مدينة القصير، في الطريق إليها ومعركتها الأخيرة والخروج منها، وإن شكلت محطة استثنائية تشاركتها مع عبد القادر الصالح، إلا أن حلب، تبقى أمّ المحطات، وأكثرها جلالاً، وأن تُحكى هنا سيرة الشهيد الصالح، فهي ليست تسجيلاً لسيرة رجل، بل هي سيرة تختصر سير مدينة وثورة ووطن وحلم.
اللقاء الأول
في تموز عام 2012، وفي ريف حلب الغربي التقيت لأول مرة بالشهيد عبد القادر الصالح، كان هيّاباً في إطلالته، رغم نحوله، نشيطاً ضاحكاً، يجرف بعفويته وتواضعه وبشاشة وجهه من حوله جرفاً، لا يأبه لشكليات كان قد بدأ بعض القادة بالحرص عليها، زهده في القيادة هو جعله لاحقاً قائداً بحق، قاد الرجال في المعارك، وكذلك القلوب.
وأقولها صراحة، الشهيد عبد القادر الصالح، كان يتوجس من الضباط المنشقين، أو بشكل أدق لا يحب العمل معهم، ولا حتى لقائهم، علمت لاحقاً أنه وحين وصل إلى المكان الذي كنت فيه همّ يقفل راجعاً، لكن أحد المقربين منه جاء به إلى اللقاء على مضض.
كنا حينها نناقش توحيد كافة الكتائب الموجودة في ريف حلب ضمن جسم عسكري واحد، وتم الإعلان بعد ذاك اللقاء عن تشكيل لواء التوحيد، وكان الصالح قائداً عسكرياً له.
قادة لواء التوحيد، أو الحُّجاج وهو المصطلح المُستخدم حينها، رفضوا الانضواء تحت المجلس العسكري الذي كنت أرأسه إلا أن ذلك اللقاء شكل بداية علاقة خاصة، بيني وبين الشهيد عبد القادر الصالح، علاقة لم ترق كثيراً للآخرين، بل كانت مصدر أرق. في ذاك اللقاء شعرت بكيمياء سرت بيننا في المرة الأولى لتشكل علاقة عنوانها المصارحة التامة، الخالية من التنافس الذي شاب حينها علاقة أي قائد مدني بأي قائد عسكري منشق.
كان هناك رهان كبير من البعض على خلاف ينشب بيني وبين الشهيد الصالح أبو محمود، لكن انتماءنا أنا وهو إلى شيء أجلّ وأكبر، قوّض كل تلك الرهانات، ونسجنا معاً علاقة كنا نعوّل بأن تنسحب على ما فيها من الانسجام والثقة على كافة التشكيلات العسكرية على كثرتها واختلافها واختلافاتها، وبعض تلك الاختلافات أصابت العمل العسكري في مقتل.
“أميركا لن تدعم الثورة”
حرثنا جبهات قتال كثيرة معاً، تفقداً واستطلاعاً، ومعاً كنا نحضر معظم الاجتماعات الخارجية. كان عبد القادر الصالح حييّاً قليل الكلام، وكثيراً ما سئل في تلك الاجتماعات فيشير إلى قائلاً: “عمي أبو محمد يتكلم باسمنا”. كان زاهداً في الاستعراض في وقت كان كثيرون وضعوا نسج علاقات مع الغرباء في أول سلم أولوياتهم، أما هو كان همّه تأمين السلاح والذخيرة والدعم اللوجستي للمقاتلين.
لم يوفر أبو محمود اجتماعاً يدرك أنه قد ينفع به مقاتليه ولو برصاصة، وحدها الاجتماعات مع الجانب الأميركي كان عبد القادر يرفضها، حتى لو هم من طلب الاجتماع به، وقد فعلوا، كان يعتذر والانزعاج باد عليه ويقول لي: “أنا لا ألتق بالأميركيين عمي أبو محمد، هم لم ولن يدعموا ثورتنا “. كان منذ ذلك الوقت متشبثا بهذا الرأي وبيّنت الأيام صوابه، وخصوصا حين قرأت ما ذكره الرئيس الأميركي باراك أوباما في كتابه الأخير عن سوريا في تلك الفترة، وكأن الشهيد الصالح قرأ ذاك الكتاب قبل نشره بنحو عشرة أعوام، أهي بصيرة القائد الشعبي النقي الصادق؟
ووقعت الواقعة..
بعد لقائنا الأول بأيام تم الإعلان عن معركة تحرير حلب، وتقدم أبو محمود لواء التوحيد، ولا أكشف سراً إذاً شهدت أنه كان مقداماً شجاعاً يتقدم مقاتليه في كل نزال، شادّاً على أياديهم، رافعاً معنوياتهم، مقللاً من هول مواجهة جيش منظم، مدّعم بالسلاح والآليات والطيران. تولى كسر معادلة استحالة أن تواجه بندقية دبابة، وبهذه الهمم دخلنا حلب.
كان يحرص على التجول الدائم بين مقاتليه والمدنيين، تحديداً المدنيين كان يذهب وحيداً دون أن يعرفوه يستطلع رأيهم بالجيش الحر ومقاتلي لواء التوحيد، وقبل أن يغادرهم كان يكشف عن هويته، ويقول لهم لا تتردوا بالشكوى على أي مقاتل يسيء، إنما جئنا إليكم لتخليصكم من حكم نظام بشار الأسد، لا استبداله بحكم آخر، أو ظلم آخر.
في إحدى مظاهرات بستان القصر، هتفت طفلة صغيرة هتافاً حمل اتهامات بحق الشهيد الصالح، حينها كان يذرع الغرفة مهموماً متسائلاً عن السبب الذي أدى إلى ذلك الهتاف، ورغم براءته منه، إلا أنه شعر بمسؤولية ما، ذات الطفلة نعته لاحقاً بأغنية مُبكية، ومنذ ذلك الوقت وأنا أفكر في نفسي: ليتنا نثق ببعضنا، نحن الأحياء، كما نفعل دوما متأخرين مع من رحلوا عن عالمنا.
وعين القلب على دمشق
توالت خلال الأيام والشهور اللاحقة الانتصارات، لم تكن من الناحية العسكرية في كثير من الأحيان منطقية، وكانت المناطق المحررة تتوسع مساحتها.
لا أنسى فرحته حين زف إلى خبر إنشائه القوات الخاصة عقب تحرير لواء التوحيد كلية المشاة، التي حملت لاحقاً اسم عرّاب تحريرها، الشهيد يوسف الجادر أبو فرات، قال لي حينها أبو محمود: “عمي أبو محمد أصبح لدينا قوات خاصة يشرف على تدريبها ضباط منشقون من ذات الاختصاص، بهؤلاء يا عمي أبو محمد، سنتوجه إلى دمشق”.
عينه دائماً كانت على دمشق، لا شيء آخر سوى تحرير سوريا من نظام الأسد، وفي طريق هذا الحلم ساهم كما يعلم الجميع في بناء وتشكيل ودعم كيانات مدنية بدءا من المجلس الانتقالي الثوري في حلب إلى مجلس محافظة حلب الحرة.
خنجر في خاصرة الحلم
أكثر من ثلاثة أرباع سوريا محررة، والقلب يهفو إلى ما بقي من حلب، ومنها الوُجهة الأثيرة والأخيرة، إلى دمشق، هناك ننتصر أو نموت، هذا كان دأبه، ومركز تفكيره.
لكن كان ثمة خنجر يتهيأ لطعن خاصرة الحلم، بل طعن الثورة والوطن، يتمثل في تنظيمات متطرفة، كانت داعش في مقدمتها، نشأت نشأة حذرة مشبوهة حرصت على خلط الأوراق، وأخذت الأوضاع إلى ضفة بعيدة عن ضفة الثورة، وانفجر همٌ في قلب وعقل الشهيد الصالح، وهذه المحنة وما شهدته منها مع الشهيد الصالح ستكون موضوع مقالي القادم.