شخص معارض وفصائل المعارضة كتنظيمات “إرهابيّة”، وأنّه يجب القضاء على تلك التنظيمات، وأن على المعارضين إجراء مصالحة مع النظام، وإعادة سيطرة النظام على كلّ سورية، هذا في ظلّ رفض تلك الفصائل المعارضة التعامل مع النظام السوري أو أن تكون شريكة معه بأيّ حلّ سياسي، في ظلّ بقاء رأس النظام السوري والمقربين منه بمناصبهم.

من تلك السيناريوهات المطروحة للحلّ السياسي حاليًّا:

سيناريو يطرحه النظام السوري وحليفاه الروسي والإيراني، ويقوم على بقاء رأس النظام، وإجراء انتخابات في الأشهر المقبلة، وهي التي تسعى روسيا لتسويقها ونيل اعتراف بها، وهذا ما تمّ أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لبعض دول الخليج، وعقب إجراء تلك الانتخابات، سيفوز بشار الأسد بالتأكيد، في ظلّ الأوضاع الحاليّة، ثمّ ربّما يتمّ تعديل بعض المواد الدستوريّة، ويقوم رأس النظام بإصدار عفو عن المطلوبين، والسعي بعد ذلك لإعادة تطبيع علاقات النظام مع المجتمع الدولي، والبدء بإعادة الإعمار، التي تسعى روسيا لأن تسهم فيها الدول الخليجيّة بشكلٍ كبير، لكن هذا السيناريو يجابه برفض دولي كبير، لأنّه لا يتمّ وفق القرارات الدوليّة، ولن يشكّل حلًّا للأزمة السوريّة، ولن يؤدّي إلى عودة اللاجئين واستقرار الوضع بسورية، ولن يقبل به السوريّون المعارضون والدول المؤيدة للمعارضة السوريّة. فالنظام يريد الهرب إلى الأمام من محاولة تغييره أو منعه من الترشح، في حال تمكّن اللجنة الدستوريّة من وضع دستور جديد ربّما يحرمه من الترشح لمنصب الرئاسة، وهذا سيناريو يتوقعه النظام في ظلّ المفاوضات الروسيّة العربيّة، أو الوصول إلى توافق روسي أميركيّ حول سورية. أمّا السيناريو الذي تطرحه المعارضة الممثّلة بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة، وهو أحد مكوّنات المعارضة السوريّة، فهو يقوم على إسقاط النظام، وتطبيق القرار الأممي 2254، على الرغم من تماهي الائتلاف الوطني مع روسيا، واشتراكه في المسارات التي أنشأتها (آستانا وسوتشي) لتكون بديلًا عن مسار جنيف.

وهناك سعي في الفترة الأخيرة لخلق مسارات جديدة، وإن لم تتّضح طبيعتها حتّى الآن، مع وجود رغبة في أن يكون هناك دور عربيّ أكثر فاعليّة، ومنها مسار الدوحة الذي شاركت فيه كلّ من تركيا وقطر وروسيا، والذي أكّد مجموعة من القضايا، منها وحدة سورية ومحاربة الأجندة الانفصاليّة، وزيادة المساعدات الإنسانيّة للشعب السوري، وسيتبيّن لنا مدى جدّيّة روسيا في هذا المسار، في جلسة اللجنة الدستوريّة القادمة، وعند انتهاء القرار الدولي الحالي الذي يسمح بعبور المساعدات الإنسانيّة عبر معبر واحد إلى مناطق المعارضة، وهذا ما دفع روسيا إلى السعي لفتح المعابر بين مناطق النظام ومناطق سيطرة المعارضة، حتّى تدّعي بعد ذلك أن لا حاجة إلى معابر مع مناطق المعارضة، وأن تمرّ المساعدات عبر مناطق سيطرة النظام، والمهمّ في هذا المسار هو استبعاد إيران كدولة ضامنة وشريكة بالحلّ السياسي في سورية. وظهرت كذلك سيناريوهات يتمّ طرحها إعلاميًّا، حتّى الآن، كالمجلس العسكري الانتقالي، أو مجلس عسكري/ مدني، لكن هذه السيناريوهات ما زالت إعلاميّة فقط، وفي حال توفر إجماع دولي عليها ربّما تكون فرصة لتجاوز الجمود الذي يعيشه المسار السياسي، وربّما يمكن تطبيق السيناريو الليبي، أي أن تسمّي الدول صاحبة النفوذ ممثّلين عن المناطق التي تحت نفوذها، ويتشكّل من خلالها مجلس حكم انتقالي بقرار من مجلس الأمن يشكّل فرصة للحلّ.

في ظلّ تلك السيناريوهات المتعدّدة، أعتقد أنّ الحلّ الأممي الذي يقوم على القرار 2254 ما زال هو الحلّ الأفضل، والحلّ القابل للتطبيق، حيث يقوم على انتقال سياسي برعاية الأمم المتّحدة، استنادًا إلى “بيان جنيف” و”بيانات فيينا”، لكن في عهد المبعوث الدولي السابق ستيفان ديمستورا، تمّ تقسيم القرار الأممي إلى أربع سلال سنة 2017، وكان ديمستورا أقرب للرؤية الروسيّة، وعمل على حرف مسار القرار، فأصر على البدء بالسلة الثانية، التي تقوم على وضع دستور جديد لسورية، وأن تكون مسارًا منفصلًا عن بقية السلال، وعدم تقييد العمل بأيّ جدول زمني، وقد شارك ديمستورا في مسارات تفاوضيّة منفصلة عن مسار جنيف في آستانا وسوتشي، حيث حاولت روسيا إفراغ “بيان جنيف” من مضمونه، لكنّها فشلت حتّى الآن، على الرغم من اشتراك بعض فئات المعارضة بتلك المسارات. ومع كلّ ذلك، ما زال مسار جنيف هو المفضل من طرف أغلب المعارضين السوريّين، وخاصّة أنّه تحت إشراف الأمم المتّحدة وتشارك به العديد من الدول المؤيدة للثورة السوريّة، بخلاف مساري آستانا وسوتشي التي بها تركيا وحيدة، ومازالت روسيا تدرك أنّ أيّ تسوية سياسيّة يجب أن تنال موافقة الأمم المتّحدة والمجتمع الدولي في النهاية، لذلك ترغب بأن تحصل على أكبر دعم دولي قبل تطبيق أيّ سيناريو، وهذا الذي مازالت تعوّل عليه مؤسّسات المعارضة.

أما بالنسبة للموقف الأميركي، فبعد الانتخابات الأميركيّة وفوز جو بايدن؛ هناك حاليًّا شبه جمود بالتحركات السياسيّة لإيجاد حلول لقضايا المنطقة، بانتظار موقف واضح للإدارة الأميركيّة الجديدة من قضايا المنطقة، ومنها القضيّة السوريّة، والموقف من إيران، وطبيعة الإجراءات التي ستتخذها من الملفّ النووي الإيراني التي ستنعكس بصورة مباشرة على سياسات إيران بالمنطقة، ومنها سورية، وهذا ما دفع بعض الدول العربيّة التي حاولت روسيا إقناعها بتطبيع علاقاتها مع النظام السوري، إلى رفض المطالب الروسيّة. ومن المحتمل أن تكون هناك مؤتمرات عديدة في الفترات القادمة، للعمل على إيجاد حلول للأزمة السوريّة، وذلك في حال جدّيّة الإدارة الأميركيّة الجديدة بإيجاد حلّ، لكن ما يبدو حتّى الآن أنّ السياسة الأميركيّة لن تتغيّر بشكلٍ كبير تجاه سورية، وستكون امتدادًا للسياسات السابقة، وخاصّة في عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما، بالرغم من كلّ ما يبديه المسؤولون الأميركيّون الجدد من تعاطف مع السوريّين، لكن ذلك لم يتعدّ نطاق التعاطف، وليس هناك خطوات جدّيّة حتّى الآن.

كلّ هذا في ظلّ الظروف الاقتصاديّة الصعبة التي تعيشها مناطق النظام، والسيطرة على قرار النظام من طرف الدول الداعمة له (إيران وروسيا)، وفشل المعارضة ومؤسّساتها في كسب تأييد شعبي كبير لها، وظهور كثير من المنصّات والتجمّعات التي ترفض احتكار مؤسّسة الائتلاف لقرار المعارضة. فالحرب والأزمة لن تستمرّ في سورية إلى ما لا نهاية، لكن الجمود ربّما هو السيناريو المتوقّع في المدى القريب، لكن لا مهرب من الحلّ السياسي، واستمرار التدخّلات الدوليّة والإقليميّة المتصارعة في سورية، وانسياق الأطراف السوريّة نحو إدامة الصراع هو ما يعقّد الوصول إلى تسوية سياسيّة، وعلى كلّ الأطراف السوريّة العمل ضمن إطار يتناول كلّ خيارات الحلّ السياسي لمستقبل سورية، والتعامل بطريقة واقعيّة وموضوعيّة، ليتجاوز الشعب السوري ما يعيشه من مأساة.

صباح الحلّاق: إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع

منذ أن واجه النظام السوري التظاهرات المدنيّة السلميّة، بكلّ آليّات القمع التي يملكها تاريخيًّا والتي استوردها من دول داعمة له مثل إيران، تغيّر مسار الثورة نحو التسليح والأسلمة، وبات تدخل الدول الإقليميّة واضحًا للعيان، وقد حرف ذلك ثورتنا عن أهدافها التي انطلقت من حناجر عشرات الآلاف من السوريّين والسوريّات في التظاهرات التي امتدّت إلى غالبيّة المدن والقرى السوريّة.

وتمّ تدخّل دول عظمى بالملفّ السوري تدخّلًا سافرًا مستخدمة حججًا لتغطية هذا التدخّل، ومنها حماية الحدود من الإرهاب، كتركيا، أو حماية الأكراد من قبل الولايات المتّحدة الأميركيّة وحماية إسرائيل في المنطقة الجنوبيّة، أو حماية المصالح الإستراتيجيّة والتوسّع في منطقتنا، كإيران، أو استعادة روسيا لمكانتها في العالم كدولة عظمى لديها امتدادات عسكريّة واقتصاديّة في سورية، إضافة إلى ميليشيات متنوّعة من دول عديدة وصولًا إلى وجود خمسة جيوش على أراضي سورية. وعلى ذلك؛ لم تبق أيّ إرادة لمعظم السوريّين والسوريّات في الوصول إلى حلّ سياسي عادل مبني على قرارات دوليّة، ويلبي مطامح الناس في الانتقال السياسي نحو دولة ديمقراطيّة يتمتع فيها الإنسان بحرّيّته وكرامته، بعد أكثر من خمسين عامًا من الاستبداد والدكتاتورية التي أدّت إلى كم الأفواه والتغييب والقتل والتشريد لملايين السوريّين والسوريّات.

ما العمل؟ هذا هو الهمّ الأساسي والرئيس لدى غالبيّة العاملين/ات بالشأن السياسي والمدني، عبر طرح أسئلة مفصليّة مبنيّة على دراسة واقع ما وصلنا إليه “بقلب حار وعقل بارد”، بعد عشر سنوات من انطلاقة الثورة متمسّكين بأحلامنا للأجيال قادمة. ونتساءل: هل نفقد الأمل في إمكانيّة استمرار النضال من أجل انتقال سورية لدولة المواطنة؟ إنّ الوضع المتردّي على المستوى السياسي الوطني والإقليمي والدولي، حيث باتت سوريّتنا أربع سوريّات جغرافيًّا، وتحت احتلالات أربعة وسلطات الأمر الواقع، يفقدنا الأمل في إمكانيّة استمرار النضال من أجل سيادة ووحدة سورية، إضافة إلى توسّع دائرة التعصّب الطائفي والقومي والمناطقي؛ وتراجع الحكومات المدّعية تمسّكها بحقوق الإنسان في الدفاع عن حقوقنا؛ وتحكم حكومات في أجندات معظم أطراف النزاع من النظام إلى المعارضة السياسيّة؛ وجمود المحادثات السياسيّة السوريّة بين أطراف النزاع لسنوات خلت؛ واستمرار النظام السوري في اللعب بالوقت في العمليّة الدستوريّة؛ وتراجع الأمم المتّحدة في مهامها بالملفّات الإنسانيّة وأوّلها ملف المعتقلين/ات والمفقودين/ات والمختطفين/ات وتركه بيد أمراء الحرب في آستانا؛ وتغيير في سياسات الدول العظمى تجاه قضيتنا، إذ لم تعد من أولويّاتها مثل السياسة الأميركيّة وبعض دول الاتّحاد الأوروبي؛ وازدياد حالات النزوح واللجوء نتيجة استمرار العمليّات العسكريّة وسوء الأوضاع الاقتصاديّة واستمرار السياسات الأمنيّة في معظم الجغرافيّات السوريّة، وليس لدى النظام فقط..

نعم، اللوحة سوداء من جميع الجوانب، وهذا يجعلنا أقرب إلى فقدان الأمل، لكننا بمراجعة تاريخيّة لتجارب دول عدّة مرّت بنزاعات مسلّحة وأهليّة واحتلالات، نجد أنّ الوضع في سورية، على قتامة المشهد، ليس بعيدًا عن هذه التجارب التي خاضتها شعوب هذه البلدان، ومن هنا تبدأ عقولنا بالعمل على وضع إستراتيجيات قصيرة وطويلة الأمد. إستراتيجيّات قصيرة المدى ذات بعد إستراتيجي طويل المدى، وهي حقّ السوريّين والسوريّات بالمشاركة في رسم خريطة التغيير المنشود، وذلك عبر عقد مؤتمرات وندوات وجلسات نقاش مستفيدين من إمكانيّة الوصول لمعظم السوريّين/ات عبر التقنيّات الإلكترونيّة، بحيث يتمّ لم شمل جميع المكوّنات السوريّة دون إقصاء أحد، كما جرى في تشكيل اللجنة الدستوريّة، وهذه الإستراتيجيّة تعزّز المبدأ المواطني في حقّ المشاركة.. إستراتيجيّة مصالح على المستوى الدولي، وهي حملات الضغط على صناع القرار بالملفّ السوري، وذلك بالاستفادة من كلّ المحافل الدوليّة، ووصول صوت السوريّين والسوريّات المطالب بالحلّ السياسي وفق القرارات الدوليّة، وتغيير الخطاب باتّجاه مصالح هذه الدول. حتمًا هناك من يقول إنّنا لم نقصّر في ذلك، وأنا أعلم، لكن قطرات الماء المتتالية تحفر الصخر، ونحن نعلم أنّ كلّ دولة متدخّلة بملفّنا لها مصالح مختلفة عن غيرها، ولذلك الخطاب سوف يتغيّر معها، وهذا بالطبع ليس تنازلًا عن مبادئنا، وإنّما تفاوضًا محرجًا مع الخصم، وفق ادّعاءاته بدعم سورية وأهلها.

ختامًا؛ هناك إستراتيجيّة بعيون نسويّة سوريّة أساسها العدالة للجميع، وهذه الإستراتيجيّة ترى أنّ لغة الدفاع عن حقوق وحرّيّات الإنسان يجب أن تكون شاملة لكلّ السوريّين والسوريّات، بغض النظر عن المواقف السياسيّة والأيديولوجيّة والقوميّة والمناطقيّة والدينيّة والمذهبيّة والجنس… بحيث تكون الرسالة أنّ هذه الحقوق والحرّيّات هي من حقّ ومصلحة الجميع دون استثناء، وبذلك يكون هذا الخطاب مقبولًا، ومثالنا هنا هو العدالة للجميع. برؤية موضوعيّة للحال الذي وصلنا إليه اليوم، نحن أمام جدار يشبه جدار برلين يعوق أيّ حلّ لقضيتنا، والحلّ مرهون بيد الدول ذات العلاقة بالملفّ السوري، وما أكثرها! لا كما تدّعي هذه الدول والأمم المتّحدة بأنّ هذا شأن سوري، والسوريّون/ات هم من يقرّر! ولن نستيقظ ذات يوم قريب ونرى اتّفاق هذه القوى لمصلحة السوريّين والسوريّات، إذ إن اقتسام الكعكة بينهم لم يكتمل بعد، وربّما سيأخذ وقتًا طويلًا تزداد فيه قتامة المشهد. ولكن هل ثمّة بقعة ضوء لإنهاء المأساة السوريّة على جميع أهل سورية؟ لا بدّ من ذلك، ولو بحلول لا تصل إلى طموحنا في المستقبل القريب. فقد هُدم جدار برلين.

د. خلدون النبواني: خطر ضياع سورية كدولة هو السيناريو الأقرب لنا

بواقعيّة، والواقع أسود، مع الأسف، إنّ السوريّين على اختلاف مواقعهم: مع الثورة، مع النظام، رماديّين، إلخ، هم جميعهم خارج اللعبة السياسيّة الحاليّة. المسألة السوريّة اليوم لا شيء سوريًا فيها سوى الاسم والضحايا، وأوّل الضحايا هو البلد. هناك قوى إقليميّة ودوليّة منخرطة بقوّة في الصراع على سورية، واستثمرت كثيرًا في هذه الحرب، التي لن تنتهي إلّا بتوافق هذه القوى أو بتصفية بعضها لبعضها الآخر. إذن لا يشي الواقع بمستقبل قريب للأزمة السوريّة حتّى ولو بدأت منذ الغد ملامح حلّ سياسي ترتسم في الأفق. ولكن هذه الرؤية المغرقة في سوداويّتها تكتفي بمراقبة الحاضر، بينما هذا الشلل السوري سيتعافى في المستقبل البعيد. ما أقصده أنّ ملامح الحلّ السوري ستكون بضمان القوى الخارجيّة المنخرطة في الصراع على سورية بمصالحها ومناطق نفوذها وتحكمها، ومن ثم ستعيش سورية من دون سيادة فعليّة حتّى بعد رحيل الأسد وسقوط نظامه بشكلٍ جزئي. على السوريّين أن يبدؤوا التحاور منذ اليوم، والانفتاح على بعضهم البعض، والتخلّص من عقيدة قتل الآخر وتكفيره دينيًّا أو سياسيًّا، فما هكذا يكون العقد الاجتماعي، عندما تكون هناك إرادة مشتركة للتعاون وتوازن في محصّلة القوى السياسيّة. على مثل هذا التوافق، يتوقّف مستقبل سورية والسوريّين، فإمّا الاستقلال والنهوض والبناء وإمّا استمرار الاقتتال السوري – السوري، وتقسيم سورية، إن لم يكن بحدود وفدراليّات، فبطوائف وتحزّبات تحصنها أبراج الكراهية والإقصاء.

بعد الحرب، ستكون سورية، بل هي منذ الآن، كحال ألمانيا بعد الحرب العالميّة الثانية، وأسوأ من حال لبنان بعد الحرب الأهليّة، أو حال العراق بعد دخول القوّات الأميركيّة. تتوقّف ردّة فعل السوريّين على النتيجة، فإمّا يحتذون -وفق ظروفهم وشروطهم- المسار الذي مشت به ألمانيا التي نفضت عبر سنوات طويلة آثار الحرب ثمّ توحّدت، وهي الآن القوّة الاقتصاديّة الأولى أوروبيًّا، وصارت مثالًا سياسيًّا ناجحًا تحسده معظم دول العالم المتقدّم، وإما أن يسيروا في طريق التدمير الذاتي الذي لم ينجح في الخروج من متاهته لبنان والعراق. ولأنّ حال العراق ولبنان أقرب لنا من حال ألمانيا، فإنّ خطر ضياع سورية كدولة وخطر ضياع حلم تأسيس نظام ديمقراطي مدني عادل هو السيناريو الأقرب لنا. ومن هنا تظهر خطورة الأمر، وبخاصّة أنّ الصراع السوري – السوري يؤكّد أنّنا إلى حدّ الآن -كسوريّين مشتّتين ومقسّمين وضائعين- نفتقر إلى الخبرة السياسيّة المتعلّقة بالإدارة والحكم وقبول الديمقراطيّة، ولا نملك الوعي القانوني والاجتماعي والقيمي للعيش كمواطني بلد واحد. لا شكّ في أنّ ذلك يعود إلى إخراج كلّ السوريّين من حقل الممارسة السياسيّة ومسح عقولهم بشكلٍ منهجي من قبل النظام الأسدي، على مدى خمسين عامًا، ولكنّ سنوات الثورة كشفت عن أُميِّة سياسيّة وعدم وجود قيادة قادرة على توحيد السوريّين.

قناعتي الشخصيّة أنّ مصالح القوى المتصارعة متّفقة -بالرغم من كلّ صراعاتها- على ضرورة بقاء الدولة السوريّة، وهذا شيء إيجابيّ جدًا بنظري، وسط كلّ هذا الركام. لكن علينا هنا أن نعيد لمفهوم الدولة معناه الإيجابي، بعد إزالة كلّ ذلك الصدأ الأسديّ الذي تراكم عليه. الدولة هي حجر الزاوية الذي تُبنى عليه سياسة بلد ما، وبدونه ينهار كلّ شيء. الدولة هي مؤسّسات وقوانين ممؤسّسة وليست نظامًا أو حكومة. الدولة نظام حكم قابل للتغيّر شعبيًّا ودستوريًّا، لكن لا يختزله نظام، وإنّما سلطات يتمّ تداولها سلميًّا في عمليّة يحكمها الدستور الذي يجب أن يقوم فعليًّا على إرادة الشعب مصدر شرعيّة السلطة أيّ سلطة وصاحب السيادة الحقيقيّة.

تاريخيًّا، الدولة كانت دائمًا موجودة، ولم يوجد عمليًّا مجتمع دون دولة إلّا في التنظيرات الطوباويّة لنظريّات الفوضويّين السياسيّين، وبعض التأويلات الماركسيّة التي انتهى تطبيقها إلى دول شموليّة قمعيّة. لكن قوّة الدولة تتناسب عكسًا مع وجود المجتمع المدني والفضاء العامّ، وفي الدكتاتوريّات تنتهي الدولة بالقضاء على المجتمع وغلق الفضاء العامّ بشكلٍ كلّي، وتحوّل الحكم إلى ملكيّة عائليّة، كما هو حال السلطات العربيّة.

ما الحلّ إذن؟ لا بدّ -برأيي- من الإبقاء على الدولة، وأن تكون الدولة قويّة بما يكفي بعد استبدال نظام الأسد، لتستطيع حماية القانون، الذي يجب أن يراعي مبادئ المواطنة والديمقراطيّة والعلمانيّة، ومن دونها لا يمكن إقامة ديمقراطيّة حقيقيّة في مجتمع متعدّد الأديان وغيبي، كالمجتمع السوريّ. لكن إذا كانت الدولة القويّة تنتهي إلى الاستبداد، فلا بدّ للشعب -ممثّلًا بالمجتمع المدني والتمثيل الديمقراطي- أن ينظم نفسه وينظم صفوفه ويفرض نفسه كقوّة حقيقيّة، تنافس مصالح الدولة كلّما انحرفت نحو الشموليّة والاستبداد. هنا يأتي دور السوريّين في تنظيم أنفسهم والتوافق على عقد اجتماعي والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطيّة. بعد جيل أو جيلين، يصبح المجتمع المدني قادرًا على أن يضمن استمرار سيرورة العمل الديمقراطي، فيصبح التوازن بين الدولة والمجتمع المدني تحصيل حاصل، ويدرك الشعب أنّ مصلحته تتجسّد في دولة قويّة ونظام حكم جمهوري أو ديمقراطيّ فعلي، يضمن العدالة والمساواة. إذن على السوريّين تربية أنفسهم، منذ الآن، على الانفتاح على بعضهم البعض وقبول نتائج الديمقراطيّة، ويدرك أنّ العلمانيّة هي شرط استمرار الديمقراطيّة في بلدنا. عندما ينجح الشعب في حماية الديمقراطيّة وقيم المواطنة يُصبح هو الحاكم الفعلي، ويصبح هو الضامن للدولة وليس العكس. عندها فقط يستقلّ البلد فعليًّا ويتحرّر من هيمنة قوى الخارج على مُقَدّرات البلد، ويقرّر هو مصيره بنفسه. لكي يتحقّق ذلك لا بدّ للسوريّين أن يعوا أنّ ما يحتاج إليه البلد لكي ينهض أن يعملوا أيضًا على التنمية والإصلاح الاقتصادي والاستثمار بالعلم والثقافة والفنّ، والتخلّي عن وهم التسلّح والحرب التي لم تقم إلّا ضدّ السوريّين وعليهم. هكذا أحلم في سورية المستقبل، وأخشى عليها من كابوس لبنان والعراق الذي قطع البلاد بين طوائف وإثنيّات وملوك طوائف يمثّلون مصالح الخارج فقط ضد الوطن.

واحة الراهب: استعادة اللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد

يجدر بنا الاعتراف بداية بتعثر مسار الثورة السوريّة، وعدم تمكّنها إلى الآن من تحقيق أهدافها وشعاراتها الأولى: حرّيّة، كرامة، ديمقراطيّة، الشعب السوري واحد، تخوين الطائفيّة، والشعار الأهمّ المرتبط حكمًا بالشعارات السابقة هو تحقيق السيادة والاستقلال، كشرط لا مناص منه لتحقيق شعاري الحرّيّة والكرامة. وكان قد رهنهما النظام بيد قوى الاستعمار القديم والحديث، ليضمن بقاء هيمنته عبر إجهاض حقّ شعبه بتحقيق تلك الشعارات ذاتها. وبالرغم من تمكّن قوى الثورة في البداية من السيطرة على سبعين بالمئة من الأراضي السوريّة، وبالرغم من أنّها كادت أن تنتصر لو أنّ شرط السيادة واستقلال القرار الثوري كان محقّقًا آنذاك، فإن عدم تجذّر الموقف الثوري تجاه هذا الشرط منع تقدّمها في دمشق وفي جبهة الساحل، وهما الجبهتان اللتان كانتا كفيلتين بحسم المعركة، لولا الارتهان لقرارات الخارج. وهذا ما كشف منذ بداية الثورة أنّ التفريط بثوابتها هو ما أدّى بها إلى انتكاسات متوالية؛ إذ تمّ اختراق الثورة عبر تسليحها القسري الناتج عن السماح باستفحال جرائم النظام بحقّ المتظاهرين العزل والسلميين، على مرأى ومسمع العالم أجمع المدّعي صداقته للشعب السوري، وإلى سيطرة الإرادة الخارجيّة المموّلة للتسليح، وتحكّمها في أطراف الصراع المتعدّدة ومصادرة قرارها السيادي، والعمل على تصعيد التطرّف الديني بعد عسكرة الثورة، ودفع الساحة إلى الانقسامات الداخليّة والارتهانات والتجاذبات للأطراف الخارجيّة أكثر. وقد برهنت جميعها أنّها غير معنيّة بانتصار ثورتنا.. بل على العكس من ذلك، إذ حتّى من اِدّعى صداقته للشعب السوري زيفًا، كالحليف الأميركي، غضّ الطرف عن استخدام النظام للسلاح الكيمياوي لإبادة شعبه، كخط أحمر ادّعاه الرئيس الأسبق باراك أوباما آنذاك لا يمكن للنظام تجاوزه! وعمل لتفريغ الثورة من محتواها المبدئي أيضًا، كما عمل على شرذمتها وتضييع بوصلتها عبر شراء الذمم، وعبر تسليح المتطرّفين على حساب الجيش الحرّ وأبناء الثورة الحقيقيّة، وعلى إدخال المال السياسي في لعبة فرز القيادات والممثّلين المزيّفين لقوى الثورة.

أظن أنّ سيناريوهات الحلّ المفترضة باتت تحتاج إلى العمل بنفس طويل وجهود أكثف، لرأب التصدعات المتعدّدة التي حصلت، في ظلّ فشل العمليّة السياسيّة والتحضير للانتخابات الرئاسيّة، ومحاولات الروس -بل العالم أجمع- تعويم نظام الأسد وإعادة تدويره، كما سبق لهم تعويم أمراء وزعماء الحرب الأهليّة في لبنان ليحكموه إلى يومنا هذا، بالرغم من تلطخ أيديهم بدماء شعبهم، وكاد هذا السيناريو أن يصبح حقيقة وهدفًا للقوى المتحكّمة بلعبة الصراع على سورية، لولا تجذّر الإيمان بثورتنا عند أغلب أبناء شعبنا من الثائرين الحقيقيّين، على الرغم من كلّ ما تعرّضوا له من تجويع، وتهجير، واضطهاد، وإبادة.

ولتحقيق أيّ مكسب جديد على الأرض، ليس هناك من مندوحة عن استعادة القرار السيادي بعيدًا عن لعبة التجاذبات التي أدّت إلى الارتهان للخارج.. مهما طال أمد النصر، واعتماد الحلّ السلمي واستعادة فاعليّة التظاهرات السلميّة، بعيدًا عن التسلّح الذي يفرض علينا قسرًا الارتهان للجهة الداعمة للتسليح، وهو أمر لم يكن متكافئًا في ظلّ امتلاك النظام لسلاح الطيران والسلاح الكيمياوي، وفي ظلّ دعم قوى العالم وحمايتهم له. ولن يكون كذلك إلّا عبر عمليّات خاطفة لما يشبه حرب العصابات، تستنزف العدو بتكتم دون الاضطّرار إلى المواجهة غير المتكافئة معه، إن كان لا بدّ من العمل العسكري لزعزعة أمن النظام.

وهنا لا مناص من استعادة التكاتف واللحمة الداخليّة لبناء عقد اجتماعي جديد، يفرض بالضرورة تصحيح الخطاب الثوري الذي ابتعد به المغرضون عن كونه جامعًا موحّدًا، يساوي بين أبناء الوطن الواحد في دولة المواطنة القانونيّة الديمقراطيّة، والحياديّة العادلة تجاه جميع أبناء الوطن الواحد، مهما اختلف رأيهم أو دينهم أو طائفتهم أو عرقهم أو جنسهم، وإيجاد حلّ عادل للمشكلة الكرديّة ضمن إطار سيادة سورية ووحدة أراضيها، ونبذ كلّ المشاريع التقسيميّة التي تضعفنا ولا تقوينا، سواء أكانت إدارات ذاتيّة أو فدراليّة أو غيرها من المشاريع، إن كانت تقوم على تقسيم البلد الواحد، المقسّم أصلًا في السابق بحكم اتّفاقيات كـ (سايكس بيكو) وغيرها من الاتّفاقيات الاستعمارية التي أضعفتنا وشرذمتنا ليسهل التحكّم فينا عبر عملاء لهم نُصِّبوا رؤساء، دون الحاجة إلى استعمارنا مباشرة كما حدث سابقًا، لأن تلك المشاريع ليست قائمة على توحيد دول وولايات كبيرة ضمن كيان واحد يقوّيها أكثر ممّا يضعفها، كما في الولايات المتّحدة الأميركيّة والاتّحاد السوفيتي سابقًا.

علينا أن نكون متبصرين لكلّ ما يُخطّط لنا ويحاك لشعوبنا في الخفاء وفي العلن، بوعي كامل بمسؤوليّتنا عمّا يحدث لنا، فأيّ مخطّط -مهما كان خبثه وخفاؤه- قد لا يجد له موطئ قدم عند الشعوب المسؤولة الموحّدة الواعية، التي تستبصر مصيرها وتتهيأ لكلّ الخطوات القادمة قبل وقوعها، عبر تكاتف أبنائها وتعادلهم في الوقوف على أرض صلبة تطلق طاقاتهم بحرّيّة ومساواة، وعبر دعم وجود مراكز للبحوث والدراسات الإستراتيجيّة والترجمات.

وكذلك يجدر العمل الحثيث على خلق منبر إعلامي حقيقي، يوصل صوت الثورة وأهدافها الحقيقيّة، لا ما يُصَدّر لنا من الخارج ليوسموا بها ثورتنا زيفًا وبهتانًا. منبر كهذا كان له أن يمنع تشويه أهداف ثورتنا ويحافظ على جوهرها، وكان له أن يُحقّق إجماعًا علنيًّا مضادًا للتجييش الإعلامي الممهد لإجراء الانتخابات المزيّفة للنظام وفضح انعزاليّته، بدلًا من أن يعزلنا هو بامتلاكه في منابر إعلاميّة محلّيّة وعالميّة عدة تروّج له وتدعمه. كما يجدر بنا استغلال كلّ المنابر الإعلاميّة ووسائل التواصل الاجتماعي المتاحة، لتحقيق مقاطعة حقيقيّة لانتخابات النظام المزيّفة على كلّ الأصعدة، ولمقاطعة أيّ انتخابات أو حلول خارج أولوية الانتقال السياسي، والعمل على فرض الالتزام بقرارات “بيان جنيف” (2012) والقرار 2254 (2015) الملزمة بإنهاء الاستبداد، وإنهاء حكم بشار الأسد والنظام القائم، وتشكيل هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيّات، تعمل لبناء دولة المواطنة القانونيّة الحياديّة العادلة، ينتج عنها لجنة لدراسة دستور جديد يُستفتى عليه بظلّ حكومة منتخبة، قبل أيّ إجراء آخر يضيع الهدف والبوصلة، كما حدث بتسبيق سلة الدستور واللجنة الدستوريّة على الانتقال السياسي، ما أدّى إلى ضياع الوقت والانحراف عن مسار الثورة الحقيقي. فأيّ دستور يمكن له أن يتحقّق في ظلّ وجود بضعة احتلالات لسورية تتحكّم فيها وبمصيرها، وفي ظلّ عدم وجود انتخابات أو حكومة انتقاليّة منتخبة من الشعب، تستفتى على هذا الدستور بعيدًا عن إشراف دول الاحتلال، التي لا يمكن لها إلّا أنّ تصنع دستورًا على مقاس مصالحها، المضادّة لمصالح الشعوب والمجهضة لحلمهم بنيل حرّيّتهم. كما يجب العمل على سحب البساط من تحت أقدام كلّ المنتفعين من استمراريّة الحرب، من الفصائل المسلّحة والمرتزقة، داخليًّا وخارجيًّا، عبر فضحهم وكشف مدى ارتزاقهم والجهات المموّلة لهم، وإعادة هيكلة الجيش وقوى الأمن، لتلتزم بحدود واجباتها المنوطة بها قانونيًّا، بعيدًا عن الانتماء السياسي. أظن أنّ الاختبار الحقيقي لعودة الحراك السلمي لقوى الثورة، باتّجاه التغيّر الجذري، سيثبت مصداقيّته على محك العمل على ملف المعتقلين والمفقودين الذين لا صوت لهم، بالرغم من أنّهم يفتدوننا بحياتهم وبتضحياتهم الجسيمة، وعلى إعادة المهجّرين وتحقيق العدالة الانتقاليّة.

في النهاية، على الرغم من الإحباطات المتتالية وتعثر تحقيق النصر إلى الآن، وتشرذم القوى على الساحة الوطنيّة وبعثرتها، باتّجاه البحث عن قيادة ذات كاريزما لا تغني ولا تشبع شعبًا قادرًا على خلق أعظم القيادات، حين يتوفّر له المناخ الحرّ الديمقراطي المساوي بين جميع الأبناء والبنات.. كما بان ذلك جليًّا مع بدايات الثورة؛ فإنّنا كشعب لم نستسلم حتّى الآن، ولن نستسلم لحكم الطغاة، ما دمنا نمتلك الأمل بتحقيق نصرنا، الأمل وحده قيد التحقّق الدائم في حياتنا كلّ لحظة رغمًا عن أيّ يأس. ولم يتمكّن تحالف العالم أجمع طوال عشر سنوات من الإطاحة بأملنا وبحلمنا هذا.. بالرغم من دعمهم غير المسبوق لنظام القتل والإبادة، وبالرغم من محاولتهم إعادة تدويره وفرضه بالقوّة علينا، وستفشل كل محاولات تسعى لانتزاع حلمنا بالنصر، إذ ما زال شعبنا إلى الآن يهتف لثورة الحرّيّة والكرامة، ويتنفسها بملء رئتيه إيمانًا وأملًا متجدّدين لا يهمدان. إن لم يكن لثورة كهذه أيّ مأثرة عظيمة، وما أكثرها بثورتنا! يكفيها شرفًا أنّها كسرت حاجز الخوف الذي استحكم النظام من خلاله شعبنا، وحوّل الناس إلى عبيد يعجزون حتّى بأحلامهم عن الانعتاق من عبوديتهم. ويكفينا شرفًا انتمائنا إليها بكونها ثورتنا على ذاتنا وعلى خوفنا أوّلًا وقبل كلّ شيء. كما هي ثورة لنيل الحرّيّة مستمرّة، مهما طال الزمن، ستبقى حيّة متوقدة كفكرة، تشعلنا كلّما خبا لهيبنا، والفكرة لا تموت والأمل بها لا ينطفئ إلّا مع انطفاء الحياة.

عز الدين الملاالحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين

تحوّلت الأزمة السوريّة خلال سنواتها العشر إلى مستنقع راكد، كلّما امتدّت سنواتها زادت روائحها النتنة، نتيجة هذا الكمّ الهائل من الميليشيات والفصائل والتنظيمات الموجودة فيها، إلى جانب عدد وحجم الدول المتداخلة في الشأن السوري. أمّا الشعب المنهك، اقتصاديًّا ومعيشيًّا وأمنيًّا، فلم يبقَ له دور أو مكان في كلّ ما يجري، بعد أن كانت له اليد الطولى في الشرارة الأولى لثورة حقيقيّة ضدّ نظام دكتاتوري مجرم حوّل سورية إلى مزرعة خاصّة.

الأزمة السوريّة زادت تعقيداتها ومتاهاتها بتدخّل وتشابك مصالح وأجندات دول إقليميّة ودوليّة، فمنذ البداية حتّى الآن، تمّ تغيير أربعة مبعوثين خاصّين من الأمم المتّحدة، وكلّ مبعوث يعتذر بعد أن يصل من جراء تقاطعات مصالح الدول المتداخلة في الوضع السوري إلى طريق مسدود، وذلك بسبب عدم وجود إرادة دوليّة للحلّ، وهذا الاستعصاء أدّى إلى خلق مناخ جليدي داخل مجلس الأمن الدولي، لذلك كانت خطوط المواجهة بين هذه الدول تتغيّر بين فترة وأخرى. أمّا خطوط المواجهة بين الدول المتداخلة بشكلٍ مباشر، فإنها لم تتغيّر خاصّة خلال السنة الماضية، حيث كانت سياسة كيل الاتّهامات هي المسيطرة على المشهد العامّ، وهذا مؤشر إيجابي للبدء بالخطوة الأولى نحو الحلّ السياسي.

عندما اشتعلت الأزمة السوريّة، بدأت بثورة قام بها السوريّون لرغبتهم في الخروج من تلك السنوات الرهيبة التي عاشوها تحت رحمة جلادي النظام الدكتاتوري المجرم، وسرعان ما تحوّلت تلك الثورة إلى حركة احتجاجات واسعة شملت جميع الأراضي السوريّة، فتدخّلت الدول العربيّة من خلال الجامعة العربيّة لحلحلة الوضع السوري، ولكن تعنّت النظام وعدم استجابته للمطالب الشعبيّة أدّى إلى فشل الوساطة العربيّة. وكان أن تمّ تدول الملفّ السوري بعد “بيان جنيف” في 2012، الذي نصّ على تأسيس هيئة حكم انتقاليّة كاملة الصلاحيّات، وبقي هذا البيان الأساس في أيّ حلّ سياسي للأوضاع في سورية. ودُعمّ البيان في عام 2015 بالقرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن، الذي نصّ على أربع سلال للحلّ السياسي في سورية، غير أنّ النظام تحجج بمحاربة الإرهاب وجعله أولوية، ومن ثمّ توالت جولات المفاوضات في جنيف دون الوصول إلى أيّ تسوية، فبدأ بموازاة هذه المفاوضات مؤتمر آستانا الذي رعته روسيا، وهذا أيضًا تلاحقت سلسلته حتّى وصل إلى إعلان ترحيل جميع أوراق آستانا إلى جنيف، لدعم الحلّ السوري، وبالرغم من ذلك استمرّت الأزمة دون ظهور لأيّ بوادر الحلّ في الأفق.

كلّما طال أمد الأزمة السوريّة، زادت التدخّلات والتعقيدات، لذلك أعتقد أنّ ما وصلنا إليه ليس صدفة، بل هو مدروس ومخطّط له من أطراف دوليّة، هنا نسأل سؤالًا جوهريًّا: ما دمنا كمعارضة نتفاوض مع النظام منذ فترة طويلة، فلماذا يستمرّ كل هذا الدمار والخراب، بعد أن خرج السوريّون في آذار/ مارس 2011 مطالبين بالحرّيّة وإسقاط نظام الأسد؟

وهنا، أؤكّد أنّ الدول الكبرى استغلّت مطالب السوريّين بالحرّيّة والكرامة لمآربها ومصالحها، وهم المسؤولون الرئيسيّون عن كلّ ما حصل ويحصل. لذلك -كما قلنا في بداية حديثنا- إنّ الدول المتداخلة بالملفّ حقّقت اليوم ما كانت تصبو إليه، وفي مقدّمته تدمير البنية التحتيّة لسورية، وهذا يعطي هذه الدول دفعًا نحو المطالبة باستثمارات اقتصاديّة وتنمويّة، يُدرُّ عليهم مليارات الدولارات. ومن ثمّ فتح الطريق أمام الهجرة نحو أوروبا ما يتيح لهذه الدول تجديد شبابها من خلال أطفال سورية. وستجعل تلك الدول الكبرى من سورية سوقًا لتصريف منتجاتها مستقبلًا. أخيرًا، وهو الأهمّ، إنّ هذه القوى التي صارت محتلّة لأراضي سورية بعد أن جلبها النظام لمؤازرته شدّدت قبضتها على خيرات البلاد الاقتصاديّة والبشريّة. ولا يفوتنا ذكر أنّه في السنوات العشر الماضية من العمليّات العسكريّة، دخل الأراضي السوريّة فصائل وميليشيات إرهابيّة تحت مسمّيات كثيرة، أحرقت الأخضر واليابس، ودمّرت البشر والحجر، وشوّهت الأخلاق والدين والأسلوب، وحاربت الشرفاء والوطنيّين والمناضلين ودافعت عن اللصوص والعملاء، كما شوّهت الحقائق، وجعلت من المواطن السوري في نظر العالم مرتزقًا ومنبوذًا بعد أن كان السوري مضرب مثل في العالم في الغيرة والأخلاق والتسامح وحب الآخرين، كلّ هذا التشويه قام به النظام والعالم أجمع.

إنّ العمليّة السياسيّة فشلت فشلًا ذريعًا، أمام عدم وجود إرادة دوليّة للحلّ السياسي، وروسيا التي تدخّلت في الشأن السوري عسكريًّا عام 2015، إلى جانب إيران، يقلقها اليوم بشكلٍ كبير التمدّد الإيراني في سورية والمنطقة، وباتت تراه يهدّد مصالحها في شرق المتوسط، بعد أن حافظت على بقاء نظام الأسد ومنعته من السقوط، دافعة بكامل قوّتها لإضعاف المعارضة الوطنيّة، وهو ما نجحت فيه بعد أن حالت دون أن يكون نظام الأسد ضمن التسويّات المستقبليّة لسورية، وهي الآن تعمل على إضفاء الشرعيّة عليه، من خلال إجراء الانتخابات في موعدها المحدّد، لكن الضغط الأميركي والأوروبي قد يحول دون إجرائها في موعدها، وقد تبحث روسيا والنظام عن حجّة لتأجيلها، إن زادت الضغوط بخاصّة من طرف إسرائيل. أمّا الولايات المتّحدة الأميركيّة، فإنّها خلال فترة ولاية الرئيس السابق دونالد ترامب كانت تتخبّط في سياساتها الدوليّة، وأزعجت العديد من دول العالم وخاصّة حلفاءها، أمّا الآن، بعد تولي جو بايدن رئاسة الأميركيّة، فهناك بعض الأريحية للجميع، والمعروف عن بايدن خبرته الطويلة في مضمار السياسة العالميّة ومعرفته بمفاتيح العديد من الأمور، وقد تشهد فترة رئاسته تطوّرات إيجابيّة على مستوى الشرق الأوسط. وهناك أولويّات أميركيّة في السياسة الخارجيّة، مثل الملفّ النووي الإيراني والملفّ الأفغاني والخليجي، ومن الملاحظ أنّ أميركا ستقوم بترتيبات وتكتيكات جديدة، ومن الممكن أن يصبح الملفّ السوري من الملفّات الإستراتيجيّة في الخطّط الأميركيّة القادمة، ويظهر ذلك جليًّا في بقاء قوّاتها في سورية وتصريحات مسؤوليها بأنّ للإدارة الأميركيّة توجّهات جديدة في الشأن السوري.

وفي النهاية، يمكننا التأكيد أنّ الوضع السوري، بعد عقد من الزمن، لم يبقَ يتحمّل المماطلة والتأجيل، خاصّة أنّ الوضع الاقتصادي في تدهور كبير، وقد تنهار جميع مؤسّسات الدولة إن استمرّت الحال على هي عليه، وإن لم يتّجه الملفّ السوري نحو الحلحلة، بعد أن أنهكت الأزمة الجميع. باعتقادي الحلول النهائيّة ليست بيد السوريّين لا المعارضة ولا النظام، فهما أصبحا أجندات للخارج، وهذا ما أرادته الدول الكبرى، بحيث تتنازل الأطراف السوريّة عن مطالبها ويبقى رسم سياسة ونظام حكم جديد لسورية حسب رؤية هذه الدول بخاصّة أميركا وحلفائها وكذلك روسيا ومن خلفهم إسرائيل.

بسام طبلية: سيناريوهات للخروج من هذا الاستعصاء

بعد استمرار اغتصاب نظام آل الأسد للسلطة في سورية، وممارسة سياسيّة التصحّر الفكري والسياسي والاقتصادي، واعتبار سورية مزرعة لهم، وبعد كلّ هذا الفقر والجوع؛ كان لا بدّ لثورة الحرّيّة والكرامة أن ترى النور في آذار/ مارس 2011، فكانت الجماهير الغفيرة تشارك في التظاهرات، حيث خرج الناس في المدن وشاركوا وساندوا هذه التظاهرات، ولكن سرعان ما بدأ القمع والقتل بالرصاص الحي، لإسكات المتظاهرين وتكميم الأفواه، وكان القتل سيدَ الموقف لأشهر معدودة، بحصيلة يوميّة لا تقلّ عن مئة شهيد يوميًّا، وعندما أدرك الأسد أنّ نظام حكمه ساقط لا محالة؛ عمد مباشرة إلى نشر السلاح بيد المدنيّين وافتعال الجرائم وإخافة الأقلّيّات بوساطة عناصر مؤيدين له، وبافتعال التفجيرات والتصريحات الطائفيّة، إضافة إلى استقدام الإسلاميّين من دول عربيّة، مثل تونس وليبيا وغيرها (ذلك تمّ توثيقه من قبلنا) ومصادرة جوازات سفرهم واعتقالهم من على الحدود، عندما استقدمهم هو بنفسه، لكي يُظهر للعالم أنّه يحارب الإسلاميّين الإرهابيّين، إضافة إلى الاعتقال غير القانوني والإخفاء القسري لعشرات الآلاف من السوريّين، وفي ظلّ هذا الوضع، بدأ نظام الأسد بخسارة الأرض، وخسارة كثير من الرماديّين الخائفين على مصيرهم ومصير أولادهم، بسبب آلة البطش والقمع. لكن مع تدخّل روسيا عسكريًّا واتباعها سياسة الأرض المحروقة، ومع دعم الميليشيات الشيعيّة بشكلٍ أكبر، بدأت موازين القوى العسكريّة تتغيّر لمصلحة النظام، فبعد أن كان النظام آيلًا للسقوط خلال أسبوعين، كما ذكرت التصريحات الروسيّة والإيرانيّة، وبعد أن كانت المعارضة تسيطر على أكثر من 70% من الأراضي السوريّة، بدأ التفوق العسكري الروسي – الإيراني يتّجه لمصلحتهم وليس لمصلحة النظام، ما جعل الأخير يبدو في موقف التابع للإملاءات الروسيّة الإيرانيّة من دون أن يحاول تقديم تنازلات سياسيّة لشعبه، حيث آثر تقديم هذه التنازلات لمصلحة الجيوش الأجنبيّة بدلًا من تقديمها لشعبه، وفي ظلّ هذا الوضع المستعصي، مع وجود الجيشين الأميركي الداعم لقوّات سوريا الديمقراطيّة، وكذلك وجود الجيش التركي الداعم للجيش الوطني الحرّ، يبقى الأمر مستعصيًّا على الحلّ، وتبقى المقترحات التالية هي بعض الحلول الإستراتيجيّة للخروج من هذا الاستعصاء للثورة/ الأزمة السوريّة.

الورقة القانونيّة: العمل على تفعيل الورقة القانونيّة، ومن ضمن ذلك إقامة الدعاوى القانونيّة بمواجهة الأسد ونظامه بما اقترفت أيديهم من جرائم، وإظهار أنّه قد اقترف جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانيّة، بحيث يصبح التعامل مع الأسد وكلّ من يتعامل معه ضمنيًّا يقع ضمن دائرة أنّه إرهابي أو أنّه يدعم الإرهاب، ومن ثم العمل بشكلٍ حثيث على عدم تعويمه أو إعطائه أيّ شرعيّة.

الإعلام: تفعيل الماكينة الإعلاميّة للترويج بأنّ بشار الأسد غير شرعي، وأنّه مجرم حرب ويجب محاكمته. وتأييد الشعب والمطالب الشعبيّة بإعلان أنّ الشعب السوري قال كلمته، بأنّ الأسد غير شرعي ومغتصب للسلطة في نظر السواد الأعظم من الشعب السوري، وأنّ من هم في الداخل السوري من أبناء الشعب ليسوا أحرارًا برأيهم، وهم تحت طائلة الاعتقال وقمع أيّ تحرك شعبي، وقد شاهدنا ذلك أخيرًا من خلال منع الجبهة الوطنيّة التقدّمية (جود)، وهي التي تعدّ الأكثر تراخيًّا في صفوف المعارضة نظرًا لوجودها في الداخل، من إتمام انعقاد مؤتمرها التأسيسي، ومنع ممارسة أبسط الحقوق الشعبيّة في التعبير عن الرأي الذي صانه الدستور السوري كما الدساتير الدوليّة. كذلك على الماكينة الإعلاميّة المعارضة إظهار الوجه الأسود والحقيقي للأسد، خاصّة بعد معاناة الشعب والسرقات التي قام بها هو وأركان نظامه، وفضح هذه السرقات، ومنها المساعدات الإغاثيّة الأمميّة التي تبيّن أنّه يُجيّرها لمصلحة جيشه وميليشيّاته. والتأكيد أنّ الانتخابات إذا ما قام بها الأسد فإنّها ستكون غير شفافة، وبيان أنّ الناخب غير محدّد وغير معروف، خاصّة بعد منح الجنسيّة السوريّة بشكلٍ التفافي لعدد كبير من عناصر الميليشيات الشيعيّة التي كانت تقاتل إلى جانب نظام الأسد، وكذلك لعدم إمكانيّة عقد الانتخابات في جو سليم وصحي، خاصّة أنّ كثيرًا من السوريّين، إمّا بلغوا سنّ 18 سنة وليس لديهم وثائق ثبوتيّة، وإما أنّ مئات الآلاف منهم معتقلون أو متوفون.

لوبي معارض: العمل على تشكيل لوبي يمثّل قوى المعارضة بشكلٍ حقيقي، ليمثّل مصالح الشعب ويتفهم المصالح الدوليّة ومخاوف الدول الأخرى.

جسم واحد ممثّل شرعي للشعب: دعم قوى المعارضة ودفعها إلى تشكيل جسم سياسي جديد يتمّ الاعتراف به كممثّل شرعي جامع لكلّ السوريين. ومن ثمّ دعم شخصيّة غير جدليّة متوافق علها من المعارضة لقيادة المرحلة.

هيئة حكم انتقالي: الإعلان عن تشكيل هيئة الحكم الانتقالي ذات صلاحيّات تنفيذيّة كاملة، تقوم بإعلان دستوري يمكّنها من تولّي شؤون الحكم خلال المرحلة الانتقاليّة، وتعمل على تأمين البيئة الآمنة والمحايدة من أجل سلامة عمليّة الانتقال السياسي. والعمل على تهيئة وخلق البيئة الآمنة التي نصّ عليها القرار الأممي 2254. كذلك العمل على تهيئة وتدريب نظام قضائي جديد (وكذلك شرطة قضائيّة)، يتميّز بالشفافيّة والحياديّة للتخفيف من معاناة الناس من جراء الفوضى التي لحقت بهم.

تنفيذ القرارات الأمميّة: العمل بشكلٍ منهجي وقانوني على تطبيق القرارات الأمميّة، بما فيها بيان “جنيف1” والقرار 2254.

العدالة الانتقاليّة: العمل على تفعيل مفهوم العدالة الانتقاليّة ومحاسبة المجرمين من كلا الطرفين.

ويبقى الباب مفتوحًا للعديد من الاقتراحات والحلول، باعتبار الظروف السياسيّة غير مستقرّة ومتغيّرة. ولأنّ الشعب هو من يدفع الثمن الأكبر في هذه الظروف، تبقى الولايات المتّحدة هي الدافع الحقيقي لأيّ حلّ تريده، ذلك أنّ كثيرًا من دول العالم تقف جنبًا إلى جنب مع أيّ حلّ تقترحه الإدارة الأميركية. ويبقى على أهلنا في الداخل أن يقفوا اليوم موقف الرجل الواحد، ضدّ هذا النظام الذي هرّب الأموال إلى روسيا وغيرها من الدول، تاركًا الشعب يَئِنُّ من الجوع والفقر، حيث وصل أكثر من 85 % من الشعب السوري إلى دون خط الفقر. فالموقف الثوري والشعبي والدعم الأميركي هو الحلّ الأمثل لإنهاء هذه المأساة الإنسانيّة التي لم يشهد العالم مثيلًا لها منذ الحرب العالميّة الثانية.

مرح البقاعي: علينا كسوريّين أفرادًا ومؤسّسات تكثيف التواصل مع الإدارة الأميركيّة

أرغب بداية في الإجابة على سؤالك بطريقة غير تقليديّة، بأن أسأل من جديد: ما هي جاهزيّة السوريّين، بقواهم السياسيّة والمدنيّة الفاعلة التي تتصدّر واجهة الحراك الآن، لمواجهة الاستحقاقات السياسيّة التي تقف وراء الأبواب والحؤول دون تكرار المشهد الهزلي للانتخابات الرئاسيّة التي جرت في العام 2014 ودفعنا ثمنها غاليًا ست سنوات أضيفت إلى ما قبلها من عجاف، لتدخل الثورة الشعبيّة السوريّة الماجدة في عامها الحادي عشر دون التقدّم بجدّيّة نحو انتقال سياسي حقيقي بإرادة سوريّة تدعمها القرارات الأمميّة النافذة؟!

سأترك الإجابة عن هذا السؤال لكلّ سوري أسهم في الثورة بقطرة دم أو حبر، لأرسم من جديد خارطة طريق للانتقال السياسي في سورية باتّجاه دولته الجديدة المنشودة، الدولة الديمقراطيّة المدنيّة التعدّدية، دولة القانون والمواطنة المتساوية؛ بينما سأحاول أن أضع آليّات لتكون الخارطة أقرب إلى التطبيق منها إلى حلم طوباوي طال على السوريّين وصار من الحتمي أن يتحوّل إلى واقع.

علينا أن نعترف أنّ الدفة الدوليّة، الإقليميّة منها، لا تسير بما تشتهي إرادة السوريّين وطموحاتهم. فالخلافات البينيّة بين دول الخليج الداعمة بكُلّيّتها للثورة السوريّة أصابت المسار السوري بالوهن، وجزّأت المجزّأ أصلًا من المواقف في صفوف المعارضة السياسيّة التي اضطّرّت إلى أن تصطف في بعض الأحيان بما يتماشى الجهة الداعمة بعينها ومراعاة أجنداتها السياسيّة؛ وقد كانت قمة (العلا) في المملكة العربيّة السعوديّة، التي رأبت الصدع الخليجي بصورة مقبولة، فرصةً للمعارضة السوريّة لتستعيد وحدة كلمتها، ولا أعرف في الحقيقة كم تمكّنت تلك المؤسّسات السوريّة الثوريّة من قراءة المشهد الخليجي التصالحي والإفادة منه بعد طول انقسام.

أما على المستوى الأميركي الذي يلتحق به الأوروبي، فموقف الولايات المتّحدة لم يتغيّر من دعم غير مشروط للتغيير السياسي في سورية بيد أبنائها، وظلّ يحتفظ بآليّاته في الدعم الإنساني والسياسي على اختلاف الإدارات التي واكبت سنوات الثورة السوريّة العشر. في شهر نيسان/ أبريل الجاري، تترأس الولايات المتّحدة مجلس الأمن، وعلى جميع السوريّين المنخرطين في العمليّة السياسيّة، أفرادًا ومؤسّسات، أن يكثفوا التواصل مع الإدارة الأميركيّة من أجل دفع عجلة تنفيذ القرار الأممي رقم 2254 الذي طال انتظار تنفيذه، من خلال موقعها الرئاسي في المجلس، الذي يمتدّ على ثلاثين يومًا هي كافية للعمل على تنفيذ قرار اتّخذه المجلس بالإجماع منذ أعوام. ولا بدّ من تشجيع الولايات المتّحدة على المضي في رسم توافقات مع الدولة الروسيّة، من أجل التأسيس لثوابت الانتقال السياسي الذي ليس مرفوضًا في جوهره كلّيًّا من موسكو. وهذه فرصة لحث الدولتين الكبريين الفاعلتين على الأرض السوريّة وفي المحافل الدوليّة من أجل الدفع بالعجلة السياسيّة قدمًا نحو سورية ما بعد الاستبداد.

ولن ننسى في هذا المقام ارتباط العقوبات الاقتصاديّة التي أقرّتها الولايات المتّحدة وتنفيذ واشنطن لها بحزم على الحكومتين في آن في موسكو وحكومة الأسد في دمشق، وأنّ إعادة بناء الاقتصاد السوري المنهار وفتح الطريق لعمليّة إعادة الإعمار في سورية (وستكون من أوسع العمليّات وأعلاها تكلفة ما بعد الحرب منذ الحرب العالميّة الثانية) لن تتمّ إلّا بعد وصول هيئة حكم انتقالي تحمل دستورًا جديدًا للبلاد، يؤسّس لبناء دولة مدنيّة دستوريّة تقوم على مبدأ المواطنة والديمقراطيّة وسيادة القانون. وهذا قرار أميركي وأوروبي لا تراجع عنه البتّة.

خارطة طريق السوريّين واضحة، والوثائق التي أنتجوها منذ انطلاقهم في ثورتهم تعدّ بالمئات، وكلّها تجتمع في حزم متقاربة تحدّد محاور الانتقال السياسي. أمّا تنفيذ خارطة الطريق لسورية فهو مهمّة لا تقوى عليها حكومة، ولا قوّة سياسيّة منفردة، بل إنّه واجب وفرض عين يجب أن يتحمّله الجميع.  والتغيير القادم سيستهدف بناء الإنسان السوري الذي يمتلك مقوّمات وأدوات الفعل والإبداع كافّة، وقد أثبت ريادته وتميّزه في دول الانتشار بعد أن تمّ تهجيره قسرًا إلى أصقاع الأرض. من هنا، لن يكون الانتقال السياسي وإعادة بناء سورية الجديدة بمنأى عن عودة اللاجئين للإسهام في إحياء روح وجسد بلدهم الذي مزّقته الحرب والأطماع. وهذا الأمر يندرج ضمن ثوابت الأمم المتّحدة في حقّ اللاجئين بالعودة المشروطة بـ “الآمنة والطوعيّة والكريمة”، إلى مسقط رأسهم. أما العدالة والمساواة فهي حقوق أصيلة لكلّ مواطن، وهي منح من الله، وليست من الأمم والبشر، ولا تمييز في هذه الحقوق بسبب المعتقد أو الجنس أو اللون، على ألّا تجور حرّيّة الفرد على حقّ من حقوق الآخرين أو حقوق المجتمع ككلّ.

إنّ تحقيق العدل والمساواة هو الهدف النهائي للديمقراطيّة في النظام السياسي الجديد المرتجى لسورية، وهو أمرٌ يتطلّب مساءلة ومحاسبة كلّ من ارتكب جرمًا بحقّ الشعب السوري، وأهدر الحقّ السوري العامّ، أو ألحق الضرر بالمدنيّين في حياتهم واستقرارهم ومنشآتهم الحيويّة. وهذا الأمرُ يتطلّب المثابرة على جمع الوثائق التي تدين كلّ من تلطخت يداه بالدم السوري أو بالفساد المالي، استعدادًا لإحالته إلى هيئات قضاء عادلة ومراقبة. فدون تحقيق العدالة ومحاسبة المعتدين لن يكون هناك سلم أهليّ مستدام في سورية، ولن تكون سورية دولة مستقرّة تؤمن عيشًا آمنًا لأبنائها، يشجّعهم على العودة من مواقع اللجوء والمغتربات إلى وطنهم الأمّ.

وممّا لا شكّ فيه أنّ وقوع سورية في براثن الاحتلالات الأجنبيّة العسكريّة لقوّات نظاميّة أو ميليشياويّة خارجة عن القانون، يؤخّر التوصّل إلى إصلاح ذات البين بين السوريّين أوّلًا، ويعقّد المساعي الدوليّة للإسراع في إخراج سورية والسوريّين من هذا النفق المظلم، بسبب تضارب مصالح المحتلّ التي ساحتها سورية. هذه الاحتلالات (ويتقدّمها احتلال أجهزة الأمن والقمع التي تشكّل بنيان دولة الاستبداد في سورية، والتي تكاد تنافس في عداوتها للشعب السوري الاحتلالات الأجنبيّة مجتمعة) هي من يعرقل كلّ محاولة للتقدّم نحو التغيير السياسي والدستوري الحقيقي الذي يشكّل نقطة الانطلاق للتغيير الأشمل ولتمكين الحياة الديمقراطيّة جوهر الإصلاح السياسي، والسبيل الأقصر والأضمن لتحقيق المصلحة الشعبيّة العامّة، حتّى لا يستبد فرد أو فئة بالتصرف في الأمور العامّة التي تتأثر بها مصالح السوريّين العليا. ومن نافلة القول أنّ القوى المتداخلة في سورية تمنع، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، إطلاق المشروع الوطني السياسي والدستوري، وتحاول أن تفرض نموذجًا سياسيًّا بديلًا لا يراعي خصوصيّة المجتمع السوري، ولا يقيم وزنًا لتاريخه السياسي ونضاله الوطني والديمقراطي. ومن هنا يأتي دور النخب السياسيّة من أبناء الثورة لقيادة مشروع مضادّ لانتهازيّات الدول وتناحرها، بهدف إحباط كلّ ما يشكّل تهديدًا على مصالحها البعيدة المدى على الأرض السوريّة.

أومن بقوّة أنّ بذور الثورة التي نثرها شبابها وشابّاتها في آذار/ مارس 2011، على تربتها الندية والمخضبة بدماء من سقطوا منهم برصاص صنّاع الغدر والموت في أجهزة النظام السوري، لا بدّ من أن تنبت، ولو استعصت عليها الأرض لحين. وأنّ الانتقال السياسي إلى دولة سوريّة تشبه حضاراتها التي عاشتها على مدى آلاف السنين ليس بالبعيد ولو تأخر. ليست كلماتي بمسكّن آلام مؤقّت، ولا حالة من الوهم أو الهروب أو العمى عن الواقع المعاش، بل هو حقيقة نسجها الشعب السوري بأصابعه المغمّسة بالنار، وصوته المبحوح بالغصّة، وهدير مراكبه تجنح في بحار العالم بحثًا عن ملاذ لا يسقط فيه سقف بيت على رأسه، ولا يساق إلى غياهب المعتقلات، لأنّه طالب بحقٍّ إنساني أساسي تكفله كلّ الشرائع السماويّة والقوانين الوضعيّة: الحرّيّة والكرامة والعدالة الإنسانيّة. وإنّ غدًا لناظره قريب.

د. محمد الأحمد: لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة

بلادنا مفتوحة على مجموعة احتمالات في الحقيقة، فالمعادلة السوريّة صارت (معادلة المركز والأطراف)، وهي تعني أنّ مصدر الأزمات الأوّل (النظام) يولّد مصادر أزمات أخرى، وهي الأطراف (سورية الشماليّة الشرقيّة) و(سورية الشماليّة الغربيّة) وربّما (سورية الجنوبيّة)، فكلّما تأخر الحلّ والتغيير السياسي في دمشق، تأخر لا أمر الأطراف وتعقّد، وإذا طال الزمن فقد تصبح الكيانات التي عدّدناها مستقلّةً عن دمشق أو مرتبطة بها اسمّيًا فقط.

من الواضح أنّ معسكر النظام وإيران و”حزب الله” اتّخذ قراره، بعدم التخلّي عن الممرّ العسكري (طهران – بيروت) لكنّه لا يملك الثمن المالي لهذه الرغبة، إلّا أنّنا، من هذه الجزئيّة بالتحديد، نرى الطلاق القادم، الذي سيعلن بين الروس والإيرانيّين في سورية، فللروس حسابات مختلفة، ممّا يفسر زيارات سيرغي لافروف للخليج، والإعلان عن مسارات تعاون جديدة تستبدل آستانا، فروسيا لا يهمّها الممرّ العسكري، بل هي تعمل للتخلّص منه، ولكن بالنفس الطويل. بالنسبة إلى العمليّة الداخليّة، لا نرى أنّ الروس سيقبلون باستمرار “الستاتيكو” (الوضع القائم) الداخلي كما هو، لأنّ الأمر مكلف لهم! مكلف ماليًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا. حيث يحتاج النظام، لكي يستمرّ، إلى خمسين مليون دولار كلّ أسبوع. بعض الأصدقاء من الوزراء السابقين ممّن يعرف بواطن الأمور قال: النظام يحتاج إلى مئة مليون دولار في الأسبوع، إن أراد أن يعيد جزءًا بسيطًا من عمل الدولة الإنتاجي والمرفقي والحكومي، وإبقاء سعر معقول لليرة. ومن هنا، يجب التفكير، فحتّى لو حصلت المسرحيّة الانتخابيّة، فإنّ استمرار “الستاتيكو” مستحيل. لذلك يحاول الروس إحداث زواج خصوم في سورية -لكسر “الستاتيكو”- ولكنّنا لا نعرف عروسًا -عليها القيمة- في الضفة الثوريّة تقبل بالنظام كزوج. إلّا أنّ هناك أطرافًا عربيّة تريد هذا التعويم، خوفًا من الإخوان المسلمين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي لا تقبل أن يُحقّق الطرف الإخواني أيّ انتصار قرب حدودها، وبما أنّ الإخوان المسلمين لا يريدون فهم المعادلة القديمة الجديدة، التي تقول إنّ حربهم من أجل السلطة في سورية ساعدت إلى حدّ كبير في دعم بشار الأسد. ومن ناحية أخرى أساسيّة لا طريق أمام السوريّين الثوريّين إلّا خلق عصبة وطنيّة قويّة جديدة، وانتخاب قيادات قادرة، والتعلّم من أخطاء الماضي، وهذا سيغيّر الكثير.

جوان يوسف: السيناريو المفقود وأطراف الحلّ في سورية

على الرغم من مرور عقد من الزمن على الأزمة السوريّة، فإنّ أطراف الحلّ الحقيقيّين ما زالوا مجهوليّ الهويّة، تعدّدت المسارات وتغيّرت الأطراف وتجدّدت التحالفات؛ ولكن حتّى الآن لا يبدو واضحًا من هي أطراف الحلّ السياسي، أهي مجموعة سوتشي وآستانا، أم أطراف المعارضة والنظام، أم مسار جنيف، أم الأميركان؟ الكلّ له دور وشأن مهمّ في مسار الحلّ السوري، ولكن لا أحد يستطيع التكهّن حتّى الآن من الذي يسعى إلى حلّ جدّي يرضي الأطراف، ومن يريد أن يستمرّ الوضع على ما هو عليه، في حالة اللَّا حلّ، بالرغم من أنّ الجميع اتفقوا وتوافقوا منذ زمن أنّ الحلّ في سورية هو حلّ سياسي.

إذن، يمكن القول إنّ هناك ثلاثة أطراف رئيسة تتحكّم في المشهد السوري: الأوّل يريد إطالة أمد الحرب في سورية إلى أن تتحقّق مصالحه، تلك الموزعة بين مصالح اقتصاديّة وجيوسياسيّة؛ والثاني جعل من سورية ملعبًا لتصفية الحسابات مع خصومه، ولا ننسى ذاك الطرف الذي يدير الأزمة لأهداف إستراتيجيّة موجودة على جدول أعماله، لكنّها لم تنضج وما تزال بعيدة المنال.

أيًّا يكن، فإنّ النهاية ما زالت بعيدة، وظروف الحرب ما تزال مرجّحة -وإن كانت أقلّ عنفًا- على شروط الحلّ السياسي الذي يبدو حتّى الآن ترفًا يوميًّا لجميع الأطراف، بالطبع باستثناء المواطن السوري صاحب المصلحة، وهذا الاستنتاج ليس اختراعًا ولا إبداعًا من وحي الخيال، وإنّما من واقع وجود مصالح لأطراف متعدّدة ومتداخلة في الأزمة السوريّة، لم تحقّق أيّ منها أهدافها حتّى الآن، بل إنّ مصالحها حتّى هذه اللحظة محل تكهّنات، باستثناء أطراف الصراع الأساسيّة، على الأقلّ شكلًا، المعارضة والنظام الذي يبدو واضحًا أنّ المسألة بينهما مسألة وجود، وبالتالي لا تدخل في سياق الحلّ السياسي. في ظلّ هذه التعقيدات، سؤال الحلّ يستتبع جملة من التساؤلات: هل سيستمرّ الوضع في سورية إلى ما لا نهاية في حالة اللَّا حلّ؟ غالبًا لا، لكنّ التاريخ يخبرنا أيضًا أنّ الحروب الأهليّة استمرّت عقودًا طويلة، ومنها الحرب الأهليّة في السودان التي استمرّت خمسين عامًا، قبل أن تنتهي باستقلال جنوب السودان عام 2011، صحيح أنّ أمر السودان مختلف قليلًا عن سورية، لكنّها تحمل التركة نفسها، صراعات طائفيّة وقوميّة وإقليميّة وسلطويّة هي ذاتها التي حكمت الحرب الأهليّة في السودان نصف قرن. وبالعودة إلى السؤال الرئيسي المطروح حول الحلول الإستراتيجيّة، بعد فشل العمليّة السياسيّة والقفز على القرارات الدوليّة، نجد أن المتابع لا يحتاج إلى كثير من الذكاء والحصافة ليقول: إنّ حوامل جنيف وسوتشي وآستانا لا تحمل أيّ مقوّمات للحلّ السياسي في سورية، لأنّ أيّ حلّ سياسي أو حتّى تسوية يجب أن تتمثّل فيها مصالح الأطراف كلّها، وتكون الأطراف الفاعلة مشاركة في هندستها، وإلّا أصبح الأمر عبثًا أو في أحسن الأحوال سوف يؤدّي إلى تجديد الصراع بتحالفات وقوى جديدة، والكلّ يعلم أنّ الحوامل السابقة ينقصها أهمّ ثالث مكوّن عسكري وسياسي في سورية، وهي الإدارة الذاتيّة وقوّات سوريا الديمقراطيّة.

في مشهد الصراع:

لا شكّ في أنّ روسيا لن ترضى بالبعد الإسلامي  للنظام القادم، ولن تقبل بنظام لا يضمن مصالحها، وخاصّة في ما يتعلّق بحمولة الحرب التي تحمّلتها، وأنّ تركيا لن تقبل بنفوذ كردي -ولو كان على شكل لامركزيّة إداريّة- ضمن مناطق تواجدها، وإيران لن تقبل بنظام يقطع خطوط إمدادها مع “حزب الله” أو يقطع عليها طريق ثورتها الشيعيّة، والسعوديّة لن تقبل بنظام موال لتركيا، فهي تخشى من تضخم وزن تركيا على حساب مركزها ومرجعيّتها في قيادة السنّة، والسنّة لن يقبلوا بنظام يقوده العلويّة (على حدِّ تعبيرهم) والنظام (العلوي) لن يقبل بالتخلّي عن الحقوق المكتسبة خلال نصف قرن، وتركيا الأكثر فاعليّة بالملفّ السوري لن تتخلّى عن حلمها بإعادة ولاية حلب إلى جغرافيّتها، أو على الأقلّ بنظام يكون خارج عباءتها الأيديولوجيّة والسياسيّة، وهو الأخطر من ضمن كلّ المشاريع السابقة.

تبقى أميركا التي أعلنت مرارًا أنّ جهودها تتركّز على أمرين: الأول مواجهة النفوذ الإيراني وتعطيل ممرّها البرّي الذي يربط بين إيران ولبنان؛ والثاني منع عودة ظهور التنظيمات المتطرّفة مثل الدولة الإسلاميّة (داعش) والقاعدة، وأعتقد أنّ ذلك ما هو معلن من الإستراتيجيّة الأميركيّة، أمّا ما هو مستتر وغير معلن، فإنّها تريد لها قاعدة ثابتة في سورية والعراق اللتين كانتا حتّى وقت قريب مناطق نفوذ روسيّة، وأهمّ مستوردي السلاح منها، وأهمّ خصمين إستراتيجيّين من حيث الإمكانات البشريّة والجغرافيّة لإسرائيل، لذلك لن تسمح لروسيا باستعادة موقعها مجدّدًا. أمام كلّ هذه التناقضات، يبدو أنّ الخيار الأفضل وبشكلٍ خاصّ للولايات المتّحدة الأميركيّة، على المدى المنظور، أن يبقى الوضع معلقًا، إلى أن يستوي الجميع وبشكلٍ خاصّ تركيا، عندها يصبح الحلّ مستندًا إلى قرار مجلس الأمن 2254، بوجود كلّ أطراف الصراع الداخليّة، مع تعديلات تسمح بوجود ثلاثة أقاليم مع شرعنة أمميّة للوجود الروسي والتركي والأميركي، كلٌّ في منطقة نفوذه الحاليّة.

خالد قنوت: استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة

بالتدقيق في صيغة الأسئلة المطروحة، ولتقديم إجابات علميّة واقعيّة كحلول إستراتيجيّة للأزمة السوريّة، أعتقد أنّنا أمام تحديد صورة شاملة للوضع العامّ دون الخوض في التفاصيل، وهي لا تقلّ أهمّيّة في رسم الإستراتيجيّات:

في الجانب المظلم من الصورة:

1- سورية مقسّمة بين خمس دول، وتحت سطوة قوّة نظامٍ لم يفقد كلّ أوراقه بعد، ووجود ميليشيات حليفة للنظام وأخرى معادية له، كلّ تلك القوى تشكّل حاميًا ظرفيًا لبعض المكوّنات السوريّة بشكلٍ أو بآخر، ولكن جميعها بالمحصّلة معادٍ لكامل الشعب السوري ولكينونة الدولة الوطنيّة السوريّة.

2- انهيار اقتصادي عامّ وشامل، حتّى في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، قد يتّجه بالبلد نحو المجاعة. وما التحوّلات الديموغرافيّة التي ترافق الارتباطات الاقتصاديّة في ظلّ غياب الدولة الوطنيّة، إلّا إسقاط عامّ لسياسة (الجوع أو الركوع) التي تمارسها كلّ القوى العسكريّة القائمة على المكوّنات السوريّة التي تعيش تحت سطوتها، اليوم.

3- ظهور مشاريع لا وطنيّة على مساحات متفاوتة على الأرض السوريّة، كمشاريع انفصاليّة أو تابعيّة بالعقيدة الدينيّة أو المذهبيّة لدول إقليميّة ذات إستراتيجيّات عابرة لحدودها وجميعها يتحدّث بوحدة الوطن السوري.

4- بقاء النظام بالشكل وبالوظيفة والمحافظة عليه، دوليًّا، كنوع من تشريع لوجود الاحتلالات.

5- تأجيل طرح إستراتيجيّة أميركيّة سياسيّة وعسكريّة من قبل إدارة الرئيس جو بايدن الجديدة، بسبب عوامل داخليّة، وأخرى تتعلّق بتنفيذ أو تحديث لسياسة الرئيس الأسبق باراك أوباما في سورية والمنطقة في ظلّ التوازنات الجديدة التي لم تكن بعيدة عن تحكّم الإدارة الأميركيّة بها وبمساراتها.

في الجانب المشرق من الصورة:

1- قناعة وطنيّة تدرجيّة وشبه عامّة بحتميّة تجاوز محنة انحسار الحراك الشعبي الوطني، ودراسة أسباب فشله والإيمان العامّ بضرورة التفكير ثمّ القيام بعمل ما تجاه سورية كوطن، بالرغم من الشعور العامّ بالعجز وبتواضع حجم التأثير في ميزان القوى السياسيّة على الأرض السوريّة.

2- تصوّر عامّ بمحدوديّة أيّ طرح سياسي غير وطني للحلّ في سورية، بعد سقوط أو إسقاط أو استبعاد للنظام، كطرح أيديولوجيّات دينيّة أو قومجيّة أو يساريّة أثبتت فشلها على مستوى العالم، والبحث عن طرح وطني فوق الأيديولوجيّات نحو بناء الدولة الوطنيّة.

3- استمرار المدّ الشعبي الثوري بعد عشر سنوات من عمر الثورة الشعبيّة، والتأكيد على وحدة الشعب السوري وانتماء مكوّناته المتعدّدة إلى قضيّة وطنيّة جامعة، وعلى استعادة شعارات السنوات الأولى التي كانت مددًا كبيرًا على امتداد الوطن حتّى في مواقع النظام الحصينة.

في السياق، يمكننا أن نحدّد موقفًا من التحضير للانتخابات الرئاسيّة السوريّة التي لم يُقِم لها المواطن السوري -على صعيد فردي- منذ خمسين سنة من حكم الأسديّة أيّ قيمة، حيث كانت استفتاءات شكليّة تترافق مع حالة قسريّة تجاه المواطن المسلوب الإرادة، في ظلّ قبضة أمنيّة وحشيّة لا طاقة للمواطن الفرد لرفضها. أما على الصعيد الدولي، فقد كانت الانتخابات طوال عقود تأكيدًا لشرعيّة النظام، كنظام خدماتي يقوم تحت ستار الشعارات القوميّة بتحقيق ما لا تريد الدول الفاعلة تحقيقه بوسائلها، كالتدخّل في لبنان، والقضاء على الوجود الفلسطيني في مواجهة إسرائيل، وكذلك في تدمير العراق، وفي استبعاد دور مصري في قضايا عربيّة مصيريّة وغيرها، وهو ما أفضى بتلك القوى إلى الاعتراف بوراثة رأس النظام الحالي لا بل قدّمت له الدعم بكلّ أشكاله، وقتها.

في الوقت الحالي، ربّما قد تغيّرت الصورة، ولم يعد العالم يقبل بهذا النوع من الصورة النمطيّة للدكتاتور الدموي في العالم، فأعربت بعض الدول عن عدم اعترافها رسميًّا بالانتخابات الرئاسيّة السوريّة القادمة إلّا ضمن شروط ضبابيّة بعض الشيء، مع الاقتناع الكامل أنّ المنظومة الدوليّة ستقبل بتغيير في رأس النظام، ولكنّها لا تريد تغيير شكل النظام وهيكليّته الأساسيّة كنظام خدماتي في مراحل مستقبليّة. وما القرارات الدوليّة مثل 2254 إلّا قرارات حمّالة أوجه وتفسيرات متعلّقة بالتسويّات النهائيّة وبثقل كلّ طرف من أطراف النزاع على سورية.

إنّ للإصرار الروسي والإيراني على قيام الانتخابات الرئاسيّة السوريّة، والروسي تحديدًا، أسبابه الجيوسياسيّة والاقتصاديّة: الجيوسياسيّة تتمثّل في توفير غطاء سياسي شرعي للتواجد العسكري لقوّات البلدين، ولنتذكّر أنّ الانتخابات السابقة لم يكن رأس النظام يحتاج إليها، لأنّ الدستور السوري يمنح البرلمان (المدجّن) حقّ التجديد أو تأجيل الانتخابات في حالة الحرب، لكنّ الإدارة الروسيّة هي من أصرّت على قيامها، لتقدّم للعالم صكّ تدخّلها العسكري ثمّ سيطرتها على سورية؛ والاقتصاديّة، بحكم أنّهما قد استثمرتا في سورية الكثير خلال الحرب، ولم تصلا بعد إلى جني أرباح تلك الاستثمارات، مع كلّ عقود البيع والتأجير التي وقّعها رأس النظام لهما، فهما يعرفان أنّ هذه العقود تسقط في حال سقوط الشرعيّة عن موقعها.

بالعودة لسؤال الحلول الإستراتيجيّة للأزمة السوريّة، يمكن أن نقول بالمطلق إنّ كلّ الإستراتيجيّات المطروحة هي ليست حلولًا، بل هي إستراتيجيّات تصبّ في غير المصالح الوطنيّة السوريّة، لسبب جوهري وهو غياب الوزن الوطني السوري في صناعتها، وبسبب تعقيدات وتضارب مصالح الدول الفاعلة في الأزمة السوريّة، وجميعها تملك قوّات عسكريّة وحلفاء وميليشيات تقاتل من أجلها ومعها. في الإستراتيجيّات المحتملة، هناك سيناريوهات عدّة، قد نجد في بعضها نوعًا من الحلول الاقتصاديّة الحياتيّة، وبعض الأشكال الزائفة من الحرّيّات السياسيّة، ولكنّها بالمحصّلة تعني أنّنا -السوريّين- تحت احتلال متعدّد تحكمنا مصالح الدول، وربّما سنكون لزمن طويل وقود حروب دينيّة ومذهبيّة وإثنيّة، حتّى نضالنا الوطني للتحرّر سيتطلّب عقودًا دمويّة طويلة وربّما لأجيال.

إنّ أفضل سيناريو (لا وطني)، في هذه الحالة، هو سيناريو توافق روسي – أميركي، يكون أساسه تغيير في رأس النظام أو تنحيته، والمحافظة على البنية الأمنيّة الحاليّة بشكلٍ أقلّ عنفًا، وبترتيبات طائفيّة وإثنيّة لمناصب الدولة كمحاصصات على الشكل العراقي أو اللبناني، يثبت حالة استحواذ روسي على مناطق شاسعة من سورية، ووجود رمزي أميركي، وإبعاد الميليشيات الإيرانيّة عن الحدود الجنوبيّة مع الجولان المحتلّ، وإدارة أمنيّة لتركيا في الشمال السوري، والاعتراف بإسرائيل في مراحل مستقبليّة، حيث يكون هناك تمثيل صوري لبعض شخصيّات المعارضة المرتزقة في النظام الجديد.

إنّ قبول السوريّين بحلول إستراتيجيّة لأزمتهم الوطنيّة بغيابهم، يعني تسويفًا لحلّ أزماتهم الوطنيّة، والردّ عليها يكون بالعلم والعمل الوطني. إنّ قانون نفي النفي في الديالكتيك يقدّم للسوريّين سيناريو لإستراتيجيّة وطنيّة ممكنة وقابلة للتحقّق، إذا توفرت الإرادات ويتلخّص بالنقاط التالية:

1- العودة للأهداف والشعارات الإنسانيّة والوطنيّة الأوّليّة للانتفاضة، وتقديم خطاب وطني جامع لكلّ السوريّين.

2- العمل على التخطيط لثورة وطنيّة تحرّرية للإنسان الفرد وللوطن، بوسائل مؤسّساتيّة حديثة ومتجدّدة وبخبرات تراكمية.

3- إسقاط كلّ العلائق والمرتزقة وموروثات الاستبداد.

4- تحديد الأولويّات والمسؤوليّات والتحالفات والتمويل البشري والمالي الوطني، والعمل (السياسي والاجتماعي والعسكري) المتدرج التصاعدي (السري والعلني)، نحو هدفين إستراتيجيّين: تحرير سورية كعمل مشروع بنصوص الأمم المتّحدة، وبناء دولة المواطنة العادلة الديمقراطيّة ضمن حدودها الوطنيّة، وهذا حقّ إنساني مطلق.

فاروق حجّي مصطفى: مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير

قبل أيّام، قرأنا تصريحًا صدر عن مسؤولين أميركان، مفاده أنّ “النظام فشل في استعادة شرعيّته، بأعيننا”، وقرأنا “أنّنا لا نستهدف تغيير هندسة الحكم”. وقبل هذا التصريح، ثمّة أمر قائم وفاعل ويؤثّر بشكلٍ غير متوقّع في مجريات الوقائع، ولعل هذا الأمر هو “العقوبات” أو “قانون قيصر”. ولا أظن أنّ هناك سيناريو أقوى من سيناريو القرار الأممي 2254، وهو السيناريو الوحيد الذي يمكن أن يسهم في التغيير المنشود، ولو أنه يسير ببطء. وأعتقد أنّ هذا القرار الأممي هو الذي يسدُّ الطريق على شرعيّة انتخاب بشار الأسد، وهو الذي سيكون مدخلًا في إحداث التغيير الجذري في بنيان الحكم وشكل الدولة.

إن جمود العمليّة السياسيّة لا يعني قطّ أنّ العمليّة فشلت؛ فالعمليّة قائمة ولو بشكلٍ خجول، ما هو خطأ، اختزال وارتهان كلّ العمليّة التفاوضيّة بالعمليّة الدستوريّة، مع أنّه لا يمكن للأخيرة أن تنجح دون تفعيل كامل مسارات العمليّة التفاوضيّة. كذلك لا يمكن للعمليّة التفاوضيّة السياسيّة أن تنجح دون إجراء التغيير في شكل ومحتوى المفاوضات. وأعتقد أنّنا أمام استحقاق تفعيل العمليّة السياسيّة التفاوضيّة، بطريقةٍ أخرى، أي أنّ العمليّة برمّتها تحتاج إلى الإصلاح، ولعل أوّل خطوة هي توسيع هيئة التفاوض السوريّة، وتضمين كلّ الأطراف والمكوّنات في العمليّة التفاوضيّة.

الخطوة الثانية هي تحرير العمليّة التفاوضيّة من الإطار النخبوي أو المركزي. وإلى جانب هذا الفعل التفاوضي في جنيف، يجب أن تكون العمليّة شاقوليّة، أقصد انخراط كلّ القوى والفعاليّات في هذه العمليّة، لتأخذ الشرعيّة أكثر، وأيضًا تسحب قضيّة الناس من يد بضعة أشخاص يتعاملون مع القضايا بمزاجيّة شخصيّة حينًا وبمقاربة المصالح غير السوريّة حينًا آخر. لذلك أرى أنّ الإفادات الأميركيّة الأخيرة هي الأقوى، وهي رسالة واضحة، ولا تشبه حتّى رسالة أميركا للنظام السوري ما بعد سقوط صدام حسين (مطالب كولن باول)، حينذاك طرح الأميركان مبدأ “التغيير في سلوك النظام “، واليوم الأميركان يرغبون في إحداث التغيير في بنية النظام، وذلك عبر تنفيذ القرار 2254، وآليّة البقاء على العقوبات. نحن أمام سيناريو أكثر حدّةً وفاعليّة، وسيكون قاسيًا على عموم سورية، لكنّه مُجدٍ.

أربع سيناريوهات ستحكمنا كلّنا، وهي:

– تقليص نفوذ محور آستانا.

– إصلاح العمليّة الدستوريّة.

– تحويل التفاوض وعمليّة الحوار، من كونها محصورة في هيئة التفاوض السوريّة والنظام، إلى قضيّة مجتمعيّة وسياسيّة، وذلك لتعزيز الثقة على مستوى الحواضن المجتمعيّة للمؤسّسات السياسيّة.

– مؤتمر سوري عامّ يقودنا إلى تحوّل ديمقراطي.

ولذلك، لا انتخابات رئاسيّة قادمة تعزّز شرعيّة للنظام، ولا غطاء سوتشي – آستانا، فنحن مقبلون على التغيير من رحم القرار الأممي لا غير.

المزيد
من المقالات