عبد القادر الصالح.. ما لم يُرو من سيرة الشهيد والثورة والوطن (٣)

نوفمبر 29, 2022

العقيد عبد الجبار العكيدي

مقالات

الحيرة والارتباك والفوضى في المدة الفاصلة بين ظهور فيروس كورونا وإعلانه وباءً غيّر بعد ذلك وجه العالم، تشبه المدة ما بين ظهور فيروس تنظيم “الدولة”، وتحوله إلى وباء، غيّر وجه البلاد، وودّ لو يفتك بالثورة السورية الماجدة.

لا أسوق هذه المقدمة في سياق التبرير، لأن سيف التاريخ أمضى من كل قول، ونقبل به في الدنيا حكماً، والحكم الأخير عند الديّان في الآخرة، لكن إنما أحاول بناء تصور للفضاء الذي ظلل آخر أيام الشهيد عبد القادر الصالح. أن تواجه ألف سيف للعدو أمامك أهون من خنجر واحد يطعنك به غادر كذاب أشر متنكر قاعد في جوارك.

أُنهي ههنا ما بدأته به في جزأين سابقين، رويت فيهما شيئاً مما شاهدت وسمعت من سيرة الشهيد الصالح أبو محمود، وهما جزآن غلب عليهما مرحلة الصعود الثوري، من تحرير حلب إلى مؤازرة القصير، فكان الفرح وما يشبه الشعر يراقص كل حرف أكتبه، إلا أن الجزء الثالث والأخير، ومن بين ثنايا كل كلمة ينزّ الدم والدمع والقهر.

سرطان تنظيم “الدولة”

عقب إعلان “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” وإعلان قائد جبهة النصرة مبايعته وتبعيته لأيمن الظواهري وتنظيم القاعدة، وبدء تمدد هذه التنظيمات في معقل لواء التوحيد في الريف الشمالي، بدأ الشهيد أبو محمود حينها يستشعر خطورة تلك التنظيمات على الثورة.

أذكر في أحد الأحاديث قوله إن هذه التنظيمات سوف تصيب الثورة في مقتل، لكن وفي ذات الوقت كنا متفقين أن المواجهة معهم حينها ستُضعف جبهات القتال مع النظام، والأهم أن المقاتلين ليسوا مهيئين لقتال هذه التنظيمات، حينها لم تكن بعد قد اكتملت ملامحها، كانوا فصائل يحملون راية الإسلام ويدّعون وجودهم دعما للمقاتلين ونصرة للشعب السوري وثورته ضد ظلم الاسد.

في كل مرة كانت تتعزز لدى الشهيد عبد القادر الصالح حتمية المواجهة مع تنظيم “الدولة”، لكنه كان يدرك في الوقت ذاته أن التنظيم ستؤازره كل التنظيمات السلفية الجهادية، وحينها ستكون المواجهة واسعة وربما خاسرة، وكان لطالما يلهج بالدعاء أن يجعل الله له مخرجا.

الصدمة

رغم كل المقدمات التي مهدت لظهور التنظيم، إلا أن التنظيم الذي نعرفه، بتلك السطوة والقوة والغدر، يمكن القول إن ظهوره كان فجائيا صادما في تحولاته وسريع النمو.

هذا على الأقل ما قرأته في ملامح الشهيد عبد القادر الصالح حين وصلتنا أخبار اقتحام تنظيم “الدولة” مدينة اعزاز في أيلول / سبتمبر عام ٢٠١٣، كنا حينها في العاصمة التركيّة أنقرة، في اجتماع لقادة الجبهات والمجالس العسكرية ورئيس الأركان مع وزير دفاع عربي.

في استراحة الغداء كنت أجلس إلى طاولة واحدة مع الشهيد أبو محمود، وكان معنا أبو عمر زيدان المسؤول عن الأمن الشخصي للشهيد الصالح، وكانت الطاولة بعيدة عن الجميع، وحينها تلقينا خبر اقتحام اعزاز، وانهالت في الوقت ذاته اتصالات من ممثلي عدة دول يستفسرون عمّا حدث، وكأننا نمتلك تفسيراً!

لم يستطع الشهيد أبو محمود تناول الطعام، بل لم يعد قادراً على الجلوس، بدا من شدة الارتباك، وكأن مسّا أصابه، لم يتأخر في مغادرة المكان إلى وجهة لم أعرفها، اتصلت به مراراً دون رد لننسق رداً مشتركاً. في المساء اتصل بي لكن هنا كنت قد حسمت أمري وغادرت متوجهاً إلى سوريا.

المواجهة المؤجلة

وفي سوريا التقيت الشهيد عبد القادر الصالح، كان أشد ارتباكا مما كان عليه حين تلقى الصدمة في المرة الأولى، أدركت أنه اطّلع على تفاصيل لم يكن عندي بها علم، لكن أجزم كنتيجة لذلك اللقاء، أن الشهيد أبو محمود، كان يعيش صراعا مكبوتاً ومزدوجاً، بينه وبين نفسه، ومع قادة لواء التوحيد، وفي مقدمتهم القائد العام عبد العزيز سلامة.

لا يتسع المقام ولا السياق ذكر الاتهامات المتبادلة حينها وخصوصا تلك المتعلقة بمَن تواطأ مع داعش بهدف القضاء على فصيل عاصفة الشمال بهدف السيطرة على معبر باب السلامة مع تركيا، لكن أذكر أن هذه الاتهامات حفرت عميقا في وجدان الشهيد عبد القادر الصالح.

بعد ذلك، تداعت الفصائل لاجتماع في مدرسة المشاة للتباحث في كيفية التعامل مع تنظيم “الدولة” المتغلغل بيننا، والهدف الرئيس كان حينها إخراجه من مدينة اعزاز. لم أحضر الاجتماع لكن كنا ننتظر جميعاً بياناً في هذا الصدد. قبل إصدار البيان التقى القائد العام للواء التوحيد عبد العزيز سلامة بقيادات من التنظيم، وبعد ذلك اللقاء خرج البيان رقم واحد، وكان صادماً، وبدل أن يكون بياناً موجهاً ضد التنظيم، تحول إلى بيان ضد الائتلاف السوري، وطالب بإسقاط الحكومة المؤقتة التابعة له.

بعد هذا البيان تأكد لي أكثر فأكثر ما كان يوصله لي الشهيد أبو محمد تلميحا لا تصريحا، وهو تحجيم دوره في لواء التوحيد، بدأ هذا الأمر منذ عودتنا من القصير.

أول وآخر خلاف

اختلفت لأول مرة مع الشهيد عبد القادر الصالح، لم يقبل رأيي بأن المواجهة يجب أن تكون حرب اجتثاث مع التنظيم. بل كنت حينها أرسل السلاح والذخيرة للفصائل القادرة الراغبة العازمة على مواجهته مثل لواء عاصفة الشمال والفرقة 16 وبعض الكتائب من حريتان وحيان وغيرها.

كان الشهيد عبد القادر الصالح ربما في أكثر لحظات حياته حيرة، فعينه التي كانت مفتوحة على دمشق، صارت ترى غير ما تشتهي، وتحولت المعارك ودوي الرصاص بعيداً عن جبهات القتال مع النظام، وكلما فرح النظام حزن الشهيد الصالح، وكان هذا الحزن يكبر، والأسى يُثقل كاهله أكثر.

الغياب

في الرابع عشر من شهر تشرين الثاني / نوفمبر عام ٢٠١٣ كنت في قريتنا في تشييع ابن اختي ومرافقي الشخصي، الشهيد شادي عكيدي، هناك وصلني خبر الاستهداف الجوي لمقر لواء التوحيد في مدرسة المشاة، خلال اجتماع لقادة اللواء.

تواصلت فورا مع المسؤولين الأتراك للاطمئنان على صحة أبو محمود وكان الحديث حينها أنه فقط مُصاب، لكن أبلغني المسؤولون أنه استشهد، وطلبوا عدم بث الخبر بناء على رغبة القائد العام للواء التوحيد عبد العزيز سلامة.

غادرت العزاء متوجها إلى تركيا وفي مقر يتبع للواء التوحيد بين معبر باب السلامة ومدينة كيليس التقيت عبد العزيز سلامة وكان أيضا مصابا إصابة خفيفة، واستفسرت حينها عن سبب عدم الإعلان عن استشهاد أبو محمود، ولماذا لا تجري فورا نعوته والتحضير لدفنه بوصفه رمزا من رموز الثورة السورية، وارتفعت الأصوات المشوبة بالغضب، ولم يقدم لي “سلامة” يومها أي تفسير، ولتاريخ هذا اليوم لا أجد مبررا ولا سببا لتأجيل إعلان استشهاد عبد القادر الصالح أو مبررات دفنه خفية في جنح الظلام، ولم أقنع أبدا بحجة حماية المُشيعين.

وقطعا لكل رواية قيلت حينها، فالشهيد عبد القادر الصالح غادرنا متأثراً بإصابته البليغة نتيجة سقوط سقف الغرفة فوقه بعد القصف، وعقب سحبه من تحت الأنقاض وإسعافه، استشهد قبل أن يصل الحدود التركية، ولم يُعلن عن استشهاده إلا بعد ثلاثة أيام.

كان يكره المكوث في الملاجئ ويقول عندما نتعرض للقصف الجوي: “إن شاء الله نستشهد على الجبهات لا تحت الأنقاض” ولكنها إرادة الله.

غادرنا عبد القادر الصالح بقلبه النقي الذي ربما لم يكن ليتحمل ما أصابنا بعده، وما أحاط بنا من نكبات وانكسارات أكثرها قسوة سقوط حلب، وضياع البوصلة. وهو سيكون موضوع شهادتي القادمة، بدءا من سقوط السفيرة، أول حجر من أحجار الدومينو  التي جرّت علينا الهزائم العسكرية اللاحقة.

المصـــدر

المزيد
من المقالات