لن أنس ما عمّرت وعشت ذاك الوميض في عيني القائد والصديق، الشهيد الحيّ، عبد القادر الصالح، أبو محمود، كنت قبل ذلك بقليل قد همست له قائلا: أنا ذاهب إلى القصير فأوضاعهم صعبة للغاية، وربما لا أعود، حلب أمانة في رقبتك”، لم يتردد مجيباً: “سنذهب معا”، وكان عناقا عفويا لم يستأذن أياً منّا.
كان ذلك في يوم الإثنين، في العشرين من أيار/ مايو عام 2013، في مقر لواء التوحيد بمدينة حلب، عقب اجتماع أسبوعي هناك مع قادة الأفواج.
لم يكن مألوفا في ذلك الوقت أن تتوجه قوات من محافظة إلى أخرى، فالعبء على التشكيلات القتالية كل في منطقتها ثقيل وكبير، ناهيك عما يحمل التنقل بين طياته من مخاطر كبيرة، فكيف هو الحال إذا كانت الوُجهة إلى وسط بلادنا الحبيبة، إلى حمص الحبيبة.
هذا ما أدركه قادة لواء التوحيد، وفهموا خلال عناقنا ما قد عزمنا عليه، فاعترض بعضهم وحاولوا ثني عبد القادر الصالح عن الذهاب، لكنه أصر، واستأذن قائده، قائد لواء التوحيد فإذن له، وأوعز الصالح إلى أحد القياديين في لواء التوحيد “أبو نصرو” وكان يحبه ويثق به، لتجهيز المقاتلين والعتاد.
وكأنّه الوداع الأخير..
في صباح اليوم التالي، كانت مدرسة المشاة قرب حلب على موعد مع يوم استثنائي. المقاتلون والعتاد في جاهزية تامة، وخطب فيهم عبد القادر الصالح خطابا حماسيا، استنهض فيه مشاعر النخوة والأنفة والحمية الوطنية، لفك الحصار عن أهلنا في القصير.
قبل ذلك كان قد أمال عبد القادر الصالح رأسه إليّ وسألني: “ماذا نسمي العملية”، “في سبيل الله نمضي” أجبته دون تردد، كان ثمة كلام لا هو قاله ولا أنا أفصحت عنه، لكن كلانا كان في قلبه غصة واحدة، كنا على يقين أننا قد لا نعود أحياء، كنا نودّع حلب وداعا أخيراً، بمن فيها من الأحبة والأهل.
ومضينا والموت فوقنا غيمة غير مفارقة..
الثورة السورية من رحمها جميعنا وُلدنا من جديد، لكن ربما لن أبالغ إن قلت إن معركة القصير كانت مفترق طرق في حياتي، هي التجربة الأغنى والأقسى، وجمّلتها رفقة أبو محمود، وهو خير رفيق في السفر، فما بالك في سفر قد لا تكون منه عودة، كان كعادته طيباً مرحاً خفيف الروح، لم ينل وعثاء السفر وخطورته منها شيئا.
الطريق باتجاه الجنوب، في البادية السورية، واسعا طويلا مكشوفا، لذلك مسيرنا لم يكن إلا ليلا، والعربات تسير بلا أنوار، تتدافع العربات وكأنها خيول تصهل في الصحراء، يثرن بها نقعا، وخشية أن تستدل قوات النظام بُسحب الغبار كنا نتوقف بين الفينة والأخرى حتى تنقشع.
في النهار، نستريح بين الأشجار أو في قاع واد ما، وفي فترات الاستراحة كان يزورني عبد القادر الصالح في خيمتي، يأكل لقيمات قليلة من الزبيب والبسكويت تُقمن صلبه، فقد كان قليل الأكل سريع الشبع.
مدينة القريتين، كانت إحدى محطاتنا، استقبلنا أهلها الطيبون بحفاوة وكرم، وكنا نعمل على تجميع المقاتلين لاستكمال المسير، وافترشنا أبو محمود وأنا الطريق، فجاء إلينا أحد المقاتلين، بادره أبو محمود بابتسامته المعهودة، بما فيها من سماحة وتذكِرة مجانية للطمأنينة والراحة، وكأنه تذكرة دخول إلى قلب، يقدمها سلفا لمحدثيه، قال الصالح للمقاتل: أهلا يا حسن، اجلس معنا، وقل ما عندك”، وبكل عفوية استرسل المقاتل قائلا: ” سامحوني فقد أسأت بكما الظن، في كل لحظة كنت أقول متى يتخلف عنّا القادة، ويتركوننا نذهب وحدنا إلى الموت، لكن الآن وقد رأيت منكما ما رأيت من خوفكما علينا ورفقتكم لنا، فأود لو تسامحونني”. وضع أبو محمود يده على كتف المقاتل وضمه إليه قائلا: “أنت سامحنا، أنتم أمانة في أعناقنا يا حسن، والأمانة ثقيلة، جد ثقيلة”.
حديث المُعجزة في القصير
كانت مدينة القصير في ذلك الوقت مُحاصرة من جانب قوات النظام وميليشيا حزب الله اللبناني الذي وجد هناك بكثافة، ولذلك فإن إحداث ثغرة عبر الأوتوستراد، وسط هذا الحصار، وعبوره، والألغام تحتنا، والقصف فوقنا، فقد كان عبوراً إلى وجهة واحدة، إما القصير أو إلى الموت، إلا أن المعجزة حدثت، ودخلنا مدينة القصير فجراً.
وفور دخولنا قمنا بتفقد جبهات القتال عند خطوط التماس، وعسكريا كان الوضع بالغ السوء، ومعنويات القادة منهارة، عكس المقاتلين ومن بقي من أهالي المدينة.
مقومات الصمود شبه معدومة، لا طعام ولا خبز ولا دواء، ولا وقود لتحريك الآليات، واقع أقل ما يمكن وصفه بالمأساوي إنسانيا وعسكريا، وهو ما دفع قادة التشكيلات المقاتلة في المدينة إلى الحديث عن الانسحاب.
كانت عينا عبد القادر الصالح مرآة لقلبه، وفيهما من الحزن والأسى ما فيهما، رمقني بنظرة وكأن قلبه من خلالهما يحترق، قال: “ماذا نفعل عمي أبو محمد؟”. لن أنسى سؤاله وقد تغيرت ملامح وجهه وغسل الهم ابتسامته المعهودة التي ما فارقته طيلة الطريق، كان عبد القادر الصالح إنساناً آخر، ساء الرجل ما رأى.
قلت له: “نستريح من عناء السفر والصباح رباح”، لكنه أبى وقال لا راحة لنا قبل أن نجتمع مع القادة، ونشكل غرفة عمليات ونعمل على خطط الدفاع عن المدينة.
في نحو عشرة أيام قضيناها في المدينة، لم ينفك عبد القادر الصالح يتنقل على دراجة نارية، دون مرافقة، يتفقد جبهة هنا، ويتقدم اشتباكا هناك، غير آبه بسلامته الشخصية، رغم تهديدات وردت تحديدا من قادة ميدانيين في حزب الله أن “الصالح والعكيدي لن يخرجا حييْن من المدينة”.
العبور من موت إلى موت
في منتصف الليل، فوجئنا بقرار قادة فصائل المدينة الانسحاب، نزل القرار علينا نزول الصاعقة.
حاول عبد القادر الصالح وأنا إقناع القادة بالعدول عن القرار، ويدعمنا في ذلك بعض أهالي المدينة، وأذكر منهم الدكتور فايز مطر، وكان حينها مصابا إصابة بليغة يرقد فوق نقالة، لكن قد سبق سيف قرار القادة كل عذل وبذل.
لم نشعر أننا نخرج، بل ننسلخ عن مكان ما شعرنا أننا اكتفينا منه واكتفى منّا، لم يكن الخروج من المدينة هيّنا، كان أكثر خطورة من دخول المدينة، بل ومن يوميات الحصار والمعارك فيها.
ليلا خرجنا من المدينة نحمل فقط أسلحتنا الخفيفة، جاء إلينا قائد المجلس العسكري في القصير المقدم أبو عرب، رحمه الله، حاول إقناع عبد القادر الصالح وأنا بإخراجنا من طريق آخر أكثر أماناً لكنه لا يتسع إلا لعدد قليل. انتفضنا دون تنسيق بذات العفوية التي عانقنا فيه بعضنا البعض حين قررنا القدوم، وقال له الصالح: “أرواحنا ليست أغلى من أرواح مقاتلينا، وأهالي القصير، نمضي معا في طريق واحد، إما أن نعيش معا، أو نموت معا”.
حاولت حينها تهدئة أبو محمود، لكن مَن يواسي مَن، فقد كانت دموعي تنهمر قهراً. لكن ربما ثمة عزاء في محاولتنا حماية النساء والأطفال والشيوخ وعدد كبير من الجرحى حملناهم على الأكتاف.
ثلاثة أيام مشينا، في دروب وعرة خطرة، دون ماء أو طعام، عيون الجميع كانت تقول شيئا واحدا، في توافق جماعي لا يشوبه شك، أننا جميعاً ماضون إلى موتنا.
شاء الله، ونجونا، بعد أن دفنا في الطريق أحبة ورفاقا، عدت مع عبد القادر الصالح، رفيق ذاك الدرب، عدت إلى حلب، ووضعت في رفوف القلب ذكرى ذاك الانكسار، المعجون بانتصار الإرادة، وضعت تلك الذكرى إلى جانب انتصار يحتفي به القلب، حين تحررت حلب، وهذا سيكون حديثنا في مقال قادم، ويعقبه مقال هو ثالث محطاتنا وآخرها، في سيرة الشهيد عبد القادر الصالح، سيرة تتواشج مع سيرة الثورة والوطن، وأنا في كل ذلك أشهد أن القلب يكتب، شهادة مدادها الدمع والأمل.