عاصمة التحرير.. الرقة 2013

نوفمبر 9, 2022

ورد فراتي

مقالات

في بدايات عام 2013 كان الثوار قد تمكنوا من تحرير مساحات واسعة من سوريا، امتدَّت من أقصى شرقها على الحدود السورية العراقية في محافظة دير الزور، وحتى شمالها عند معبر باب الهوى في محافظة إدلب، بل وحتى بعض جبال الساحل السوري، ولم يكن يفصل هذا الامتداد الواسع للمناطق المحررة إلا محافظة الرقة في وسط شمال سوريا، والتي طالما راهن نظام آل الأسد على ولائها له، لتبقى حصناً له ولنظامه شمال سوريا.

لكن الثوار ومنذ تحرير معظم مساحة ريف حلب الشرقي أواسط عام 2012، أخذت أعينهم ترنُو لتحرير محافظة الرقة، والتي بدؤوا معركة تحريرها من تل أبيض شمالها على الحدود السورية التركية، وذلك في سبتمبر \ أيلول عام 2012، ثم تحرير بلدة دبسي عفنان التي تفصل ريف حلب الشرقي عن الرقة في نوفمبر \ تشرين الثاني من العام نفسه، والتي تعتبر بوابة المحافظة الغربية.، لتَتتابع عمليات تحرير المحافظة حتى تمكن الثوار من تحرير مدينة الثورة أو “الطبقة” في فبراير \ شباط عام 2013، مقتربين كثيراً من مدينة الرقة عاصمة المحافظة، والتي تمكنوا من دخولها أخيراً في بدايات مارس \ آذار عام 2013، وذلك بعد مجموعة من العمليات العسكرية التي نفذها الثوار بدقة، تمكنوا فيها من تحرير المدينة بشكل كامل، دون تحويل شوارعها لساحة معركة تُدَمِّرُها.

كانت أوّل كتيبة تدخل المعركة آنذاك هي كتيبةٌ تتبع حركة أحرار الشام الإسلامية، والتي قادها ابن المدينة من حيّ “المشلب”، الصديق وزميل الدراسة في كلية العمارة في جامعة حلب “عبد الفتاح الرومي”.

قاد “عبد الفتاح” عملية القسم الشرقي في المعركة، والتي ضربوا فيها إحدى الحواجز الرئيسية على مشارف المدينة، حيث أصيب “نمر الرقة” كما كنا ندعوه في 3 فبراير \ شباط، وأثناء محاولة رفاق سلاحه إسعافه، أدرك أنّ ساعته قد أزفَت، فأوصى أحدهم أن يدخُلُوا به المدينة أمام منزل أهله “لتزغرد” أخته فوق رأسه، ثم يأخذوه بعيداً ليدفنوه.

يوم لا يُنسَى

تُعتَبَر مدينة الرقة مركز واحدة من ثلاث محافظات يُشكِّلن المنطقة الشرقية في سوريا، وهي المنطقة التي عانَت القدر الأكبر من التهميش خلال 40 عاماً حكم فيها نظام الأسد البلاد، لكنها رغم ذلك ومع انطلاق الثورة السورية لم تشهد حراكاً واسعاً كذلك الذي شهدَتْه محافظة ديرالزور مثلاً، أو حتى مدينة القامشلي في الحسكة، ربما لنفس الأسباب التي حدَّت من زخم الحراك الثوري في مدينة حلب طوال عام 2011، حيث اعتمدَت قيادة المدينة الأمنية بشكل كبير على وجهاء العشائر فيها كوسطاء بين النظام وبين سكانها لتهدئتهم وتنفيذ عدد من الإصلاحات البسيطة في المدينة، في الوقت نفسه الذي كانت الحواجز الأمنية ومجموعات الشبيحة تملأ شوارعها جاهزةً لقمع أيّ حراك ثوري فيها، وهو ما وضع عبئاً إضافياً على ناشطي المدينة وثوارها خلال محاولاتهم -التي لم تتوقف يوماً- للخروج في مظاهرات كانت معظمها “مظاهرات طيارة”.

حتى جاءَت الذكرى الأولى لانطلاق الثورة السورية والتي خرجَت فيها مظاهرة طيارة تعاملَت معها قوات الأمن بإطلاق الرصاص الحي، موقعة الشاب “علي البابنسي” من أبناء المدينة شهيداً، لتعيش المدينة يوماً لا يُنسَى في 16 مارس \ آذار أثناء تشييعه في واحدة من أكبر مظاهرات سوريا، والتي واجهَتها قوات النظام بإطلاق الرصاص الحيّ، موقعةً عدداً كبيراً من الشهداء نُظِّمَ لهم تشييع آخر مهيب في اليوم التالي، يعكس موقف “الرقّاوِيِّين” حقيقةً من الثورة السورية.

عاصمة التحرير

في آذار عام 2013 كنتُ وأبو عروة (أحد أبناء طيبة الإمام من ريف حماة) قد أنهينا زيارتنا إلى مدينة الميادين شرقي سوريا، وذلك بعد أن غادَرَنا “يوسف” (ابن عم أبو عروة ورفيق رحلتنا تلك) إلى تركيا عبر معبر تل أبيض شمالي الرقة، لنُقرر -أنا وأبو عروة- العودة إلى حلب عبر المدينة حديثة التحرير، والتي كنا نعرف من أبنائها بعض أصدقاء ثورة حلب أيام سلميتها.

لم يخطر ببالي عندما سمعتُ خبر تحرير الرقة أنّ شمال سوريا وشرقها باتا كتلة واحدةً مُتّصِلَةً، في أكبر مساحة مُحَرَّرَة عرفها السوريون طوال سنين ثورتهم، لكني أدركتُ ذلك جيداً عندما كنا نتّجه إليها.. مئات الكيلومترات المترامية قطعناها في ذلك الطريق، وأراضٍ شاسعة ممتدّة على مرمى البصر كانت كلها محررة، مشينا فيها جميعها دون أنْ نخشى حاجزاً للنظام.. دون أن نخشى إلا الله.

شكّلَت مدينة الرقة أول مركز محافظة سورية يتمّ تحريره بشكل كامل، لذلك أُطلِقَ عليها اسم “عاصمة التحرير”، وقد استحقَّت لقبها ذاك بجدارة، فمن بين كل المناطق المحررة آنذاك يمكن أن نعتبر الرقة أكثر المدن المحررة أهليّةً للقب مدينة، بشوارعها العريضة وساحاتها وحدائقها ومؤسساتها الحكومية والإدارية، والأهم من ذلك كله بالكهرباء التي لم تنقطع عنها! فضلاً عن غياب مظاهر الدمار عن شوارع المدينة، اللهم إلا تمثالاً كبيراً لـ “حافظ الأسد” يرتدي عباءةً فراتية، كان النظام قد أقامه في ساحة الساعة في المدينة رمزاً لسيطرته عليها، ليقوم الثوار بإسقاطه في أول أيام التحرير، وتركه هناك مرميّاً على وجهه شاهداً على انتهاء عهد نظام آل الأسد، وبدء عهد التحرير.

في المدينة المحررة كان واضحاً منذ البداية أنّ هناك مشكلة ستقبل عليها الرّقة، فالتشكيل الأكبر الذي شارك بعملية التحرير كان “حركة أحرار الشام الإسلامية”، عبر تكتُّل باسم “أمناء الرقة” من أبناء المدينة تحرَّك داخلها، بالتنسيق مع تشكيلات الحركة والمُكوّنة بعددها الأكبر من أبناء محافظة إدلب والتي كانت تهاجمها من خارجها، وهو ما سمح للحركة أنْ تتدخّل بصورة واسعة في تشكيل كيانات الحكم المحلي في المدينة بعد التحرير.

ولأنّ الحركة كانت تعتمد آنذاك “السلفية الجهادية” منهجاً لها تتحرّك وفقه، فقد انعكس هذا المنهج في تصوُّرها عن شكل الحكم للمناطق المحررة، بصورة تتعارض كلياً مع توجهات طيف واسع من ناشطي المدينة، الذين تمكنوا خلال فترة قصيرة من تنظيم أنفسهم في تكتلات كانت تُنسِّق للعديد من الأنشطة الاحتجاجية على قرارات الحركة وطريقتها في الحكم، دون إغفال المشكلة المناطقيّة التي كانت مُحرِّكاً آخر للتوترات في عاصمة التحرير، فالحركة وإنْ كانت تضم عدداً جيداً من أبناء محافظة الرقة وعلى رأسهم “أبو حمزة شرقية”، إلا أنّ مركزيتها الأساسية كانت مُشكَّلَةً من أبناء محافظة إدلب، والذين لم يُخفُوا نظرتهم للمدينة بأنها مدينة غير ثائرة! في مقابل نظرة أبناء المدينة إليهم كطارئين عليها يريدون حكمها واستغلال مواردها! وهو ما ساهم إلى حد بعيد في اصطفاف تشكيلات المدينة العسكرية المنتمية للجيش الحر، والتي تَشَكَّل معظمها بعد تحرير المدينة مع ناشطيها ضد الحركة، لتدخل المدينة دوّامةً من الصراعات الداخلية التي زاد من تعقيدها دخول جبهة النصرة وتغلغُلها في مفاصل الحكم داخل كياناتها المشكلة حديثاً، بصورة أكثر تشدداً حتى من حركة أحرار الشام.

عاشَت مدينة الرقّة أيامها منذ آذار عام 2013 مشحونةً بالصّراعات بين التشكيلات المختلفة فيها لإحكام سيطرتهم عليها، حتى تمكّن تنظيم داعش بدايات عام 2014 من احتلال المدينة بشكل كامل، وطرد كل التشكيلات الأخرى منها، وتحويل المدينة من عاصمةٍ للتحرير إلى عاصمةٍ للخلافة التي أعلنَها التنظيم أواسط عام 2014..

المصـــدر

المزيد
من المقالات