- ثورة كردية: خلق معارضة ثوريّة هدفها الوحيد معالجة ألم الشارع
- إبراهيم البصري: أسئلة الهويّة الوطنيّة لبناء عقد اجتماعي مستدام
- بشار علي الحاج علي: ما الذي يجب توفره للحلّ؟
- أنس العلي: راهنيّة الحلّ السوري وجماعات الضغط
- سامر الخليوي: إسقاط المعارضات المزيفة واستقلاليّة القرار السوري..
- حمزة همكي: الحلّ في حال وضوح معالم إستراتيجيّة واشنطن في سورية
- خليفة الخضر: البحث عن القواسم المشتركة الجامعة لكلّ السوريّين
- شورش درويش: في الحاجة إلى طبعة جديدة للمعارضة
- عساف العساف: أسئلة ورهان واختراع العجلة من جديد
- محمد جلال: البحث عن الخلاص الفردي خارج الحدود..
- ياسر المسالمة: هل هناك حلّ سياسي في سورية؟
- عمار حمو: استعصاء الحلّ السياسي
- أحمد مظهر سعدو: المسألة السوريّة والعثار الكبير
- مشعل العدوي: عدم تمسّك المعارضة بالقرار 22554 تفريط مُتعمّد بحقوق السوريّين
بعد اندلاع الثورة السوريّة، في آذار/ مارس 2011، التي طالبت برحيل بشار الأسد وأركان نظامه الاستبدادي الطائفي الفاسد، دفع أحرار سورية وحرائرها -على مدار السنوات العشر الماضية- أثمانًا باهظة على درب الآلام والجُلجُلة نحو الحرّيّة والديمقراطيّة وبناء دولة القانون والمواطنة.
أثمانٌ وثّقتها (الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان) في تقريرها الصادر بمناسبة الذكرى العاشرة لانطلاق الثورة، والذي أكّد مقتل 227413 مدنيًّا، بينهم 14506 بسبب التعذيب، واعتقال/ إخفاء قسري 149361 شخصًا، وتشريد نحو 13 مليون سوري، وأكثر من 12 مليون يكابدون المشقات لتأمين قوتهم اليومي، وعيش أكثر من مليوني إنسان في فقر مدقع، وغير ذلك من المآسي والخسائر البشريّة والاقتصاديّة، ودمار نسبة كبيرة من العمران والبنية التحتيّة التي خلّفها الإرهاب الأسدي – الروسي – الإيراني.
ومع تزايد التعقيدات في الملفّ السوري، في ظلِّ غياب الحلّ السياسي وتواصل الصراع العسكري على امتداد الجغرافيا السوريّة الممزّقة، وبعد أن صارت البلاد مسرحًا لموسكو لاستعراض القوّة طمعًا في استعادة دورها الدولي بوصفها قطبًا عالميًا، واستخدام الأرض السوريّة وما عليها حقل تجارب لتحسين أداء أسلحتها الفتاكة وجعلها معرضًا دائمًا لبيع أسلحتها الجديدة، فضلًا عن انسداد أفق الحلّ السياسي وتكاثر الدول المتداخلة في الشأن الداخلي السوريّ، إذ يقبع رأس النظام تحت الحماية الروسيّة والإيرانيّة، وتتبع المعارضة السوريّة، بل المعارضات لحكومات إقليميّة دوليّة، ما يؤكّد عجزها عن اتّخاذ قرار سياسي موحّد بلا وصاية خارجيّة، بالتزامن مع عدم تحقيق اللجنة الدستوريّة أيّ تقدّم ملموس على الأرض، وإبقاء القرار الأممي 2254، القاضي بتشكيل هيئة حكم انتقاليّة في سورية (صدر عن مجلس الأمن الدولي في 2015)، مجمّدًا بفعل التدخّلات الخارجيّة، والتلاعب الأسدي الروسي في المحافل الدوليّة، وكذلك انتشار أنباء عن تشكيل (مجلس عسكري انتقالي) مشترك بين النظام والمعارضة بوصفه حلًّا بديلًا، وأمام غياب خريطة طريق وبرنامج تنفيذي وآليّات واضحة، وضمانات دوليّة ملزمة للوصول إلى حلّ يقبل به الشعب السوري الثائر؛ تفشّت في صفوف السوريّين حالة من اليأس الشعبي العامّ من إمكانيّة إصلاح النظام، والتخلّص من الاستبداد والفساد عن طريق التغيير السلمي الديمقراطي المتدرّج، مع هذا كلّه، يواصل مركز حرمون للدراسات المعاصرة، والثورة دخلت عامها الحادي عشر، الملفّ الخاصّ بسيناريوهات الحلّ في سورية، في ظلِّ فشل العمليّة السياسيّة والبدء بمهزلة الانتخابات الرئاسيّة التي خطط لها الروس ورأس النظام لتكون على مقاس بشار الأسد، فكان أن استضفنا في هذا الجزء عددًا من الكتّاب السياسيّين والناشطين الثوريّين، بعد أن كنّا استضفنا في الجزء الثاني عددًا من قيادات العمل السياسي والخبراء الإستراتيجيّين من مختلف الأجيال والمكوّنات السوريّة، وقبله استضفنا (في الجزء الأوّل) مجموعة من الكتّاب والمحلّلين السياسيّين السوريّين المنتشرين في أصقاع الأرض بعد أن شتّتهم الإرهاب الأسدي المتحالف مع الاستبداد الديني، وذلك للوقوف على طروحاتهم ورؤاهم للحلّ الذي ينتظره السوريّون الذين ذاقوا مرارة الحرب ووحشيّة نظام البراميل وحلفائه، طلبًا للخلاص من آل الأسد، ونيل الحرّيّة والكرامة، ونقل بلدهم من بلد يحكمه الاستبداد إلى بلد ديمقراطي تعدّدي.
- الناشطة الثوريّة السياسيّة ثورة كردية: خلق معارضة ثوريّة هدفها الوحيد ألم الشارع
قبل الحديث عن الحلول الإستراتيجيّة للقضيّة السوريّة وليس الأزمة السوريّة؛ لا بدّ لنا من عرض مشهد السّاحة السوريّة والأسباب التي زادت الأمور تعقيدًا. منذ أن صدحت حناجر الثوار والثائرات بكلمة “حرّيّة”، وهتفنا “الشعب السوري واحد”، كنّا نريد التغيير السلمي الديمقراطي للجميع… التغيير الذي لا يستثني فئةً ولا مذهبًا ولا قوميّةً…
استخدم بشار الأسد الحلّ الأمني والعسكري بدءًا من الاعتقال والقتل اليومي، إلى حصار المدن وتهجير أهلها بين الخارج والداخل. بعد عشر سنين ونيّف، ما زلنا نقف داخل نفقٍ مظلمٍ في ظلِّ غطرسة الأسد وضعف موقف المعارضة وانقسامها. في الحقيقة هناك العديد من العوامل والأسباب التي أدّت إلى انسداد أفق الحلّ السياسي وفشل المجتمع الدولي في الوصول إلى حلٍّ حتى الآن، وأهمّ أسباب هذا الفشل: تعنّتُ النظام الأسدي؛ ملفّ المعتقلين والمختفيّين قسرًا؛ مشكلة اللاجئين والمهجّرين؛ أزمة المخيّمات؛ ومشكلة الفصائل المسلّحة. إضافة إلى انقسام المجتمع الدولي وتضارب المصالح على أرض سورية، فروسيا وإيران تدعمان نظام الأسد، ولا يُتَوقّعُ حدوث تغييرٍ جدِّيٍّ في موقفهما، على الرغم من تباين مشروعهما في سورية، ذلك أنّ روسيا تريد تعويم الأسد واستفرادها في قرار الانتخابات، لاعتقادها أنّ موقفها سيكون أقوى بعد نجاح الأسد في ترتيبات الحلِّ السياسيّ. أمّا إيران فتسعى إلى إحداث تغيير ديموغرافي لبنية الشعب السوريّ. بينما الولايات المتّحدة الأميركية غير مهتمّة حاليًّا بإيجاد حلٍّ جذري للقضيّة السوريّة إلّا من خلال مصالحها، وإدارة جو بايدن الجديدة يُعتبر دورها استكمالًا لدور الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الذي ساهم في بقاء الأسد على سدّة الحكم. إضافةً إلى مقايضة المسألة السوريّة بالملفِّ النووي الإيراني، على حساب الشعب السوريّ، ولو أرادت إيجاد حلٍّ لأنهت النزيف السوري، ومع هذا، العَلم الأميركي يرفرف فوق مناطق النفط في شرق الفرات، إضافةً إلى تقديم الدعم لمشروع الإدارة الذاتيّة الكرديّة. أما تركيا فجلّ همِّها أمنها القومي وحماية حدودها من التمدّد الكردي، إذ تسعى لمنع قيام كيانٍ كردي وإبعاد خطر (PKK) عن الداخل التركي.
دول الاتّحاد الأوروبي لا تزال تتعاطى مع الآثار الناتجة عن الثورة السوريّة بما يخصّ قضيّة اللاجئين والإرهاب، ولم يكن لها موقف سياسي متقدِّم في معالجة أصل القضيّة السوريّة وفق قرارات جنيف والقرارات الدوليّة المتعلّقة بهذا الشأن. ولا ننسى الدّور الخفي لإسرائيل في إبقاء بشار الأسد في سدّة الحكم، وما يحدث بين النظام السوري وإسرائيل من اتّفاقاتٍ تحت الطاولة. الدول العربيّة لا يزال موقفها متباينًا: منها من يسعى لتعويم الأسد بسبب مصالح مشتركةٍ بينية، ومنها من يسعى إلى رحيله. القفز على مقرّرات جنيف 2254 و2118 وتجميد الروس لها، والاستعاضة عنها بمُخرِجات مؤتمر آستانا يضمن عمليّة انتقال سياسيّة تحافظ على نظام الأسد، مع مشاركة أجزاء من المعارضة في الحكم.. تشظّي المعارضة وعدم بناء قوّة واحدة تتكلّم باسم الشعب السوري وتضغط على المجتمع الدولي.
فما الحلّ؟ إنّ المسارات السياسيّة والعسكريّة في أستانا وسوتشي واللجنة الدستوريّة وهيئة التفاوض أثبتت فشلها، ولن تُؤتي أُكلها. لذلك فإنّ الحلّ لن يكون إلّا باعتماد مُخرِجات مؤتمر جنيف، وخاصّة 2254 و2118، وفق القرارات الواردة فيها، وأهمّ بند هو إطلاق سراح جميع المعتقلين والكشف عن مصير المغيبين قسريًا، وأيضًا الكشف عن المقابر الجماعية للآلاف من الشهداء الّذين قضوا تحت التعذيب. ولن يكون الحلّ إلّا عن طريق خلق معارضة ثوريّة هدفها الوحيد معالجة ألم الشارع، وأن تعمل هذه المعارضة على كسب ثقة السوريّين، وثقة المجتمع الدولي، وأن يكون عملها فقط موجّهًا للشأن السوري العامّ، لا أن يكون هدفها المصالح الشخصيّة، كما هي حال مكوّنات المعارضة الحاليّة.
بعد كلّ هذا النزيف السوري، هل بقي لدينا أملٌ لإيجاد حلٍّ لقضيّتنا السوريّة والاستمرار في النضال من أجل الانتقال بسورية إلى دولة مواطنة؟ إنّ الإجابة عن هذا السؤال صعبةٌ، بخاصّةً أنّني أرى المشهد قاتمًا، ولكن بالرغم من هذا السواد، فإنني -كناشطة ثوريّة وسياسيّة- لن أفقد الأمل، طالما أنّ التاريخ أثبت لنا أنّ هناك شعوبًا ناضلت لعشرات السنين وبالنهاية ربحت قضيتها. هذه الثورة العظيمة لن تموت، وأطفالنا سيحملون الراية من بعدنا، إن لم نستطع نحن.
- الناشط الثوري إبراهيم البصري: أسئلة الهويّة الوطنيّة لبناء عقد اجتماعي مستدام
يحلم كثير من السوريّين بحدوث ما لم يكن يخطر على بال محلّلٍ أو مُتوقِّع، بحدثٍ يغيّر الحالة الراهنة في سورية، حدث يكون ربّما اقتتالًا يشتعل فجأة في الدائرة الداخليّة للأسد وأعوانه، أو ربّما حربًا إقليميّة يكون خلاص السوريّين فيها حركة على رقعة المواجهة بين أطرافها، أو انقلابًا على نظام أحد اللاعبين الإقليميّين، يكون المُنقلِب فيه -بمحض الصدفة- ذا قلب يشفق على أرواح السوريّين، فيصدقهم القول والدعم ولا يأخذهم ورقة في لعبة المصالح. ولا ملامة عليهم، إذ يحلمون وهم أمام واقع لم يرحمهم سُدّت فيه آفاق الحلّ، واقع لا تسع وصفه هذه العجالة، إنّما يسعها ربّما أن تجيب -ولو جزئيًّا- عن السؤال الملح: ما هي النهاية وما الحلّ؟
قبل أن أحاول الإجابة، لا بدّ من المرور على بعض الطروحات الأخيرة، ومفادها أنّ الحلّ السياسي للصراع يجب أن يتضمن في ما يتضمن أجوبة عميقة لأسئلة الهويّة الوطنيّة، وأساسًا لبناء عقد اجتماعي مستدام في سورية، طروحات تُحمّل “الحلّ” بمعناه العمليّاتي المرحلي ما لا يحتمل؛ وكأن سورية في هدنة مستدامة أغلق ملفّ معتقليها وأوقف فيها سفك الدماء وأمن المدنيون فيها على أرواحهم ووصول المساعدات إليهم وأمسوا في عدّة تسمح لهم انتظار إجابات هذه الأسئلة، وإن كانت هذه الطروحات تتأتى من انحراف مسار التفاوض الأساسي عن “بيان جنيف” 2012 والقرار الأممي رقم 2254، باتّجاه سلّة واحدة من سِلال المبعوث الأممي الخاصّ السابق إلى سورية ستافان ديمستورا، التي جعلها الروس أولوية المسار وهدفه، إلّا أنّها يجب أن لا تكون موافقة على هذا الانحراف، وكأن لدينا ترف الوقت لنناقش ما لم يُناقش من قبل انقضاض (حزب البعث) على السلطة، أو كأنّنا نقول إنّ السوريّين دفعوا كلّ هذا الثمن ليغيّروا فقط ما كُتب في ورق الدستور، وليس لاستعادة كيان الدولة المختطف منهم ككلّ.
إنّ اشتراط الإجابة على هذه الأسئلة، كنقطة لانطلاق مسار الحلّ، إنّما هو إطالة لعمر معاناة اللاجئين في خيام باردة، والمعتقلين في زنازين مظلمة، خصوصًا أنّ جوارنا العربي (العراق ولبنان والأردن) لم يجدوا إلى الآن إجابات مرضيّة للجميع على هذه الأسئلة، حتّى حين تذوقوا الديمقراطيّة وملكوا بيئة الحوار الخالية نسبيًّا من الخوف بعد حرب أو غزو.
عودة إلى سؤال الحلّ/ النهاية: ما أصبح مستحيلًا هو الحلّ العسكري، أو إعادة الاعتراف بالنظام دوليًّا، وما يكاد يكون مستحيلًا عند أيّ محاولة للتكهّن في شكل هذه النهاية هو: استمرار الوضع القائم منذ سنوات، وذلك لتقلّب مستمرٍّ في الارتباطات السياسيّة إقليميًّا، ولعدم استقرار مصالح اللاعبين الأساسيّين. أو التطبيق الحرفي للقرار 2254، وفق تراتبية خطواته، لأنّ ذلك يعني إلغاء اللجنة الدستوريّة والمسار الذي اقترحته موسكو وأصرّت عليه، مع بقاء إمكانيّة تشغيل السِّلال الأربع في وقت واحد للوصول إلى جولات تفاوض يمكن الاعتماد على مُخرِجاتها لتفعيل القرار. ويُستبعد أيضًا سيناريو الأقاليم الثلاثة المنفصلة في القرار المجتمعة شكليًّا في دولة بما يشرعن وجود الاحتلالات المتعدّدة، لأنّ هذا السيناريو سيعود بالأطراف الفاعلة إلى مربع ما قبل القرار الأممي، وبالتالي يفرض ضرورة تغيير جذري في شكل تمثيل الأطراف السوريّة المتنازعة، وهدم عنصر الدول الضامنة الذي أعطى لوقف إطلاق النار تماسّكه حتّى الآن، فتركيا مثلًا لن تقبل بمقعد علني لقوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد) على طاولة التفاوض، مهما كلفها ذلك.
من نافل القول إنّ الحلّ ارتبط ارتباطًا لا فِكاك منه بالقرار الدولي، وأنّ أطراف الصراع السوريّة لن تستطيع تحقيق معجزة التقدّم ولو خطوة بعيدًا عن أهواء اللاعبين الدوليّين، مهما كانت أدواتها ومهما عصفت بأذهانها وبادرت بأفكارها. ومن نافله أيضًا أنّ النظام راهن على الوقت والتفاصيل منذ بداية الأمر، إلّا أنّه الآن لم يعد المراهن الوحيد عليه، فالمعارضة السوريّة -بعد أن فقدت الأمل في رفع المسألة على سلم أولويّات المجتمع الدولي- أصبحت ترى في العقوبات الغربيّة أملًا وحيدًا، وإنْ كانت نتائجها تعتمد على عامل الوقت، خصوصًا أنّ العقوبات المفروضة لم تكن في صيغتها وتنفيذها كتلك التي فُرضت على الأسد الأب في ثمانينيات القرن الماضي، قابلة للإبطال عند التزام المُعاقَب بشروط وأجندات، بل هي الآن دائمة تجعله منبوذًا دبلوماسيًّا إلى الأبد، وتجعل من آمال موسكو في إعادة تعويمه محض شقاء لا منفعة منه، وخصوصًا أيضًا أنّ هذه العقوبات ما زالت تأتي تباعًا من بعض دول الغرب، وإنْ كفّ بشار الأسد الآن ظاهريًّا عن القيام بما جلبها عليه.
إنّ المسألة السوريّة، بسبب أنّها أصبحت عدّة قضايا متداخلةً متراكبة، بعضها كان عظيم العواقب لدرجة جعلت من المسألة تفصيلًا فيها ليس أكثر كتوتّر العلاقات الأميركيّة – الروسيّة، وبعضها تعلّق فيها بشكلٍ أساسي وأمسى حلّ إحداها جزءًا في حلِّ الأخرى كما الحال بين التنظيمات الكرديّة في سورية وحكومة تركيا، أو أزمة لبنان.. إلخ، بسبب هذا كلّه يبدو الحلّ الأسلم والأكثر منطقيّة هو محاولة إيجاد حلول لكلّ قضيّة على حدة عقدةً عقدة، أو حتّى فك هذه الارتباط الشرطي بين كلٍّ منها وإن كان الأمر يبدو مستحيلًا، وما يجب الإصرار عليه أمام كلّ الأطراف، وعلى كلّ طاولة تفاوض مركزيّة أو فرعية، هو التأكيد على أنّ الأسد وطغمته أساس المشكلة ووقود استمرارها، لذا فإنّ الحلّ -تعريفًا- لا يسمّى حلًّا إلّا بزواله ولو بشكلٍ تدريجي، ولا نجاح لخارطة طريق أو مسار تفاوضي لا يفضي إلى ذلك في إحدى المراحل.
أميركيًّا، لم تحرك الإدارة الجديدة ساكنًا حول سورية بالمعنى العملي، ولم توضح إذا ما كانت تتبنى إستراتيجيّة الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما كاملة حيال الملفّ، وإن أشارت إلى أنّها ستستمرّ بدعم (قسد)، إلّا أنّ هذا يبقى تفصيلًا ضروريًّا لوجود قوّاتها في شرق الفرات. وحتّى إذا افترضنا تبنيها لنهج أوباما، إلّا أنّ أملًا في تغيير هذا النهج يبقى مختبئًا في أروقتها، خصوصًا في حقائب موظفي الصف الثاني ومستشاريها وممثّليها في المحافل الدوليّة، فكما ظهر للعلن لاحقًا، كان خلافًا عميقًا في الرأي حول سورية بين أوباما ومرؤوسيه من أعضاء فريق السياسة الخارجيّة دفع هؤلاء إلى الإبقاء على محاولاتهم في إقناعه بزيادة الضغط لصالح السوريّين حتّى الأشهر الأخيرة لولايته الثانية. فربّما هو الحال مع من اختارهم الرئيس الحالي وهم ليسوا مختلفين عمن اختارهم أوباما وفقًا لتقارير الأداء.
عمومًا لا يمكننا تخيّل أيّ إدارة أميركيّة لا تستمتع بما وصل إليه في سورية حال موسكو أمام واشنطن، حال من يريد ولا يقدر أمام من يقدر ولا يريد، ويكفي أن تُبقي واشنطن جنديًا واحدًا لها في سورية وقرارًا واحدًا من سلسلة عقوباتها لتجعل من أنّ أيّ جهد تبذله موسكو في حلٍّ عسكري أو إعادة إعمار أو إعادة اعتراف دبلوماسي للأسد هباءً منثورًا. وما يمكن أن يزيد موسكو وطهران شقاءً هو الأنباء عن مسار آخر يولد من اتّفاق خليجي في الرؤى حول سورية، فيصبح عامل ضغط كبير على مراهنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اللاواقعية في إبقاء الأسد ولو في المدى المنظور، ويستفز طهران لصبغته العربيّة البحتة أوّلًا إضافة إلى أنّه سيحتوي -إن صحّت الأنباء- على كلّ ما لا يرضيها.
كسوري لا يمكنني البقاء بعيدًا عن أقصى التفاؤل أو أقصى التشاؤم عند التفكير في سؤال الحلّ – النهاية ومحاولة توقّع مساراته، ولا يمكنني أو غيري من السوريّين الابتعاد عن التمنّي العاطفي عند أيّ استشراف للمستقبل، فنحن ضحايا الواقع والناجون في كلّ صورة وحال، ولا تغيب عن عيني أمام هذا السؤال لافتة قرأتها عام 2011 في إحدى مظاهرات الثورة، حيث كتب: “ما يحدث في سورية ليس أزمة، بل هو حلٌّ لأزمة استمرّت أربعين عامًا”؛ ردًا على وصف إعلام النظام للثورة بأنّها “أزمة”، فكلمات هذه اللافتة لم تفقد معناها البعيد بعد عشر سنوات سدّ فيها الأسد كلّ طريق آمن لبناء سورية دولة عادلة وديمقراطيّة، حتّى لو اضطّرّ السوريّون إلى قبول “حلّ سياسي” مؤقّت لا يرقى إلى ما تطلّعوا وسَعَوا من أجله خلال ثورتهم، فلا حلّ إلّا هم أنفسهم، في أنّهم لن يقبلوا في نهاية هذا الأمر إلّا بسورية تُحفظ لهم فيها كرامتهم وحرّيّتهم مهما طال زمن الطغيان ومهما ظنّ الباغي الظنون أنّه نجا.
- الكاتب والدبلوماسي السابق بشار علي الحاج علي: ما الذي يجب توفره للحلّ؟
القضيّة السوريّة ليست حالة سوريّة فقط بل هي واحدة من الملفّات الدوليّة المتداخلة، ولا يمكننا تجاوز العامل الدولي، ولكن لا يجب أن ننتظر من الدول أن تقدّم لنا الحلّ، ولهذا لا بدّ من المزاوجة بين ما أفرزه الصراع (هيئات وأجسام ومناطق نفوذ)، وبين ما يضعنا على الخطوة الصحيحة الأولى كسوريّين.
وذلك برأيي من خلال ما يلي:
أوّلًا- التمسّك بالقرارات الدوليّة والتحرك لتنفيذها، حيث إنّها الضمانة للحدّ الأدنى لحقوق الشعب السوري في التغيير وتحقيق حرّيّته وكرامته.
ثانيًا- الطلب من مجلس الأمن إيجاد آليّة ملزمة لتنفيذ القرارات الدوليّة المتعلّقة بالحلّ في سورية، ورفع مستوى التفويض للمبعوث الدولي، ليكون قادرًا على نسبة التعطيل لمن يقوم به بعيدًا عن الدبلوماسيّة. وإجبار النظام على الإفراج الفوري عن المعتقلين.
ثالثًا- إعادة تشكيل هيئة التفاوض وتوسيع تمثيلها بما يشمل شمال شرق سورية، حيث إنّها مثّلت قوى الثورة والمعارضة في القرارات الأممية بخاصّة في الاتّفاق السياسي الذي أفضى إلى تشكيل اللجنة الدستوريّة.
رابعًا- سورية بحاجة إلى دستور جديد، واللجنة الدستوريّة مهمّة وضروريّة، إلّا أنّه يجب تغيير هدف عملها من إعداد مسودة دستور إلى (إعلان دستوري) أو (دستور مؤقّت) خاصّة مع مماطلة النظام ومرور أكثر من سنة ونصف من تشكليها، وتحديد مدّة لا تزيد عن ثلاثة أشهر للإنجاز، وترك قضيّة إعداد دستور جديد إلى المرحلة الانتقالية.
خامسًا- التحضير لتشكيل هيئة/ مجلس (حكم انتقالي) من مكوّنات هيئة التفاوض بعد إعادة تشكيلها، وتشكيل نواة مجلس عسكري وأمني تحت سلطة هيئة الحكم الانتقالي، ويضم فيه ممثّلين عن الضباط المنشقين من الجيش والقوى الأمنيّة وضباط الداخليّة والفصائل المسلّحة.
سادسًا- العمل على جمع القوى السياسيّة السوريّة في كتل وتحالفات قادرة على أن تكون الحامل السياسي الوطني، والتفريق ببينها وبين الأجسام السياسيّة الرسمية (من هيئة التفاوض، الائتلاف الوطني، اللجنة الدستوريّة). فهذه الأجسام تمثيليّة يمكن أن تكون أدوات في إنتاج الحلّ السياسي، لكننا بحاجة إلى قوى سياسيّة وازنة على المستوى الوطني لتكون قادرة على حمل التغيير والعمل عليه.
سابعًا- لا أعتقد نجاح أيّ حلٍّ دون قبول السوريّين به، وهنا يمكن القول إنّ السوريّين الذين طالبوا بالتغيير ودفعوا ثمنه وأصبحوا أحرارًا لا يمكن أن يرضخوا لأيّ حلٍّ لا يلبّي الحدّ الأدنى من تطلّعاتهم، وهذه ليست أمنيّة، بل واقع تثبته مناطق التسويات مثال مدن وقرى ريف دمشق وحوران الأقرب إلى العاصمة. وهذا يقودنا إلى قضيّة التعويم، فالأنظمة القمعيّة تستمدّ “شرعيّة” وجودها من قوّتها وسيطرتها، وهو السبب الذي يجعلها غير قادرة على تأمين مصالح الداعمين، وأما الارتهان الإيراني الروسي، فهو مؤقّت لتحقيق بعض المكاسب التي يسعون لتحقيقها من خلال التدخّل العسكري وكل أشكال الدعم الأخرى. لا يمكن إعادة تعويم النظام، عربيًّا ودوليًّا، والمحاولات في هذا السياق لا تخرج عن مناورات القصدُ منها البقاء عند السقف السياسي التفاوضي، في ظلِّ تجاهل أميركي ليس لأنّ القضيّة السوريّة ليست أولوية لإدارة الرئيس جو بايدن، بل لأنّ السياسة الأميركيّة في سورية تستهدف الاستنزاف للقوى المتدخلة مع وضع مناطق ارتكاز وقدرة على التحرك عند الحاجة.
ولا يخفَى على المتابعين أن المحاولة الروسيّة الأخيرة في الجولة الخليجيّة كانت محاولة لإعادة نظام السلطة الحاكمة إلى جامعة الدول العربيّة، أو تقديم طرح جديد يغيّر من وضع النظام المحاصر، الذي لا تجرؤ الدول على مخالفة العقوبات الأميركيّة المعروفة بــ “قانون قيصر” حتّى روسيا وإيران حلفاء النظام وشركاؤه. وفي السياق نفسه، حول تعويم النظام، جاء تصريح رئيس مفوضية الاتّحاد الأوروبي حول اشتراط تطبيق القرار الأممي 2254 لتمويل إعادة الإعمار واضحًا.
أما قضيّة الانتخابات الرئاسية المزمع عقدها يوم 26 من الشهر الجاري، فلن نخوض في شرعيتها حيث إنّنا لا نعترف بهذا النظام ككلّ، وبرأيي، هي ليست ذات أهمّيّة ولم ننتظر غير ذلك من نظام دمّر البلد وهجّر وقتل وعذب واعتقل الشعب السوريّ، ليس هذا فحسب فليس لدى النظام وداعميه سوى هذه الورقة المحروقة للتلويح بها، كما حصل في عام 2014، حيث تمّت الانتخابات وبقي النظام لكنّه لم ينتصر، وما كان يعزى للحرب من نقص في الخدمات وانعدام الأمن وتوقف وظائف الدولة هو بازدياد بدونها حتّى أوشكت على الإفلاس من كلّ النواحي.
ومع تصاعد التوترات في أوكرانيا وبدء مفاوضات فيينا مع إيران، تبدو ارتباطات القضيّة السوريّة جليّة بهذه الملفّات، والتأثير عليها لا بدّ أن ينعكس سلبًا أو إيجابًا، مع تقديري أنّه سيكون إيجابيًّا لأسباب موضوعيّة، منها أنّ الواقع الميداني في سورية تمّ تجميده إلى حدٍّ كبير، ولم يعد هناك أيّ إمكانيّة ولا فائدة لتغييره؛ ازدياد أعباء وتكاليف التواجد العسكري الروسي والإيراني في ظلِّ العقوبات المفروضة على كلٍّ منها؛ حالة شبه الإفلاس لحكومة النظام وانهيار الليرة السورية، فهو غير قادر على تحمّل هذه الأعباء، ناهيك عن أزمة المحروقات والخدمات والمواد الغذائية. باختصار: يمكن وصف وضع نظام العصابة الحاكمة بوضع المريض الميئوس منه، والذي يرقد في حجرة الإنعاش بانتظار قرار نزع الأجهزة عنه ودفنه.
- الكاتب الصحفي أنس العلي: راهنيّة الحلّ السوري وجماعات الضغط
تنبأ كثيرون بأنّ بشار الأسد سيسقط تحت ضغط الشارع بعد أسابيع من بدء الثورة ضدّه، منتصف آذار/ مارس 2011، وقد تداعت أعمدة حكم ثلاثة رؤساء عرب قبله، لكن ما جرى كان عكس رياح التغيير، إذ بقي محتفظًا بمنصبه لدورتين رئاسيتين، والآن يتحضّر لثالثة. حيث تقاطعت العوامل الداخليّة التي من أعقدها تحكّمه في المؤسّستين الأمنيّة والعسكريّة، مع الخارجيّة وعلى رأسها تلكؤ الغرب في استخدام قرارٍ قويّ ضدّه، مقابل دعم عسكري متواصل إيراني وروسي. كلّ ذلك محمولٌ على استثمار عامل الوقت المشهود لعائلة الأسد التي تحكم سورية منذ أكثر من نصف قرن. وكلّ ذلك لم يجعل النظام يتراجع أيّ خطوة إلى الوراء وظل متمسّكًا بكلِّ مواقفه من دون أيّ تعديل، ومسترجعًا بالقوّة العسكريّة المفرطة معظم الأراضي السوريّة التي كانت خارج سيطرته، ليرتسم بعد عشر سنوات انسداد أفق سياسي سوري ودولي لحلّ يخرج سورية من محنتها. فنكصت بعض أطراف المعارضة عن فكرة إسقاط النظام والذهاب إلى المرحلة الانتقالية وهيئة حكمها. وتبدّى هذا النكوص في منحيين: أوّلهما البحث في أروقة القاتل الروسي عن حلٍّ يُقنع بالتخلّي عن الأسد، من خلال زيارات بعض شخصيّات المعارضة وما يرافقها من موجة تصريحات عريضة لا تجد لها أيّ أساس في واقع التعاطي العملي للروس مع نظام الأسد، بل الحقيقة عكس ذلك تمامًا، فقد ذهب وفدٌ روسي لزيارة مدينة بصرى الشام في محافظة درعا، مطالبين الأهالي بالخروج في مسيرات تأييد لترشّح الأسد ولو كان عدد المشاركين قليلًا، مقابل تحسين بعض الخدمات فيها، لكن طلبهم قوبل بالرفض التامّ؛ وثانيهما أكثرُ غرابة من الأوّل، لأنّه لا يستند إلى معطيات ملموسة، وتجلّى ظهوره مع منتصف عام 2020، بتصريحات تنافسيّة بين عدد من المعارضين السوريّين منقولة عن مواقع التواصل الاجتماعي لشخصيّات إسرائيليّة غير فاعلة، تؤكّد أنّ بشار الأسد لن يترشّح، وأن هناك ترتيب جدول زمني لخروجه من سورية مع بداية 2021. وهنا إشكاليّة نفسيّة اجتماعيّة أكبر من فكرة رهانات حلّ تنهي نظامًا يقتل شعبه، تتلخّص في أنّ تنافسًا بين الطرفيين (الموالاة والمعارضة) على أيّ منهما يكون أكثر طاعة لإسرائيل، هذا ارتداده كبير على جيل شاب يبحث عن الحرّيّة والديمقراطيّة واستقلال قراره الوطني.
أحد أسباب تكرار الحديث عن التوجّه نحو إسرائيل هو تذبذب الموقف الأميركي من الثورة السوريّة وخطوطه الحمراء، ومنذ وصول جو بايدن للرئاسة، تشي كلّ المؤشرات بأنّه سيتابع في سياسة باراك أوباما مع المحافظة على ما أنجزته إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب لجهة “قانون قيصر” وعقوباته الضاغطة. ويدرك الأسد أن لا ضمانة تخفف عنه الضغط الأميركي إلّا إسرائيل، وهنا تحضر روسيا لتكون همزة الوصل في ملفّ التطبيع. وبالمقابل، تعامل المجتمع الدولي مع أكبر أجسام المعارضة (الائتلاف، وهيئة التفاوض، واللجنة الدستوريّة) بتشاركيّة في تنازلات المفاوضات لتثبيت الوضع لصالح النظام. فعندما يقرُّ المبعوث الأممي إلى سورية غير بيدرسون في لقائه مع (غرفة المجتمع المدني) أنّ العمل في اللجنة الدستوريّة ليس مرتبطًا بانتخابات رأس النظام، فهذا تأكيد فعلي أنّ العالم لا يريد إيقاف المجزرة. وهنا اُستخدِمَت المعارضة كمعادل موضوعي لبقائه.
في سياق البحث عن منافذ لمرور الضوء نحو الظلمة السوريّة، حاول أكثر من فريق أن يشتغل خلال الفترة الأخيرة على فكرة (مشروع وطني سوري)، طبعًا لكلّ فريق توجّهه ومعطيات عمله من خلال الخلفيّات التي ينطلق منها، ولكن ما ينشده السوريّون منذ 2011 لمشروع سوري وطني جامع أصبح أكثر صعوبة ممّا سبق، من حيث البنية والتشبيك والتمكين. وهنا يفترض أن يكون العكس، لأنّ التجربة صارت طويلة وعوامل الالتقاء الوطني أكثر من الاختلاف، لكن تبرز معضلتان إحداهما ذاتية والأخرى موضوعية؛ الذاتيّة في أنّ مقدّمي المشروع يصبحون ملاّكًا للحقيقة المطلقة ومخلّصين للناس من أوجاعهم؛ والموضوعيّة في ضعف قناعة الشارع السوري بجدوى إعلان هذه المشاريع، بل إنّها لن تصل إلى العالم لتكون بدائل منطقيّة عن العبث القائم.
أكثر ما احتاجت إليه الحالة السوريّة على امتداد سنواتها هو وجود جماعات الضغط “اللوبي”، وهي مجموعة الأفراد أو المنظمات الذين يتشاركون في الاهتمامات والمصالح، حيث يحاولون التأثير في الحكومات وفي آراء الأفراد؛ من أجل إقناع السلطات المعنية بإجراء تغيير في السياسة العامّة، بهدف كسب منافع لمصالحهم أو قضاياهم التي يتبنونها. وما تُرجم عمليًّا لمرّة واحدة في عمل جماعات الضغط هو “قانون قيصر”، الذي ثبّت عدالة قضايا المعتقلين وجرائم التصفية التي نالتهم في سجون الأسد، من خلال دلائل دامغة تحمّله المسؤوليّة وتطالب بمحاسبته وتجريمه.
بغياب الفعل السياسي للأحزاب، يصبح عمل جماعة الضغط السوريّة والمتحالفة مع الآخر الدولي محقّقًا للغاية التي ينشدها المجتمع السوري في الحرّيّة والخلاص. وأيضًا جماعة الضغط يمكن أن تكون تدريبًا في صناعة تنشئة سياسيّة مستقبليّة في بلدٍ فقد السياسة طوال عقود، ولا يستطيع استعادتها في هذه الظروف الصعبة. وقد وضع العالم الغربي الأسدَ بين منزلتين، فلا هو مُعاد بتأهيل ولا هم بمسقطيه. أخيرًا؛ يجب علينا العمل على دعم كلّ جماعات الضغط التي تساند عدالة القضيّة السوريّة.
الكاتب والمحلّل السياسي سامر الخليوي: إسقاط المعارضات المزيفة واستقلاليّة القرار السوري..
القضيّة السوريّة تعقدت كثيرًا نتيجة طول المدّة ونتيجة التدخّلات الخارجيّة، حيث أصبحت سورية ساحة لتصفيّة الحسابات بين الدول، وأيضًا أصبحت ساحة لمساومات مصالح بين العديد من الدول ليس فقط في سورية بل في العديد من دول العالم، ولا ننسى ما حصل أيّام مفاوضات الملفّ النووي الإيراني مع أميركا والغرب عام 2015، حيث ساوم الرئيس أوباما على سورية لصالح إيران، من أجل أن يتمّ التوصّل معها إلى ذلك الاتّفاق. وأدّت التداخلات الدوليّة وتضارب المصالح إلى صعوبة الوصول إلى الحلّ السياسي، والذي مع كلِّ أسف ليس للنظام أو المعارضة دورٌ كبير فيه. وأعتقد أنّ الحلّ يمكن أن ينطلق من الولايات المتّحدة، إذا كانت هناك رغبة حقيقية وصادقة، وهي قادرة على ذلك إن أرادته فعلًا وحقيقة، كما فعلت في مناطق عدّة منها حرب البلقان حيث جلبت قادة الصراع إلى أميركا ووقعوا “اتّفاق دايتون” الذي أنهى الحرب. وما تقوم به أميركا حاليًّا هو إدارة للصراع وليس حلًّا له. لو كان هناك موقف أميركي صارم تجاه الأسد لما استطاع أن يستمرّ في ارتكاب جرائمه، ولولا الضوء الأخضر الأميركي والإسرائيلي لما استطاعت روسيا وإيران أن تتدخّلا لدعم الأسد، حيث يقع على الولايات المتّحدة الأميركيّة العبء الأكبر، وهي على المحك مجدّدًا لتثبت ما تبقى لها من مصداقية في الشأن السوري، وهو إجراء الأسد للانتخابات دون أن يلتزم بقرار مجلس الأمن 2254، حيث صرّحت أميركا والعديد من الدول الغربية بأنّ الانتخابات ستكون فاقدة للمصداقية والنزاهة وغير شرعيّة. فهل ستتجرأ أميركا والغرب على رفض الاعتراف بشرعيّة الأسد، بعد إجراء الانتخابات والتجديد لنفسه، وتعلّق عضويّة سورية في الأمم المتّحدة وتطرد ممثّل النظام؟ هذا ما ستجيب عنه الأيّام القادمة.
وبالعودة إلى أفق الحلّ السياسي في سورية، أعتقد أنه لن يكون بيد السوريّين معارضين وموالاة، وإنّما سيكون بتوافق دولي يراعي مصالح الدول المنخرطة في الشأن السوري، على حساب مصالح الشعب السوري، ولن يراعي الأهداف والمبادئ التي انطلقت من أجلها الثورة السوريّة، وسيكون لنا دور محدود بصياغة الحلّ السياسي، ما لم تكن هناك وحدة وطنيّة جامعة وشاملة تضع مصلحة الوطن كهدف للجميع، وهذا لن يتحقّق بوجود الأسد. ومن هنا؛ علينا أن نعمل على وحدة الصف -قدر المستطاع- وإبعاد الغالبيّة العظمى من الذين ادّعوا تمثيلهم للمعارضة والثورة السوريّة، وتقديم ممثّلين جدد وحيدين للثورة السوريّة، وإسقاط كلّ المعارضات المزيفة مثل منصّتي موسكو والقاهرة، والأمر الآخر المهم هو استقلاليّة القرار وعدم الخضوع لأيّ جهة، كما كان يحصل سابقًا. والشيء الأخير العملُ على وحدة الفصائل المسلّحة ودعمها وتسليحها، لتكون جاهزة لأيّ استحقاق مستقبلي. وأيضًا لكي تكون أداة ضغط على نظام الأسد من أجل القبول بحلٍّ سياسي، فالأسد لا يفهم إلّا لغة القوّة التي هي غير موجودة حاليًّا، ولا ننسى كلام وزير الخارجيّة السابق وليد المعلم (توفي في 16/11/2020)، الذي قال: “مالم نقدّمه بالسلاح لن نقدّمه بالمفاوضات”.
الصحفي حمزة همكي: الحلّ في حال وضوح معالم إستراتيجيّة واشنطن في سورية
لعلّ الحديث والبحث عن الحلول في سورية، كالذي يبحث عن إبرة في كومة قشّ، وبما أنّه لا يمكن الحديث عن حلٍّ آخر سوى الحلّ السياسي الذي تطرحه وتصرُّ عليه القوى الدوليّة الفاعلة في البلد، فإنّ أيّ حديث عن حلٍّ قريب يبدو بعيد المنال، على الأقلّ في المدى المنظور. ذلك لأنّ المصرّين على الحلّ السياسي لم يدعموا الأطراف المحلّيّة دبلوماسيًّا بهدف خلق توازن بين أطراف النزاع على الأقلّ، بل على العكس فقد تمّت عمليّة إفراغ المعارضات من مضامينها، وأصبحت رهينة لأجندات إقليميّة ودوليّة.
في هذه الأثناء، ربّما يكون أفضل عملٍ يمكن أن تقوم به الأطراف من معارضة خارجيّة وداخليّة، بمختلف توجّهاتها، هو الجلوس على طاولة الحوار لخلق مناخات وأرضيّة قابلة للبناء عليها، حين تتوفّر النيّة الدوليّة لحلّ مستدام. وللتوصّل إلى هذا يجب عدم إقصاء أيّ طرف له تأثير على الأرض، أو حتّى تلك التي لها تأثير سياسي، وإن لم تكن تملك القوّة العسكريّة على الأرض. وإن الحدّ من تدخّل الدول الإقليميّة كتركيا وحق (الفيتو) المفروض من قبلها على مشاركة مجلس سوريا الديمقراطيّة (مسد) بحجّة تبعيتها لـ (حزب العمال الكردستاني)، سيسهل هذا الحدّ، لو تمّ إنجاح هذه الفكرة. وعلى الرغم من رومانسيّة هذا الطرح وفق المعطيات والظروف القائمة، فإنّ التركيز على لملمة جراح الأطراف والمعارضات هو أقصى ما يمكن القيام به في هذا الوقت، على الأقلّ لانتزاع ثقة الشارع مجدّدًا.
من جهة أخرى، فإنّ عمل موسكو على تعويم وإعادة تدوير النظام بهذه الصورة الفجّة، عبر مهزلة الانتخابات الرئاسيّة، ما هو إلّا وقوف عند رغبة باقي الأطراف الدوليّة والإقليميّة ذات الصلة المباشرة بالملفّ السوريّ. وما دام الحلّ النهائي بعيدًا، فإنّنا سنشهد المزيد من هذه المهازل الدبلوماسيّة الدوليّة القائمة في سورية. المشكلة ربّما لا تكمن في تعويم النظام بحدِّ ذاته، بل بمدى نيّة الدول في إنهاء الحرب والعودة لمقرّرات جنيف والبدء بتنفيذ بند المرحلة الانتقالية.
أعتقد أن الحلّ سيكون متوفرًا وسهلًا، في حال وضوح معالم إستراتيجيّة واشنطن في سورية، سيكون هناك حلٌّ في حال شهدنا اهتمامًا أميركيًّا حقيقيًّا، فغياب ممثّلي واشنطن عن مسارات الحلّ في سوتشي وأستانا كان كفيلًا بفشلها قبل أن تبدأ.
الناشط الثوري والصحفي خليفة الخضر: البحث عن القواسم المشتركة الجامعة لكلّ السوريّين
على إثر تشبيه ليافع سوري حول تدخل الدول في سورية ومناطق توزع نفوذها، تشبيه اليافع كان بما أنّ هذه الدول تلعب مع بعضها وبنا، بتبدّل توزع سيطرة كلّ منها، بكبسة زر تنسحب دولة وتدخل أخرى على منطقة، وبكبسة زر تتدمّر دولة وتتحوّل أرض إلى مخيم!
بعيدًا عن هذه الأزرار التي تضغطها الدول المتدخلة في الشأن السوري وعدم احتمالية تمسّك دولة منهنّ بأرض ومنطقة معينة دون أخرى، فإن ما وصلنا إليه من كثرة النزوح والتبدل المتكرّر بجهات السيطرة بين الدول، نصل إلى نقطة أنّ الحلّ السياسي في سورية قد يكون من ضمن النظريّات التي يطرحها الباحثون والكتّاب، وقد يكون مفاجئًا بعيدًا عن كلّ السيناريوهات المطروحة، تبدل السيطرة العسكريّة وعدم التمسّك المميت لدولة، وتهديد دولة بالانسحاب الكلّي من سورية، يضعنا أمام إعادة تفكير بما يجمعنا ما بعد انسحاب أو بقاء هذه القوى على أرض سورية، وإن بقيت وإن سمّاها البعض احتلال والبعض الآخر قوّة داعمة، إلّا أنّ بقاء هذه الدول يحوّل سورية إلى معسكرات اجتماعيّة منعزلة بعيدًا عن صوت الرصاص والمعارك، سنجد هذه الدولة محرّرة والأخرى محتلّة، وكلاهما بكبسة زر، بحسب تعبير اليافع السوري، ينتقل المحتلّ إلى أرض المُحرِّر والعكس، لذلك قطعًا التغيّرات بالسيطرة مفاجئة، وسيكون المجتمع أمام تحدّيات تبعده عن الآخر السوري الذي كان ضمن معسكر الدولة الأخرى، لذلك أن نعمل على إيجاد قواسم مشتركة وثوابت مشتركة مرتبطة بالأرض والبلد وبالهويّة السوريّة الجامعة بين كلّ مكوّنات المجتمع وأطفالهم ويافعيهم الذين كبروا وأصبحوا شبابًا وهم يجهلون الآخر السوري، بسبب خطوط توزع الدول على أرض سورية.
إنّ العمل على البحث عن الثوابت وإعادة إقناع الآخرين بالثوابت السوريّة وإيجاد قنوات تواصل تبدأ بتعاطف الآخر بوجع غيره والاعتراف بجريمة الآخر، والعمل على إيقاف توريث الخطأ من الكبار للأبناء، والاعتذار العادل من الضحايا، والكثير من النقاط التي تسعى لإيجاد عوامل مشتركة وثابتة سوريّة، إن لم تكن من قبل الكبار، ستكون عبر برامج تستهدف اليافعين ومن كبروا في دول الشتات والمخيّمات والمدن والقرى السوريّة، إنّ إيجاد الثوابت المشتركة وتعزيزها وتنميتها وتطويرها سيختصر علينا الكثير من الوقت الذي ستستغرقه في ما بعد بتعريف السوري بالسوري الآخر.
حتمًا، ستنتهي مصلحة الدول ومهامها وتتفق أو تذهب لتجد من دول أخرى ساحة قتال لها، ويتمّ ضغط الزر، بحسب وصف اليافع، ولا يبقى في سورية إلّا أبناؤها ممن كبروا في السنوات السابقة، ولن ينهض المجتمع السوري ويعالج البلد من آفاته ويدفع الشباب إلى التكاتف في بناء ما تمّ هدمه اجتماعيًا إلّا بالثوابت السوريّة، وإلّا وحتّى وإن انسحبت إحدى الدول، سيطالب مجتمع سوري ما هذه الدولة بالبقاء معه خوفًا من السوري الآخر، وفي هذا الخيار لن يصل السوري إلى حلِّ ينهض به ويحرّره من توغّل الدول بقراراته.
الكاتب والمحلّل السياسي شورش درويش: في الحاجة إلى طبعة جديدة للمعارضة
لم تتوقف المبادرات التي أطلقها معارضون في سبيل رسم إستراتيجيّة جديدة تفضي إلى الخروج من الأزمة السياسيّة المتنامية، من ذلك ما تمّ طرحه من قبل شخصيّات وقوى معارضة، حول وجوب تشكيل “مجلس عسكري” يتولّى حكم البلاد إلى حين تأمين انتقال سياسي، وكذلك الأفكار التي لم تتبلوّر بشكلٍ واضح حول “اللامركزيّة” بأنماطها المختلفة، بيد أن هذه التصوّرات، وسواها، التي يمكن تسميتها خطوطًا إستراتيجيّة تسعى إلى الخروج من الأزمة والانسداد الحاصل تقتصر على الشارع المعارض، ذلك أنّ النظام لا يبدي أيّ اقتراح في هذه السياقات، بالنظر إلى نهجه الرسمي الذي يعتبر الأزمة شكلًا من أشكال المؤامرة، وأنّ لعبة “شراء الوقت” كفيلة بتهدّم رؤى المعارضة وتصوّراتها وبتآكل الكيانات المعارضة، وتؤدي إلى يأس المعارضين أنفسهم، والحال أنّنا بتنا إزاء إستراتيجيّتين للحلّ: الأولى تقتصر على المعارضة وتتمثّل في التفكير خارج صندوق عمليّة التفاوض المتعثّرة وفشل العمليّة السياسيّة؛ والثانية تقتصر على النظام، وهي إستراتيجيّة إبطال كلّ ما يتمّ طرحه من قبل المعارضة، بالتالي لا يمكن البناء على تضادّ الرؤى هذا والحديث عن إستراتيجيّة حلّ بين الطرفين!
تحكّم القوى الإسلاميّة المعطوفة على دعم دول إقليميّة بالمشهد العامّ للمعارضة، وغياب أيّ شكل من أشكال تأطير العمل المعارض، وتحويل فكرة الإطار المعارض الجامع من إستراتيجيّة عمل وطني إلى تكتيك مرحلي لغايات تفاوضيّة، والخلاص من ظاهرة التشاوف ورفض الآخر الذي تبديه نخب معارضة إزاء بعضها البعض، مرورًا بما يمكن تسميته بربط أغلب كيانات المعارضة بعربة الدول “الداعمة”، وصولًا إلى رفض فكرة طمأنة الجماعات السوريّة القلقة ومعالجة مخاوفها المتّصلة بالتغيير والذي ساهم في تشظّي المعارضة وأفقدها التوازن المطلوب، يدفعنا إلى القول: إنّ أيّ إستراتيجيّة للحلّ تمرّ بترتيب صفوف المعارضة، أو بكلمات أخرى: يستلزم التفكير في حلِّ الأزمة السوريّة حلّ أزمات المعارضة، ونزع المادة الثامنة من دستور البعث “..القائد للدولة والمجتمع”، التي استلفها معارضون من خزانة النظام، من أذهان من يظنون أنّهم يمثّلون “الأغلبيّة”.
ليس هناك مراجعة جادّة، حياديّة ومنهجيّة، للأخطاء التي راكمتها قوى وأطراف معارضة، ابتداءً باستلهام نموذج التغيير الليبي وما استتبعه من رغبة في تدخّل الغرب لإنهاء حكم الأسد، بل إنّ المفارقة تكمن في أنّ كثيرًا من المعوّلين على التدخّل الدولي ما زالوا متمسّكين بحدوث هذا التدخّل وبالصيغة الليبيّة، ما يعكس اتّجاهًا رغبويًّا وعدميًّا لدى فئة معارضة ما زالت تعتقد أنّ حلّ الأزمة تكمن في يد الدول الكبرى والدول الإقليميّة، في حين أنّ المراجعة تقتضي البحث في آليّات وبرامج عمل وطنيّة تقع على عاتق تيّارات المعارضة ومستقلّيها تعبّر عن نفسه بتشكيل إطار ديمقراطي حقيقي يستطيع التوقّف عن التذاكي و”الفهلوة”، ذلك أنّ عبارتي “الغرب تعب من المأساة الإنسانيّة في سورية”، وأنّه سيتدخّل لإنهاء المأساة المتواصلة، وكذا “شمس دمشق تسطع من موسكو”، ما هما إلّا عبارتان تنتميان إلى عالم اللا سياسة الذي طبع عمل المعارضة.
ترهّل وجه الحلّ السياسي الدولي المتمثّل بالقرار الذي حفظه السوريّون عن ظهر قلب 2254، وما عاد بالإمكان التعويل على مجلس الأمن الذي تتكوّن عملته الواحدة من وجهين: روسيا والصين، والولايات المتّحدة وحلفائها، بالتالي فإنّ التعويل على أيّ حلّ دولي يعني استمرار تضييع الوقت، ذلك أنّه ليس بوسع المنظومة الدوليّة هذه تقديم حلّ ملزم في ظلِّ انقسامها الحادّ في الملفّ السوريّ.
وعلى الرغم من الحديث عن استنزاف روسي في سورية، أقلّه في الجانب الاقتصادي وما يستتبعه من مشاعر سلبية لدى صناع القرار في موسكو لمستقبل بقائها في بلد محطّم ومحاصر رفقة نظام منبوذ دوليًّا، فإنّنا لا نملك معطيات واقعية عن إمكانيّة حدوث تبدّل في مواقف موسكو، في حين أنّ الولايات المتّحدة وحلفاءها فقدت كلّ شهيّة في إحداث تغيير حقيقي في سورية، ومردّ الأمر غياب وجود قوى سياسيّة تمثّل التطلّعات الديمقراطيّة، فضلًا عن فقدان الثقة بمسلّحي المعارضة واصطفافاتهم المذهبيّة، لذا يقتصر الدور الأميركي على تعقّب إيران في سورية، ودعم قوّات سوريا الديمقراطيّة (قسد) في مواجهة تنظيم (داعش) الإرهابي، والاستمرار في التضييق على النظام وموسكو عبر سلال العقوبات الاقتصاديّة (ليس آخرها “قانون قيصر”).
خطوة النظام بإجراء “انتخابات” تعكس مقدار اللامبالاة الدوليّة، بالرغم من الشجب غير المؤثّر على هذه الخطوة، كما أنّها تعكس فوات الحلّ السياسي وفق مقرّرات مجلس الأمن، حيث إنّ الانتخابات تعني إنهاء عمل اللجنة الدستوريّة، وتعني في العنوان الأوسع نهاية فكرة الانتقال السياسي، في حين أنّ الانتخابات ستجري لتكريس “الشرعيّة” الدوليّة التي حافظ عليها النظام، سواء في حصره حقّ تمثيل الدولة السوريّة خارجيًّا أو إبرامه للعقود والاتّفاقات مع حلفائه، بكلمات أخرى: هذه الانتخابات هي كلّ ما تحتاج إليه موسكو للمضي في مسار السيطرة على سورية.
تفرض الوقائع على الأرض وفي أروقة السياسة الدوليّة المزيد من التشاؤم في ما خصّ حلّ الأزمة السوريّة، وإذا كان لا بدّ من التفكير خارج الصندوق، وفي داخله أيضًا، فإنّنا قد لا نعثر على “قشّة” أفضل من مسألة توحيد المعارضة الديمقراطيّة، وإنهاء التبعيّات للدول، قد يكون مثل هذا المسلك “الوطني” شديد الالتصاق بفكرة إقناع العالم بوجود: قضيّة سوريّة” تتمحور حول الديمقراطيّة وإمكانيّة البناء عليها دون وصاية. قد يشكّل مثل هذا القبول المتبادل بين أطراف المعارضة فرصة أوّليّة للخروج بإستراتيجيّة عمل مشترك، ودائمًا تحت عنوان: طبعة جديدة للمعارضة، منقّحة ومزيدة.
الناشط الثوري والكاتب عساف العساف: أسئلة ورهان واختراع العجلة من جديد
مدهشة هذه الثورة، مدهشة حدّ النهايات. تبدو كأنّها جرار كبير يحرث طبقات الأرض والناس والأفكار، جماعات وأفراد، وتنتج الأسئلة، وكثير منها دون اكتراث بترف الإجابات.
كلّ شيء معرّض الآن للهواء، الهواء النقي والغبار وأشعة الشمس الحارقة أيضًا، الوطن والبلد، القوميّة والعروبة والقطريّة، كردستان سوريا أو غرب كردستان، العصبيّة والانتماء والمكان والفضاء والجغرافيا والتاريخ كلّها على المحك. العقائد والدين، السنّة والشيعة، الحسين ويزيد، المسيح والمجدلية، المهاجرون والأنصار، الفتوحات وحدّ السيف، وكلّ هذا التاريخ المكتوب والمنحول هو الآن على صفيح ساخن. الأيديولوجيا، اليسار واليمين ووسط الوسط وأكثر من ذلك، معنى السياسة نفسه كلّها خبز يومي في أفواه الجميع، لا أريد أن أقول في برازهم أيضًا. العائلة والقبيلة، الريف والمدينة، الحضر والبدو، الشوام والحلبية، الشوايا والديرون، الأكراد والتركمان والأشوريون، جوّا السور وبرّا السور في دمشق، غربي الساجية وشرقها في موحسن، حلب وريفها الزاحف على تخومها وقلبها التجاري، كلّ هذا معروض على فاترينات النقاش والصراع. آباؤنا وأمهاتنا، شرفنا المفترض وما ضاع منه، صداقاتنا وعلاقاتنا الحميمة، زوجاتنا وأزواجنا، نحن وأبناء عمومتنا والغريب، أسماؤنا وألقابنا، ذكرياتنا وأغانينا، هلوساتنا وأحلامنا وأوهامنا، كلّ شيء كلّ شيء، على مشرحة أقلّ سكين فيها تجرح حتى بلا ملامسة. نبدو كأنّنا في لحظة الخلق الأولى، أو ساعة الدينونة تلك، عراة من كلّ شيء، نحمل أسماءنا فقط، أسماءنا كما تردّدها ملائكة اليقين: “فلان بن فلانة”.
للإجابة على الأسئلة التي يطرحها الملفّ، جرّبت أن أبحث في “اليوتيوب” ومواقع التسوق الإلكتروني عن حلول وإجابات شافية، لكن -مع الأسف- دون جدوى. ما زال متعذرًا حتّى اللحظة شراء هويّة وطنيّة أو عقد اجتماعي أو حلول سياسيّة لقضيّة ما أو حتّى دستور من موقع “أمازون” مثلًا، وهذا مخيّب ومحبط نوعًا ما، ومصدر الإحباط والخيبة أنّك كفرد تسكن في هذه القرية الصغيرة التي تُسمّى العالم، الذي أغلقه تمامًا فيروس صغير وكاد أن يختنق بسفينة واحدة عالقة في السويس، وسواء كنت في نيويورك أو باريس أو طوكيو أو القاهرة أو أصغر قرية في الهند أو إفريقيا، أو في دمشق أو الشمال السوري، فإنّك قادر على الحصول ببساطة على أحدث منتجات التقانة والعولمة وثورة المعلومات في لحظة طرحها في السوق، وستحرص الشركة المنتجة كلّ الحرص على ضمان حصولك على أفضل خدمة وستزودك دوريًّا بالتحديثات اللازمة مع الصيانة أيضًا. لماذا إذن لا يتمّ التعامل مع الحرّيّة والديمقراطيّة والعدالة والتعايش المشترك وحقوق الإنسان بنفس الطريقة؟ هل يجب اكتشاف النار مرّة جديدة واختراع العجلة من جديد ليستطيع الناس أن يعيشوا بسلام وكرامة من دون أن يغرقوا في تفاصيل لا نهائيّة عن مسارات عبثيّة في أستانا وسوتشي وجنيف وغيرها، يفرضها عالم محكوم ببنية سياسيّة قديمة عاجزة عن تقديم حلول خارج منظومة القوّة والتغلّب.
ربّما كان هذا أحد الدروس التي علّمتنا إياها الثورة السوريّة بأعلى كلفة ممكنة من الدم والألم: أنّ الطريق طويلة ووعرة والعوائق والمطبّات كثيرة ومختلفة، وأنّنا بعد عشر سنوات ما زلنا في البدايات، وأنّ كثيرًا من الأوهام قد سقط، فلا نحن مركز العالم ولا سورية هي الوطن الثاني لكلّ إنسان على هذه الأرض أو حتّى الوطن الأوّل لكثير من أهلها، وأنّ الجيوسياسة هي علكة رخيصة بفم المتغلّبين، والأهمّ أنّ الحلّ إذا أراد أن يأتي فسيجد لحظته المناسبة للقدوم، وبانتظاره سيكون مفيدًا جدًا الاسترخاء والعمل على مهل وبتؤدة كبيرة وإتقان دون أوهام المهمّات الكبرى والمنعطفات التاريخيّة لتسريع قدوم هذه اللحظة وترسيخ حضورها أكثر.. كيف؟
ربّما نحن بحاجة إلى (حركة فتح الفلسطينيّة)، (فتح سوريّة) تنطلق على مهل وتأخذ على عاتقها لملمة شظايا الهشيم السوري لتبني سرديّة وطنيّة متماسكة، وفق التمثيل السياسي الحقيقي والطبيعي، من قاعدة الهرم إلى رأسه ولا شيء آخر. الخبر السيئ أنّه يجب علينا البدء من الصفر أو فوقه بقليل. والجيد أنّ لدينا مخزونًا جيدًا من الخسارات وبعض الأغاني.
الناشط الثوري والكاتب محمد جلال: البحث عن الخلاص الفردي خارج الحدود..
“الحلّ” كلمة لا تحمل المعنى نفسه بالنسبة إلى كلّ أصحاب المصلحة في الشأن السوري؛ فالمصالح مختلفة، وهي في كثير من الأحيان متناقضة. الحلّ بالنسبة إلى النظام السوري هو بقاء الأسد في السلطة ومحافظته على المنظومة الأمنيّة التي تكفل سيطرته على السوريّين وتحويلهم إلى نسخ متطابقة تنتجها معامل الرعب الخاصّة به. قد يبدو الوضع الحالي مثاليًّا بالنسبة إلى الروس الذين يتحكّمون في مقدرات البلد وقراره السياسي الخارجي، ولا ينقصه إلّا إعادة تعويم الأسد عربيًّا وإقليميًّا ودوليًّا. الإيرانيّون كذلك يبدون سعيدين جدًا بهذه الفوضى العارمة التي تمكّنهم من جعل سورية قاعدة جديدة لتجنيد المقاتلين، وتقوية دور وكلائهم في المنطقة، ونقل الأموال، وتحويل غالبيّة مساحة سورية إلى محافظة إيرانيّة لا ينازعهم فيها سوى الوجود الروسي الذي كانت الشراكة معه لا بدّ منها لإنقاذ النظام. الأتراك بدورهم لا يرون سورية إلّا بعيون الحرب على (حزب العمال الكردستاني) ومشكلة اللاجئين. لا يرغبون في الأسد على حدودهم، لكن كلّ ذلك يأتي بعد تأمين الحدود من المخاطر التي يشكّلها (العمال الكردستاني) الذي نما بشكلٍ متسارع بعد الحرب على تنظيم الدولة (داعش). أمّا بالنسبة للأميركان فلم نعرف الحلّ النهائي الذي يناسبهم حتّى الآن. محاربة (داعش) هدفهم الرئيسي وتقريبًا الموضوع أصبح في سورية من الماضي، ولم يعد يشكّل التنظيم الخطر الذي كان يمثّله قبل سنوات. بالنسبة إلى موقفهم من النظام، بالرغم من تبدل أكثر من إدارة، كان أقرب إلى الثبات وهو عدم الاعتراف بأيّ حلّ يُبقي الأسد في السلطة، بسبب الجرائم التي قام بارتكابها ولا يمكن تجاهلها، ولكونه جزءًا لا يمكن فصله من المشروع الإيراني. لا يقول لنا الأميركان كيف سيحدث ذلك، فهم تدخلوا عسكريًّا مرتين، بسبب استخدام النظام السلاح الكيمياوي في دوما وفي خان شيخون. وكان تدخلهم هزيلًا عنوانه “العب داخل الخط الأحمر”، ويبدو مشجعًا لنظام الأسد للتمادي أكثر بدلًا من أن يكون محذرًا.
بالنسبة إلى العقوبات الاقتصاديّة التي تبعت “قانون قيصر”، فقد أنهكت السوريّين وقرّبتهم من مجاعة لا يبدو أنّ الأسد يأبه لها. ولا نعرف إلى أيّ مدى يقتنع الأميركان أنّ تلك العقوبات ستجعل الأسد أو الروس يرضخون. بالطبع التدخّل في سورية بالنسبة للأميركان هو مواجهة مباشرة مع الروس تحمل كثيرًا من الحساسيّات، وقد لا يرغبون في مثل هذه المواجهة من أجل وجبة تبدو غير دسمة، ولا سيما أنّهم حصلوا على حصتهم منها، ولكونهم على ثقة أنّ الجميع يعلم ألّا حلّ نهائيًا سيكون بدونهم.
بقاء الوضع على ما انتهت إليه العمليّة العسكريّة الروسيّة في ريف إدلب وريف حلب، في آذار/ مارس 2020، هو الأقرب في المدى المنظور. ربّما كانت تلك اللحظة التي بدا لكلّ الأطراف أنّ خسائر مزيد من المعارك ستتجاوز أيّ مكاسب منها. تقسّمت سورية فعليًّا، وأغلقت الحدود بشكلٍ شبه محكم بين مناطق السيطرة، بحيث أصبح ذهاب السوري من مدينة حلب إلى إدلب أصعب بكثير من ذهابه إلى بيروت أو بغداد، ونقل البضائع من تركيا إلى شمال حلب أسهل بكثير من نقل أيّ شيء إلى مدن وقرى تبعد كيلومترات عديدة. تخضع كلّ منطقة إلى حكم وقواعد ومناهج دراسيّة مختلفة، وتتعامل كلّ منطقة بعملة تختلف عن الأخرى. قد يتغيّر الوضع الراهن طبعًا، لكنّي أظن أنّ ذلك مرهون بتغيّرات في موازين القوى ذات المصلحة والتي ستنعكس بشكلٍ بديهي على خطوط السيطرة. بالطبع، ليس من الضرورة أن تكون مثل هذه التغيّرات في صالح السوريّين مثلما تعودنا دائمًا.
أما الحلّ بالنسبة إلى السوريين برحيل الأسد وتحرير المعتقلين وعودة المهجّرين إلى منازلهم وخروج جميع القوّات الأجنبيّة والميليشيات العابرة للحدود وبناء دولة القانون والديموقراطية والمساواة، فهو ليس أكثر من حلم وردي لا فرصة لتحقيقه وفق الظروف الحاليّة، وليس أمام السوريّين إلّا البحث عن الخلاص الفردي، خارج الحدود في الغالب. ليس للسوري اليوم بعد تغوّل القوى الدوليّة والإقليميّة داخل الحدود إلّا لعب دور المتفرج على ما يجري في بلده من دون القدرة على تغيير أيّ شيء، مثل ركاب حافلة تتقلّب من الجبل إلى قلب الوادي. بالطبع ليسوا كأي متفرج ينظر من الخارج، فهم الذين يأكلون السياط، وفقدوا منذ زمن بعيد أيّ اهتمام بعدها. ولهم كذلك أن يتأمّلوا بمتغيّرات دوليّة وإقليميّة قد تدفع لإنجاز بعض الحلول الجزئيّة لمشكلاتهم، بالرغم من أنّ المتناقضات الدوليّة لم تقف بصفهم منذ اندلاع الثورة السوريّة. ولا أعني بهذه المتغيّرات المفاوضات التي تجري في مؤتمرات آستانا التي تبدو مضرة محضة لمصالح السوريّين، يكسب فيها النظام والروس مزيدًا من الوقت بإغراق الجميع بالتفاصيل والعبثيّات، وتلعب المعارضة فيها دور الزوج المحلّل لجرائم النظام، والمانح لشرعيّة يبحث عنها الروس للمساعدة في تعويمه وتقديمه للعالم كحلّ اتّفقت عليه القوى السوريّة المتصارعة.
الناشط الثوري ياسر المسالمة: هل هناك حلّ سياسي في سورية؟
يفترض المنطق السياسي جلوس المتحاربين إلى طاولة تفاوض، بانتهاء أيّ حرب أو صراع، للوصول إلى صيغة ترسم ملامح مرحلة ما بعد الحرب، سواء كانت نصرًا لأحدهما وهزيمة للآخر، أو صيغة تعايش محفوف بالمخاطر أو محدّد بالضوابط، لكن ما جرى في سورية جعل هذا المنطق بعيدًا لأسباب عدة أوّلها مدى التدخّل الدولي والإقليمي في الملفّ السوري حتّى ضاع دور الفواعل السوريّين نهائيًّا، وثانيها وأكثرها أهمّيّة اختلافات المعسكرين المتحاربين فيما بينهما وعدم إجماعهما داخل كلّ معسكر على رؤية موحدة للحلّ، فمعسكر النظام تائه الولاء ما بين روسيا وإيران وما بين راغبين في الحلّ السياسي ورافضين له وبين صقور وحمائم، بينما طرف الثورة والمعارضة أضاع جميع الفرص التي كانت أمامه للوصول إلى حلّ سياسي، من خلال تسليمه مراكز قوّته باكرًا للداعمين ومن ثمّ للنظام والاحتلال الروسي، فلم تعد قوى الثورة والمعارضة تمثّل شيئًا على طاولة التفاوض سوى هياكل فارغة من أيّ مضمون، وعادة التفاوض أن يكون ما بين الأنداد للحصول على نتائج مرضيّة.
إزاء هذا الوضع، يبدو الأفق ضبابيًّا، في ظلِّ عبثيّة مفاوضات جنيف، وفي ظلِّ الخطيئة السياسيّة المتمثّلة بقبول تشكيل اللجنة الدستوريّة التي وضعت طرفي المعادلة في سورية تحت الإرادة الروسيّة وطوع بنانها، وذلك من خلال الرضوخ الكامل وغير المشروط لما تمّ ويتمّ الاتّفاق عليه في آستانا بين الحلف المتشكّل ضدّ الثورة السوريّة المتكوّن من روسيا وإيران وتركيا.
الحديث عن حلّ سياسي في سورية اليوم يشبه نكتة سمجة يلقيها أحدهم في عزاء، فقوى الثورة والمعارضة اليوم لا تملك من الأمر شيئًا، ويتمّ سوقها دون إرادة إلى مذابح السياسة، حيث قتل تراكم الأخطاء أيّ أمل فيهم “بافتراض أنّها أخطاء وليست شيئًا آخر”.
في مسألة الانتخابات الرئاسيّة في سورية، بالرغم من جهود موسكو وطهران، فإنّ هذه الانتخابات لن تمثّل أكثر من استمرار ورقة تفاوض للروس أنّهم يتدخّلون إلى طرف الجهة الشرعيّة، بينما يعلمون أنّهم غير قادرين على تعويم النظام دون تقديم تنازلات مؤلمة من قبلهم، وعلى الرغم من انتصارهم عسكريًّا فإنّ موسكو تدفع أثمانًا سياسيّة واقتصاديّة لصالح معسكر واشنطن – بروكسل، وهي ترغب في وقف هذا النزيف. في واقع الحال، الحلف الإماراتي – الروسي الناشئ مصلحيًّا يعمل جاهدًا لتحقيق هذه الغاية، فالإمارات الباحثة عن أدوار إقليميّة ودوليّة لا تتناسب مع حجمها وعدد سكانها تريد تعويض خيبتها سياسيًّا في ليبيا، من خلال الظفر بسورية لاستكمال ربحها الاقتصادي والإستراتيجي عبر سيطرتها بعنوان الإدارة على كثير من موانئ المنطقة العربيّة، ومن ثم تحكّمها في مسارات التجارة العالميّة، وفرضها القوي لنفسها عبر بوابة الاقتصاد في أفريقيا والمنطقة، حيث ترى الإمارات في سورية صفقة رابحة لها، إذا ما استطاعت السيطرة عليها، فهي بذلك تمنع وجود الإسلام السياسي، وتحارب آخر مركز قوي له في سورية بعد نجاحها في إضعافه بمصر وليبيا والسودان وغيرها، كما أنّها تكون على مقربة من الحدود التركيّة لإثارة القلاقل هناك، كون تركيا تمثّل منافسًا لها اقتصاديًّا وتحكمها حكومة إسلاميّة، كما أنّ سورية بموقعها ومواردها تشكّل عامل قوّة لأيّ طرف يسيطر عليها.
تبدو الولايات المتّحدة اليوم في موقف المراقب الذي يتحكّم من بعيد، من دون رغبة في تلويث يديه، في هذا الملفّ المعقّد، فبقاء الوضع على ما هو عليه يخدم أهدافًا عدّة لهم، على الأقلّ خلال المدى القصير، لتسهيل عمليّات الانسحاب من أفغانستان والمحافظة على وضع يُرضي تركيا مؤقّتًا في ظلِّ الخلاف الجوهري ما بين إدارة الرئيس جو بايدن والحكومة التركيّة، كذلك توفير مساحة لإسرائيل لضرب بعض الاهداف داخل سورية بين الحين والآخر تخدم ملفّ التفاوض الأميركي مع إيران، وتعزز فكرة “أمن إسرائيل”، وتعزز الصورة النمطيّة لها في أذهان العرب الراغبين في السلام والتطبيع معها بأنّها قوّة قادرة على الضرب أين ومتى تشاء، إلى فوائد أخرى كثيرة.
السؤال هنا: ماذا نستطيع أن نفعل؟ في الواقع، حلّ هذه القضيّة مثله كحلّ أيّ مشكلة، الواجب أوّلًا الاعتراف بوجودها، وهو أمر غير موجود لدى قوى المعارضة، ومن ثمّ تحليلها ومعرفة أسبابها ووضع اليد على الجرح تمامًا لمعرفة مواطن الخلل، ومن ثمّ تحقيق تحالف المصلحة الراغب في حلِّ هذه المشكلة، يتبعه وضع خطط الحلّ انتهاءً بأعمال الحلّ، لكن في ظلِّ عدم إمكانيّة تحقيق هذا في حالتنا السوريّة الثوريّة والمعارضة، يبدو أنّ عمليّة توسيع قاعدة صنع القرار هي الأنسب عبر تشكيل كيانات سياسيّة فاعلة حقًا تمارس أدوار الرقابة الصارمة والمحاسبة عند اللزوم، تضغط بشكلٍ جماعي لتحقيق أهداف مرحليّة تستطيع مع الوقت إعادة الأمور إلى نصابها.
لا توجد حلول سحرّيّة قادرة على اجتراح المعجزات، ولذلك نحن بحاجة إلى جهود منظّمة وتعاونيّة وعلى مدى متوسط وبعيد، وفي أكثر من مكان وتحت أكثر من عنوان، وهو عمل ضخم يحتاج إلى نيّات وخطط وتنظيم وإدارة وتنظير كثير، وفي الحقيقة هذه هي تمامًا نقاط ضعفنا الحقيقيّة التي يجب العمل عليها، إذا ما أردنا الوصول إلى حلول.
الصحفي عمار حمو: استعصاء الحلّ السياسي
من خطوط الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما الحمراء، إبان مجزرة كيمياوي الغوطة التي ارتكبها نظام الأسد في آب/ أغسطس 2013، وراح ضحيتها 1127 مدنيًّا، بينهم 107 أطفال و201 امرأة، بحسب أرقام صادرة عن الشبكة السوريّة لحقوق الإنسان، حتّى تصويت الدول الأعضاء في منظّمة حظر الأسلحة الكيميائيّة، في 21 نيسان/ أبريل الماضي على تجريد سورية من حقوقها بالمنظّمة الدوليّة، منها حقّ التصويت والترشّح، يتساءل السوريّون عن جدوى تحرك المجتمع الدولي ضدّ نظام بشار الأسد! فلا خطوط أوباما الحمراء أوقفت المجازر بحقّ السوريّين طوال السنوات السبع التي أعقبت المجزرة، ولا نعتُ الرئيس الأميركي جو بايدن لنظيره الروسي فلاديمير بوتين أنّه “قاتل”، محذرًا إياه من أنّه “سيدفع الثمن”، غيّرت مسار السياسة الأميركيّة، على وجه الخصوص، تجاه سورية.
واليوم صار تساؤل السوريّين عن “جدوى التحرك” أكثر إلحاحًا مع إجراء الانتخابات الرئاسيّة هذه الأيّام، أكثر إلحاحًا، خصوصًا أنّ الموقف الدولي ليس أكثر من تصريحات لا تُنذر بتحرك قد يمنع ما يصفه السوريّون “مهزلة الانتخابات”، في وقت بات نصف الشعب السوري نازحًا أو لاجئًا. في المقابل، نجحت موسكو في خطف المسار السياسي الذي رسمه مجلس الأمن كخارطة طريق للسلام في سورية، بموجب القرار 2254، الذي يدعو إلى إجراء عمليّة سياسيّة بقيادة سوريّة، تبدأ بتأسيس هيئة حكم انتقالية، تليها صياغة دستور جديد، وتنتهي بانتخابات تحت إشراف الأمم المتّحدة.
استبدلت موسكو توصيات القرار 2254 بمباحثات آستانا، حيث أعلنت الدول الضامنة لآستانا: روسيا وتركيا وإيران، في كانون الأوّل/ ديسمبر 2016، التوصّل إلى مبادئ تسوية سياسيّة للصراع في سورية، انتهت بالإعلان عن تشكيل لجنة دستوريّة مهمّتها صوغ دستور جديد للبلاد، لكن شخصيّات سوريّة معارضة شكّكت في أداء هذه اللجنة التي لم تخرج بنتائج حتّى اليوم، معتبرة أنّها ذريعة لتمرير أجندات عسكريّة على أرض الواقع.
اليوم، نشهد إجراء الانتخابات الرئاسيّة، وهي “ليست جزءًا من العمليّة السياسيّة التي ينص عليها القرار 2254″، كما عبّر المتحدث باسم الأمين العامّ للأمم المتّحدة، ستيفان دوجاريك، خلال مؤتمر صحفي عقد في 21 نيسان/ أبريل الماضي، ولن تنخرط الأمم المتّحدة في الانتخابات، لكن الانتخابات ستجري في موعدها، وسيتعامل معها المجتمع الدولي على أنّها أمرٌ واقع!
أميركا، من جهتها، لن تعترف بالانتخابات الرئاسيّة، كما صرّح نائب المندوب الأميركي لدى الأمم المتّحدة بالإنابة، جيفري ديلورنتس، مشيرًا إلى أنّ إدارة بايدن لن تعترف بالانتخابات في سورية، إذا لم يتمّ التصويت تحت إشراف الأمم المتّحدة. أميركا بايدن اليوم لا يبدو أنّها ستتدخّل في وجه دمشق، ما لم تتأثّر مصالحها وقوّاتها في شمال شرق سورية.
ما الحلّ للأزمة السوريّة؟ بعد مرور عشر سنوات على اندلاع الثورة السوريّة، صار الملفّ السوري عبئًا على أصدقاء الشعب السوريّ، وحلفاء نظام الأسد أيضًا، ما من شأنه أن يدفع بالأطراف الدوليّة والإقليميّة إلى التوصّل إلى تفاهمات تُرسم، يشير إلى إمكانيّة التوصّل إلى تفاهمات دوليّة وإقليميّة من شأنها التوصّل إلى حلّ سياسي في سورية على مقاس تلك الدول، وبما لا يتناسب مع مصالح الأطراف السوريّة موالاة ومعارضة، ساسة وعسكر.
لذلك، فإنّ الوصول إلى حلّ للأزمة السوريّة يمرّ عبر بوابة المعارضة السياسيّة السوريّة، ويتمثّل في التصالح مع الحاضنة الشعبيّة التي أصبحت أبعد ما يكون عن تمثيلها من جهة، والعمل على حراك سياسي دولي يدفع باتّجاه الضغط للعودة إلى المسار السياسي تحت مظلّة مجلس الأمن بتطبيق القرار 2254. لكن أيّ عمل سياسي يحقّق تطلّعات السوريّين يحتاج إلى مباحثات سوريّة معارضة – معارضة، للخروج بجسم سياسي يمثّل أطياف الشعب السوري وتيّاراته السياسيّة والقوميّة والدينيّة، من دون إقصاء أو تمييز. كذلك ضخ دماء جديدة في مؤسّسات المعارضة السوريّة من شأنه أن يعيد الثقة بين تلك المؤسّسات والمجتمع الدولي الذي بات يرى تلك الكيانات بشخوصها أحد أسباب عدم الوصول إلى حلّ سياسي في سورية.
بموازاة ذلك، يتعين دعم المسار الحقوقي الذي بدأ يثمر في أوروبا من خلال البدء بمحاكمة مرتكبي جرائم الحرب في سورية، وبتضافر الجهود السياسيّة والحقوقيّة، يمكن الضغط على المجتمع الدولي من أجل تحقيق “العدالة الانتقالية” لسورية والسوريّين، ومن ثم تحقيق العدالة السياسيّة في سورية.
الكاتب والمحلل السياسي مشعل العدوي: عدم تمسّك المعارضة بالقرار 2254 تفريط مُتعمّد بحقوق السوريّين
باعتقادي، لا يوجد خيار واقعي للحلّ في سورية خارج أطر القرار الأممي 2254، وحين نتحدث عن هذا القرار، نعني تفاصيل نصّ القرار الأصلي وتسلسل مراحل تنفيذه، قبل أن تأتي سلسلة اجتماعات آستانا وبعدها سوتشي كمحاولة من طرف روسيا لإفراغ هذا القرار من مضمونه، حيث فسّرت روسيا القرار بطريقة أفرغته من مضمونه، وسعت إلى إنهاء الحراك المسلّح ضدّ نظام الأسد، وحاولت إغراء بعض أطراف المعارضة أو شبه المعارضة للقبول بمشاركة النظام السوري بما تسمّيه موسكو “حكومة وحدة وطنيّة”، مقابل أن يحصلوا على بعض المقاعد غير أساسيّة في الحكومة، وغير مؤثّرة في الجيش والأمن والسياسة الخارجيّة.
من هذا المنطلق، نجد أنّ مجرد قبول المعارضة الدخول في نفق لجنة التفاوض على الدستور، وعدم إصرارها على تحديد إطار زمني لوضع الدستور، هو تجاوب مع المحاولة الروسيّة لإغراق القضيّة السوريّة في الوحل، وإجبار المجتمع الدولي على القبول بتعويم الأسد من جديد، تحت ذريعة أنّ السوريّين لم يتفقوا على دستور جديد أو نظام حكم بديل، علمًا بأنّ روسيا ذاتها هي من تعطّل اللجنة الدستوريّة وتمنع استمرار عملها من خلال الإيعاز لوفد السلطة بالمماطلة.
يمكن أن يأتي الحلّ السياسي اليوم من خلال تخلّي المعارضة السوريّة كلّيًّا عن مسار المفاوضات في اللجنة الدستوريّة، والطلب من الميسر الدولي غير بيدرسون العودة للالتزام بنصّ القرار الأممي، وخاصّة الفقرة الأولى، التي تشير إلى ضرورة فكّ حصار المدن، ثمّ فقرة إطلاق سراح جميع المعتقلين على خلفية المشاركة بالثورة دون قيد أو شرط، ليتمّ الانتقال بعدها إلى تشكيل هيئة حكم انتقالي، وهذا يعني تلقائيًّا تعليق المواد الناظمة لرئاسة الجمهوريّة وصلاحيّات الرئيس، والتي يجب أن تنتقل إلى هيئة الحكم الانتقالي، التي بدورها تُشكّل لجنة خاصّة لكتابة الدستور، ولجنة عسكريّة لضبط السلاح وإعادة هيكلة الجيش، ومن ثمّ الإشراف على انتخابات برلمانيّة ورئاسيّة بناء على الدستور الجديد، بعد أن تكون قد أنجزته وعرضته على الاستفتاء العامّ.
على المعارضة السوريّة الاستفادة من قرار الولايات المتّحدة الانسحاب من مسار آستانا، بصفتها عضوًا مراقبًا، وفق تصريح سفيرها في كازاخستان، الذي أكّد أنّ مسار جنيف هو الوحيد الذي يصلح لحلّ القضيّة السوريّة، وهذا موقف يمكن للمعارضة السوريّة أن تُعوِّل عليه، وتبني إستراتيجيّة جديدة للتعامل مع النظام من خلال تمسّكها بنص القرار الأممي دون غيره، بصفته القرار الوحيد الذي يضمن حقوق السوريّين، ولو كان بالحدّ الأدنى المقبول، وأرى أنّ عدم اتّخاذ المعارضة هذه الخطوة هو تفريط مُتعمّد بحقوق السوريّين عن سبق إصرار.
الكاتب والمحلّل السياسي أحمد مظهر سعدو: المسألة السوريّة والعثار الكبير
باتت المسألة السوريّة، بعد عشر سنوات خلت من الدمار والقتل واللعب بها من قبل الكثيرين، تعيش حالة من الفوات غير المسبوقة في تاريخ الثورات العربيّة والعالميّة، ويبدو أنّ السبب لا يعود فقط إلى حالة الخذلان الكبرى التي تعرّضت لها قضيّة الشعب السوريّ، ولا إلى حجم التدخّلات الخارجيّة الإقليميّة والدوليّة، ولا إلى طول عمر الفترة الزمنيّة، بل يبدو أنّ الاشتغال بالوضع السوري إقليميًّا ودوليًّا، وفق مصالح تلك الدول، هو بحدِّ ذاته حالة طبيعيّة، إذ لا يمكن أن يكون أيّ طرف دولي قد وضع إمكاناته وقدراته في أوضاع سورية أو سواها دون أن يخدم بذلك مصلحته ومصلحة بلاده، وهذه إشكاليّة طبيعيّة بين الدول، وفي السياسات الخارجيّة للبلدان، فلا أحد يعمل من أجل الآخر، بل المصلحة الوطنيّة هي الأهمّ والأساس، وهي المؤشر الذي بنى عليه سياساته الوطنيّة.
لكن المعضلة الأساس في الواقع السوري تكمن في معارضته على اختلافها، من سياسيّة أو عسكريّة، شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، وحتّى شمال شرق، هذه المعارضة لم تدرك بعد أنّه لا يجوز مطلقًا وضع البيض كلّه في سلّة الخارج، ولا يجوز (في العمل الوطني السياسي) الارتماء كلّيّة بأحضان الخارج، مهما كان هذا الآخر صادقًا ومواكبًا لهموم السوريّين، ولم يعد بالإمكان، بعد كلّ هذه السنوات، أن تبقى المصالح الشخصيّة لكثيرين من أطياف المعارضة هي الدافع والرائز لتحركاتها، وأن يكون الوطن وما آل إليه وضعه آخر همومها، علاوة على أنّ الاستمرار في حالات التشظّي والتفتّت، وعدم القدرة على بناء حالة تنظيميّة قويّة ومتماسكة، ولن نقول متجانسة حتّى لا نسير مع هوى تجانس بشار الأسد وتوابعه. لكن من أولى أولويّات العمل الوطني أن يلتقي الناس بمعارضتهم كلّها، على مشتركات وبرنامج عمل، ولا نقول اندماجًا، بل الوصول إلى محدّدات أوّليّة يمكن البناء عليها والمراكمة، فأوضاع المعارضة اليوم أشبه بما قال عنه يومًا ياسين الحافظ إنّ “الرميل الذي لا قعر له لا يراكم شيئًا”، وحال المعارضة اليوم بكلِّ تلاوينها هي كذلك، وتكرر الأخطاء بين الفينة والأخرى، ولا تبني جسمًا وطنيًّا يجعل الخارج أكثر احترامًا لها، وأكثر دعمًا سياسيًّا، في المحافل الدوليّة، وهو ما لم تراه المعارضة السوريّة بعد، ولم يلامس معطياتها اليوميّة، التي ما برحت منشغلة بمسائل صغيرة وكيانات عفا عليها الزمن، وعلاها الصدأ.
ولعلّ اشتغال الروس اليوم بجدّيّة وحركيّة، لإعادة تعويم النظام ورأس النظام وإجراء الانتخابات الرئاسيّة على قد ومقاس هذا النظام/ العصابة، القاتل لشعبه والمُهجِّر لأكثر من نصف الشعب، إنّما يعبر عن أنّ هناك حالة من التخلّي المعولمة أصبحت ناجزة، وأنّ الروس وحدهم حاليًّا من يمسك بالمسألة السوريّة، ويلعب بها كما يريد، أمّا صمت العالم غير المعقول، وفي جوّ دولي يشير إلى أنّ التفاهمات القادمة بين الروس والأميركان بعد مجيء الإدارة الجديدة قد تكون ليست أفضل حالًا ممّا سبقها، من تفاهمات أميركيّة روسيّة سواء أيّام أوباما، أو في عهد ترامب، فالكلّ يبحث عن مصالحه، إلّا المعارضة السوريّة المنشغلة كلّيّة بأمور أخرى، لا يبدو أنّها ستؤتي أُكلًا عبرها.
والأميركان اليوم مهتمّون ومنشغلون بالاتّفاق النووي مع الإيرانيّين، ومن الوارد أن يترك ذلك الأثر المباشر أو غير المباشر على الحالة السوريّة، سلبًا أم إيجابًا، ولا تمظهر للموضوع الإيجابي في ذلك حتّى الآن. بل إنّ الصراع الغربي الروسي حول أوكرانيا سيترك آثاره هو الآخر على جلّ المسألة السوريّة، وفق مصالح الأميركان والأوروبيّين ودول الإقليم. والحقيقة أنّ المعارضة السوريّة الآن وأكثر من أيّ وقت مضى مدعوة إلى التمسّك بوصايا الراحل ميشيل كيلو العشرة، وخاصّة ما يتعلّق بوحدة السوريّين، والتمسّك بالحرّيّة منارًا ومسارًا دون أيّ تنازل عن ذلك. فهل ستعي هذه المعارضة السوريّة ما دعاها إليه ميشيل كيلو قبل رحيله المؤلم، أم أنّها ستبقى تصارع الموت وتبقي على التشظّي دون القدرة على الإنجاز؟