عشر سنوات مرّت على اندلاع الحراك الشعبي في سورية، (في آذار/ مارس 2011) الذي امتد ليشمل المحافظات السورية كافة، من جنوب البلاد إلى وسطها وشمالها، وليس انتهاءً بشرقها.
انطلقت شرارة الثورة السورية من محافظة درعا (جنوب سورية)، على إثر قيام أجهزة أمن النظام، بضوء أخضر من عاطف نجيب (ابن خالة رأس النظام السوري بشار الأسد)، باعتقال 15 طفلًا، وزجهم في مراكز الاحتجاز، وتعذيبهم بشكل منهجي، والسبب إقدامهم، في 26 شباط/ فبراير 2011، على كتابة شعارات تطالب بالحرية وإسقاط نظام الأسد، على جدران عدد من المدارس، ورفضَ النظام إطلاق سراحهم، على الرغم من كل الأصوات التي تعالت مطالبة بذلك، لتكون بداية حراك امتد لهيبه إلى مختلف أرجاء الأرض السورية.
وعلى الرغم من أن التظاهرات انطلقت بشكل سلمي، مطالبة بالإصلاحات والتخفيف من هيمنة القبضة الأمنية لأفرع النظام وأجهزته المخابراتية وحتى العسكرية، إضافة إلى إصلاحات خدمية واقتصادية وأخرى في الإطار ذاته، فإن نظام الأسد قابل الحراك السلمي بزيادة القبضة الأمنية، وبالعنف المنهجي الذي راح ضحيته مئات الآلاف من السوريين، بين شهيد ومعتقل ونازح ومهجر ولاجئ.
وفي ما يأتي أبرز الأحداث التي مرّت، وأبرز الانتهاكات التي مارسها نظام الأسد، خلال 10 سنوات من عمر الثورة السورية:
التظاهرات وقمعها في بداية الحراك الشعبي
عقب أحداث درعا، وجّه ناشطون على منصات التواصل الاجتماعي (فيسبوك) دعواتٍ للتظاهر تحت اسم “يوم الغضب السوري”، في 15 آذار/ مارس 2011، نصرةً لدرعا وأطفالها. خرجت أولى التظاهرات (بأعداد قليلة) في قلب العاصمة السورية دمشق، وتحديدًا من الجامع الأموي في الحميدية، وقد احتواها على الفور عناصرُ أمن النظام والموالون له. وفي اليوم التالي، كانت هناك تظاهرة أخرى خرجت في ساحة المرجة، مقابل مبنى وزارة الداخلية، وشهدت مواجهات بين المتظاهرين وقوات أمن النظام.
في يوم الجمعة 18 آذار/ مارس 2011، خرجت أول تظاهرة من مسجد العمري في مدينة درعا، فقابلتها قوات أمن النظام بإطلاق الرصاص الحيّ، ما أسفر عن سقوط 4 شهداء، وخرجت بعدها تظاهرات في مدن وبلدات عدة في محافظة درعا، إضافة إلى مناطق محدودة في ريف دمشق، وفي مدن حمص، حماة، بانياس الساحلية، وتمت مواجهتها بالعنف والاعتقالات وإطلاق النار على المتظاهرين.
ومع ازدياد القبضة الأمنية والعنف المنهجي الممارس من نظام الأسد وأجهزته الأمنية؛ اتسعت رقعة الحراك الشعبي وازدادت وتيرته يومًا بعد يوم، وازدادت أعداد الشهداء والمعتقلين والانتهاكات الممارسة من قوات النظام. وكان ما جرى في مدينة حمص بتاريخ 18 نيسان/ أبريل 2011، حدثًا مفصليًا بتاريخ الثورة السورية؛ إذ شهدت المدينة في ذلك اليوم وقوع مجزرة كبيرة، أطلق عليها اسم “مجزرة الساعة“، في حين لم يكن هناك أعداد واضحة أو موثقة للضحايا آنذاك. وتزامن ذلك مع فرض الحصار على مدينة درعا، في 25 نيسان/ أبريل 2011، ومدن أخرى ثارت بوجه النظام وطالبت بإسقاطه.
وفي 9 أيار/ مايو 2011، فرضت قوات النظام حصارًا خانقًا على مدينة حمص، بهدف إخماد التظاهرات الضخمة التي بدأت تخرج مطالبة برحيل النظام. في حين كانت مناطق بريف حمص الشمالي والغربي تتعرض لعمليات عسكرية من قوات النظام التي حاصرت مدينة (تلكلخ) في الريف الغربي، ومدينتي تلبيسة والرستن في ريف حمص الشمالي.
ولم يكن يوم 3 حزيران/ يونيو 2011، يومًا عاديًا بالنسبة إلى مدينة حماة، التي شهدت حراكًا شعبيًا رد عليه نظام الأسد بارتكاب مجزرةٍ راح ضحيتها عدد كبير من المدنيين الذين نفّذوا اعتصامًا كبيرًا في ساحة العاصي وسط المدينة. وفي 4 حزيران/ يونيو 2011، بدأت قوات النظام بالتوجه صوب إدلب، لإخماد الحراك فيها، وفرضت حصارًا خانقًا على مدينة جسر الشغور بريف إدلب. وفي 10 حزيران/ يونيو 2011، بدأ نظام الأسد يروّج لرواية ما أسماها “العصابات المسلحة”، مدعيًا أنها قتلت 120 عنصرًا للنظام، عُثر عليهم في مقبرة جماعية في جسر الشغور. واستمرت التظاهرات في مختلف أرجاء سورية، وقابلها استمرار القبضة الأمنية والاعتقالات والملاحقات، الأمر الذي دفع المعارضة إلى تشكيل جسم سياسي يعبّر عن تطلعات الحراك الشعبي لإيصال صوات المتظاهرين للمجتمع الدولي والعالم أجمع.
“لواء الضباط الأحرار” والجيش السوري الحرّ لحماية المتظاهرين
دفعت الحملات العسكرية المنهجية التي بدأت ينفذها النظام ضد المناطق الثائرة، وخاصة عملية الاجتياح العسكرية لمدينة جسر الشغور بريف إدلب، وارتكاب مجزرة بحق المدنيين هناك، في 4 حزيران/ يونيو 2011، دفعت الضباط الرافضين عمليات قتل المدنيين، بدلًا من حمايتهم، إلى الانشقاق عن “جيش النظام”.
وكان المقدم في الفرقة 11 مشاة حسين هرموش أوّل ضابط يعلن انشقاقه عن نظام الأسد، وأعلن تأسيس أوّل جسم عسكري معارض تحت اسم “لواء الضباط الأحرار“، في تموز/ يوليو 2011، وكان اللواء نواة للجيش السوري الحر الذي أعلن تشكيله لاحقًا.
وفي 29 آب/ أغسطس 2011، ردّ النظام على الصفعة التي تلقاها بانشقاق أول ضابط سوري عن صفوفه، بتنفيذ عملية مثيرة للجدل ومثيرة لكثير من التساؤلات، وكان عنوانها العريض “اختطاف المقدم حسين هرموش”، من مكان إقامته على الحدود السورية التركية (من الجانب التركي)، وإلى الآن 2021، ما يزال مصير الهرموش مجهولًا.
في 29 تموز/ يوليو 2011، أُعلن تأسيس “الجيش السوري الحر” بقيادة العقيد المنشق رياض الأسعد، عقب انشقاق عدد من الضباط عن صفوف قوات النظام، وكان الملازم “عبد الرزاق طلاس”، والمقدم “حسين هرموش” من أوائل المنشقين عن جيش النظام. وكان الهدف من تشكيل فصيل معارض مسلح، هو حماية التظاهرات التي كانت تخرج في أكثر من نقطة في المحافظات السورية، في وجه قوات النظام وأجهزة مخابراته وميليشياته المساندة.
ومع تزايد أعداد الضباط المنشقين، أصبح “الجيش السوري الحر” لاعبًا مؤثرًا في عمر الثورة السورية، خاصة بعد أن ارتفع عدد الملتحقين بصفوفه، وغالبيتهم من منشقي الجيش النظامي الذين رفضوا تنفيذ أوامر بإطلاق النار على المتظاهرين السلميين. وتمكّن “الجيش السوري الحر” من التقدم عسكريًا، وطردَ قوات النظام من عدد من المناطق وبسط سيطرته عليها، ونفّذ العديد من العمليات العسكرية التي تسببت في تهاوي النظام الذي استنجد بالميليشيات الإيرانية والقوات الروسية، لمساندته في استعادة الأراضي التي خسرها أمام ضربات المعارضة العسكرية.
وكانت النقطة المفصلية في عمر الثورة السورية، عسكريًا، هي إعلان المعارضة السورية، في 30 كانون الأول/ ديسمبر 2017، تشكيل “الجيش الوطني السوري“، الذي دمج جميع الفصائل العسكرية تحت مظلة واحدة، في خطوة هي الأولى من نوعها منذ اندلاع الثورة السورية في 2011.
الحراك السياسي
كانت بدايات الحراك السوري سياسيًا من بوابة “مؤتمر الإنقاذ الوطني السوري“، الذي عُقد في مدينة إسطنبول، بتاريخ 16 تموز/ يوليو 2011. وحضر المؤتمر غالبية المعارضين السوريين المعروفين، وكان من بينهم برهان غليون، وهيثم المالح، بالإضافة إلى شباب الثورة السورية من ممثلي التنسيقيات وممثلين عن التكتلات الشبابية.
وفي 2 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، أُعلن تشكيل “المجلس الوطني السوري“، إذ ترأس برهان غليون المجلس الوطني، وأعيد انتخابه ثلاث دورات، ثم استقال بعد ذلك لينتخب عبد الباسط سيدا رئيسًا للمجلس في 9 حزيران/ يونيو 2012، وفي 9 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، انتخبت الأمانة العامة للمجلس جورج صبرا رئيسًا للمجلس، خلفًا لعبد الباسط سيدا.
وفي11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، تم الاتفاق على توحيد صفوف المعارضة السورية، تحت لواء كيان جديد هو “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية“. وأكد الائتلاف أنه “يهدف إلى دعم القيادة المشتركة للمجالس العسكرية الثورية والجيش الحر، وإنشاء صندوق دعم الشعب السوري بتنسيق دولي، وإنشاء اللجنة الوطنية السورية”.
ومن التطورات التي شهدها الحراك السياسي، قيام بعض الدول ومنها: السعودية والكويت والبحرين، بسحب سفرائها من دمشق، في 8 آب/ أغسطس 2011، تلا ذلك إعراب “جامعة الدول العربية” عن قلقها إزاء التطورات في سورية، داعية النظام إلى وقف العنف.
وفي 18 آب/ أغسطس، أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، وفرنسا، وبريطانيا، وألمانيا، والاتحاد الأوروبي، وكندا، أن رأس النظام “بشار الأسد” فقد شرعيَّته بالكامل، وأن عليه التنحِّي فوريًا عن الحكم.
وكان أول تحرّك لمجلس الأمن الدولي في 4 تشرين الأول/ أكتوبر، حين قدمت بريطانيا وفرنسا وألمانيا والبرتغال مشروع قرارٍ يدين النظام السوري، ويطالبه باحترام حقوق الإنسان والبدء بإصلاحات سياسية، لكن روسيا والصين استخدمتا حق النقض “الفيتو” ضد المشروع.
وفي 26 تشرين الأول/ أكتوبر، دعا “المجلس الوطني السوري” إلى إضراب شامل في عموم سورية، تضامنًا مع درعا، وكانت حماة وحمص أول من استجاب لهذا النداء الذي لاقى صدًى واسعًا في عموم أرجاء سورية. ووُصف شهر تشرين الأول/ أكتوبر، بأنه “شهر تصفية المعارضين السياسيين”، والبداية كانت من اغتيال الناشط الكردي مشعل تمو في 7 من الشهر ذاته، إضافة إلى تصفية كبار قادة المعارضة، وعدد من النشطاء الثوريين على الأرض.
التذرع بالإرهاب لتبرير الإفراط في استخدام العنف في مواجهة الحراك السلمي
مع استمرار الحراك الشعبي في عموم المحافظات من دون توقف، بالرغم من القبضة الأمنية وحملة الاعتقالات وسقوط الضحايا، بدأ النظام يروج لرواية “العصابات الإرهابية المسلحة” مدعيًا أنها تستهدف المدنيين وقواته الأمنية والعسكرية في الوقت نفسه. وأطلق النظام أيضًا على المتظاهرين الرافضين حكمه لقب “المندسين”، مدعيًا أن هؤلاء “المندسين”، يتبعون لـ “السلفية لجهادية”، وأنه يجب القضاء عليهم، متهمًا أيضًا بعض الدول بتمويلها.
ولم يقتصر الأمر على ذلك وحسب، بل اتهم النظام المعارضين حكمه أو من وصفهم بـ “العصابات الإرهابية” بقتل الآلاف من جنوده وعناصر أفرعه الأمنية. ووصفها أيضًا بأنها “جماعات إرهابية مسلحة ذات دوافع تكفيرية إسلامية متطرفة”. وعمل النظام -عبر ماكيناته العسكرية والأمنية- على شن حملة اعتقالات كان نتيجتها اعتقال عشرات الآلاف من المدنيين. وركزت الاعتقالات على مجموعتين: الناشطين السياسيين، والرجال والفتيان، في عدد من المدن والقرى والبلدات المناهضة للنظام. وقد أكد كثير من الناشطين الحقوقيين تعرض كثير من المعتقلين لأبشع أنواع الانتهاكات، في مراكز الاحتجاز التابعة للنظام السوري، واستخدام أساليب تعذيب منهجية بحق المعتقلين.
أبرز انتهاكات نظام الأسد خلال 10 سنوات من الثورة
التهجير
مرّت الثورة السورية بكثير من المراحل التي كان عنوانها الأبرز استدعاء النظام لكل الميليشيات والقوات التابعة للقوى المساندة له (أبرزها إيران وروسيا) للوقوف بوجه المناهضين له والمطالبين برحيله، يضاف إلى ذلك خلط الأوراق، سياسيًا وعسكريًا، ما انعكس بشكل سلبي على فصائل المعارضة السورية، وعلى المدنيين أيضًا، يضاف إلى تلك التفاصيل أيضًا ظهور تنظيم “داعش”، وسيطرته على أكثر من منطقة شرقي سورية وفي أماكن أخرى من أرياف حماة وحمص وحلب، وزاد الدعم الروسي والإيراني لنظام الأسد الذي بات يتبع سياسة الأرض المحروقة، وأجبر ذلك المعارضة السورية المسلحة على عقد اتفاقات، للخروج من المناطق الخاضعة لسيطرتها وإخراج المدنيين الذين حاصرهم النظام ومنع عنهم الغذاء والدواء.
وكانت أول عملية تهجير في عام 2014، وتحديدًا من حمص القديمة باتجاه الشمال السوري، بعد حصار خانق وعمليات عسكرية دمرت الأحياء الثائرة، ومن أهمها باب السباع، وباب الدريب، وكثير من الأحياء الأخرى في المدينة، إذ تم نقل المقاتلين مع أسرهم بحافلات إلى ريف حمص الشمالي.
وفي العام 2016، شهدت مدينة حلب (شمالي سورية) عملية تهجير نحو الريف الحلبي أيضًا، وُصفت بأنها الأكبر، بعد شن النظام وداعميه عملية عسكرية استمرت نحو عام كامل، وأسفرت عن سقوط ضحايا بين المدنيين، وقدرت أعداد المهجرين وقتها بنحو 45 ألف شخص.
وفي العام ذاته، تم تهجير أهالي مدينة “داريّا” بريف دمشق باتجاه الشمال السوري، وتم إفراغ المدينة بشكل كامل، وبحسب الأنباء الواردة من المدينة فقد بسطت الميليشيات الإيرانية السيطرة عليها، بضوء أخضر من نظام الأسد، ولم يسمح إلا بعودة القليل من الأسر وبشروط أمنية، في ظل غياب مقومات الحياة المعيشية والاقتصادية.
وفي 2016 أيضًا، عمل النظام على تهجير أهالي بلدتي قدسيّا والهامة إلى منطقة إدلب (شمالي سورية)، بعد حصار خانق عاشه المدنيون. وانضمت أيضًا بلدة معضمية الشام، إلى قائمة المدن المهجرة نحو الشمال، إضافة إلى بلدتي خان الشيح والتلّ بريف دمشق.
وفي 2017، تم تهجير سكان بلدة (وادي) بريف الزبداني بريف دمشق، بعد حصار استمر 40 يومًا، وكانت الوجهة صوب إدلب. كما شهدت أحياء دمشق الشرقية “برزة، تشرين، القابون”، عمليات تهجير.
وفي 13 آذار/ مارس 2017، تم تهجير أهالي حي الوعر، أحد أحياء مدينة حمص، باتجاه الشمال السوري، واستقر نسبة كبيرة منهم في مخيم “زوغرة” للنازحين، ومن ثم توزعوا في عدد من مناطق الشمال السوري.
وكانت أبرز عمليات التهجير والتي تصدرت المشهد، في 11 نيسان/أبريل 2017، ما عُرف باسم “اتفاق تهجير المدن الأربع“، بعد اتفاق بين “هيئة تحرير الشام، وأحرار الشام”، وبين ممثلين عن إيران ونظام الأسد، وقد نصّ على تفريغ بلدة مضايا ومدينة الزبداني في ريف دمشق، إضافة إلى “مخيم اليرموك” جنوبي دمشق، من المقاتلين التابعين للمعارضة السورية ومن الأهالي الراغبين في الخروج، مقابل تفريغ بلدتي كفريّا والفوعة المواليتين للنظام بريف إدلب الشمالي.
وفي 2018، تم تهجير أهالي مدن وبلدات القلمون الشرقي بريف دمشق “الضمير، والناصرية، والرحيبة، والقطيفة”، باتجاه الشمال السوري. وفي 19 حزيران/ يونيو 2018، استهدفت حملة التهجير محافظة درعا “مهد الثورة السورية”، ومحافظة القنيطرة، بعد ضغوط كبيرة وحملة عسكرية شرسة من نظام الأسد وميليشيات إيران والقوات الروسية، وكانت أول دفعة مهجرين خرجت نحو الشمال السوري في 15 تموز/ يوليو 2018.
“ويندرج التهجير القسري ضمن جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، وفق القانون الدولي والقانون الإنساني، إضافة إلى أن اتفاقيات جنيف الأربع المؤرخة في آب/ أغسطس 1949، والبروتوكولين الملحقين بها لعام 1997، تعرّفان جرائم الحرب بأنها الانتهاكات الجسيمة للقواعد الموضوعة، إذا تعلق الأمر بالتهجير القسري، فالمادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 حظرت النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص، أو نفيهم من مناطق سكنهم إلى أراضٍ أخرى”.
التغيير الديموغرافي
منذ الأيام الأولى لعمليات التهجير القسري، أطلقت “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، تحذيرًا من مخاطر عملية التغيير الديموغرافي، التي ينفذها نظام الأسد في مختلف المحافظات السورية، وأكدت أن الأمر يشكل تهديدًا لسلامة كامل البلاد. وطالبت الشبكة الحقوقية في تقاريرها، مجلس الأمن، بالضغط على نظام الأسد، لإيقاف عمليات الاستيطان والإحلال التي يقوم بها في المناطق التي يهجر سكانها منها، وضمان حق العودة للاجئين والنازحين، والحصول على أراضيهم وممتلكاتهم.
وبدأ نظام الأسد في عام 2016 العمل على ترسيخ سياسته المنهجية الرامية إلى التغيير الديموغرافي، من خلال الترويج لفكرة “سورية المفيدة”، ومن خلال هذا المصطلح، بحسب مصادر حقوقية عديدة ومتطابقة، يسعى لتحقيق أهدافه الاستراتيجية وإقامة “سورية المفيدة” التي تعدّ “منطقة من سورية ذات أهمية جغرافية وديموغرافية لاستمراره في الحكم، يقطن فيها أناس موالون للنظام”. ومن أجل هذا الهدف، أعطى النظام الضوء الأخضر لمواليه وقواته والميليشيات المساندة له لارتكاب الانتهاكات بحق المدنيين وتهجيرهم من مدنهم وبلداتهم التي كانوا يقطنون فيها.
وسارع نظام الأسد عبر ميليشياته، بعد عمليات التهجير القسري مباشرة، إلى تطبيق سياسة التغيير الديموغرافي في المناطق التي شهدت تلك العمليات، وكانت البداية من الأحياء الثائرة في مدينة حمص: “باب السباع، باب الدريب، كرم الزيتون” وغيرها، إضافة إلى مدينة القصير بريف حمص الغربي، وامتدادًا إلى مناطق في جنوب العاصمة دمشق وفي ريفها، وصولًا إلى مناطق في حماة وريفها، إذ قام بإحلال سكان آخرين ( علويين، ميليشيات شيعية، شيعة سوريين ومتشيعين جدد)، محلّ السكان الأصليين، معتمدًا في ذلك على أدوات أسهمت في تعزيز هذه السياسة، ومن أبرزها: نقل الملكية للوافدين الجدد والسماح لهم بالاستيلاء على منازل المهجرين والنازحين، وإعطاء الضوء الأخضر لهم بشراء العقارات السكنية والأراضي الزراعية.
واتبع نظام الأسد العديد من الوسائل التي مكّنته من ترسيخ سياسة التغيير الديموغرافي المنهجية، ومنها: التهجير القسري، حملات الدهم والاعتقالات الجماعية التي ما تزال مستمرة منذ اندلاع الثورة 2011، حتى بعد مضي 10 سنوات من عمرها، فرض حصار منهجي بقصد تجويع المناطق الثائرة وإجبارها على الركوع، التدمير المنهجي لأحياء ثائرة بأكملها، هدم الأبنية والمنازل السكنية بحجج واهية (المخالفات) ومصادرة الأراضي الزراعية وعرضها للبيع في المزادات العلنية، علمًا أن ملكيتها تعود لأشخاص مهجرين قسرًا أو مغيبين في مراكز الاحتجاز، حرق مراكز السجلات العقارية والمدنية، منح الجنسية للميليشيات الطائفية، فرض قوانين وتعديل أخرى تتيح شرعنة الاستيلاء على أملاك النازحين والمهجرين واللاجئين والمعتقلين، وأيضًا من أجل توطين الميليشيات الطائفية.
وذكرت مصادر حقوقية متطابقة أن أعداد السكان الذين تم توطينهم مكان السكان الأصليين في “سورية المفيدة” في ازدياد، في حين أن هناك تناقص ملحوظ في أعداد سكان المناطق التي ثارت بوجه النظام وطالبت بإسقاطه في سورية. ومن أهمّ التشريعات والقوانين والتعاميم التي تتيح لنظام الأسد استهداف ملكيات السوريين:
- – قانون الإرهاب لعام 2012، والمرسوم 66 لعام 2018 القاضي بإحداث منطقتين تنظيميتين في المزة.
- – القانون رقم 10 الذي استند إليه وعمل على تعديله وافتتح المناطق التنظيمية في عموم سورية، بطلب من وزير العدل.
- – القانون 35 لعام 2017 الذي نصّ على إلقاء الحجز الاحتياطي على الممتنعين عن دفع البدل، وجرى تعديله في العام 2019، من حجز احتياطي إلى حجز تنفيذي.
- – القانون 1 لعام 2018 القاضي بإنشاء حَرم لنبع الفيجة الذي حرم كثيرًا من الأهالي من ممتلكاتهم.
- – القانون 3 لعام 2018 القاضي بإزالة الأبنية المتضررة.
- – القانون رقم 42 لعام 2018، القاضي بجعل مدة التصريح على الحقوق، من شهر إلى سنة، وهو تعديل للقانون 10 لعام 2018.
وأكدت مصادر حقوقية أن القانون رقم 10 لعام 2018 هو من أخطر تلك القوانين، وخطورته تأتي من خلال التعديلات التي طرأت عليه، وأثرها على النازحين والمهجرين واللاجئين، إذ إن “التعديل الذي طرأ على القانون يتعلق بالمدة المخصصة لتثبيت الملكية، وقد تم تعديلها من 30 يومًا إلى سنة واحدة، بعد الاعتراض عليها، ولكن خطورة هذا القانون ليست في المدة فقط، بل في أنه يُطبّق في هذه الظروف، وغالبية اللاجئين هم من الملاحقين أمنيًا، لذلك فإن هذا القانون هو وسيلة لسلب ممتلكات الناس.
وفي عام 2021، أقرّ برلمان النظام أو ما يسمى “مجلس الشعب”، تعديلات خاصة بقانون تملك الأجانب رقم 11 لعام 2011، تتعلق برفع القيود التي كانت تمنع تملك الأجانب لأكثر من شقة سكنية للعائلة الواحدة، ومنع المالك الأجنبي من التصرف بالعقار قبل مرور سنتين على اكتساب الملكية. وأوضحت “هيئة القانونيين السوريين”، في بيان صادر عنها حول هذه التعديلات، أن:
- – مواد مشروع القانون تضمنت جواز إنشاء أو تعديل أو نقل أي حق عيني عقاري في الأراضي السورية، لاسم أو منفعة شخص غير سوري، وتملّك البعثات الدبلوماسية والقنصلية والمنظمات العربية والإقليمية والدولية والمراكز الثقافية لمقرات لها أو لسكن رؤسائها أو أعضائها.
- – هذه الإجراءات والتعديلات التي تسمح بتملك الأجانب ورفع القيود السابقة جاءت في ظل الحرب المدمرة التي يشنها النظام السوري وميليشياته ضد السوريين، وغياب البيئة الآمنة، وسيطرة القوات الإيرانية على مؤسسات الدولة وعلى مساحات واسعة من سورية.
- – التعديلات الجديدة اشترطت الإقامة المشروعة في سورية لتملك الشقة السكنية وفق التعديلات، محذرة من أن مئات الآلاف من الإيرانيين والشيعة من العراق ولبنان وأفغانستان قدموا إلى سورية وهجّروا السوريين، وهؤلاء هم من سيتملك الشقق السكنية لإتمام عملية التغيير الديموغرافي في سورية.
- – التعديلات جاءت فقط من أجل مئات آلاف الإيرانيين والشيعة، ولم تأتِ من أجل مواطنين من الاتحاد الأوروبي أو أميركا أو الخليج، كونهم غير موجودين أصلًا في سورية، وأن هذه الإجراءات لن تخدم إلا الميليشيات الإيرانية والروس أيضًا.
الإخفاء القسري للمعتقلين والقتل تحت التعذيب
وصل عدد السوريين المختفين قسريًا، في سجون النظام السوري، إلى نحو 100 ألف شخص، وذلك منذ 2011 حتى آواخر العام 2020. وكانت أول 3 سنوات من عمر الثورة السورية هي المرحلة التي شهدت أكبر حملات اعتقالات، ليتحول فيما بعد المعتقلون إلى ضحايا مغيبين قسريًا. وقد عمد نظام الأسد إلى استخدام الإخفاء القسري، سلاح قمع وإرهاب في وجه المدنيين الأبرياء، بهدف تحطيم الحراك الشعبي الذي انتفض بقوة في وجهه.
يضاف إلى ذلك أن “ما لا يقل عن 20842 شخصًا، بينهم 13 طفلًا و27 سيدة، لا يزالون قيد الاعتقال أو الاختفاء القسري لدى قوات النظام السوري، على خلفية صلات القربى التي تربطهم بمساهمين في الحراك الشعبي ضد النظام السوري، منذ آذار/ مارس 2011 حتى 21 كانون الأول/ ديسمبر 2020. ويشكلون قرابة 15 % من حصيلة المعتقلين أو المختفين قسريًا لدى قوات النظام السوري”، حسب “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”.
وأشارت الشبكة الحقوقية إلى أن “ما لا يقل عن 13 شخصًا قد توفوا بسبب التعذيب وإهمال الرعاية الصحية، في مراكز الاحتجاز التابعة لقوات النظام السوري، خلال الفترة ذاتها، ممن تمَّ اعتقالهم على خلفية وجود صلات قربى تربطهم مع ناشطين في الحراك الشعبي أو معارضين للنظام السوري. لم تسلّم جثامين الضحايا لذويهم، ووفقًا لذلك فإنهم يبقون في عداد المختفين قسريًا”. “ومنذ آذار/ مارس2011 حتى حزيران/ يونيو 2020، قتل ما لا يقل عن 14388 شخصًا بسبب التعذيب، على يد أطراف النزاع الرئيسة الفاعلة في سورية، من بينهم 177 طفلًا و63 سيدة (أثنى بالغة)، كان نظام الأسد مسؤولًا عن مقتل 14235، بينهم 173 طفلًا و46 سيدة”. ومطلع آذار/ مارس 2021، أكد محققون بشأن الجرائم في سورية، ويتبعون للأمم المتحدة، أن “مصير عشرات الآلاف ممن تم اعتقالهم تعسفًا أو أُخفوا قسرًا، من جانب حكومة بشار الأسد والتنظيمات المعارضة، لا يزال مجهولًا”.
وجاء في تقرير صادر عن محققي الأمم المتحدة، أُعدّ بتكليف من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واستند إلى 2500 مقابلة أجريت على مدى 10 سنوات، وتحقيقات أجريت في نحو 100 مركز احتجاز، وشملت جميع الأطراف التي تسيطر على الأراضي في سورية منذ 2011: “تعرض بعض المعتقلين للتعذيب أو الاغتصاب أو القتل، بما يصل إلى حد ارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية”.
وركّز التقرير على جرائم نظام الأسد ضد شعبه، وأشار إلى عدم معرفة مصير عشرات آلاف المدنيين المختفين قسريًا منذ 10 سنوات. وخَلص التقرير إلى أن كل هذه الانتهاكات لحقوق الإنسان “تمت بمعرفة وبموافقة الحكومات الداعمة لمختلف أطراف النزاع”. ودعا المحققون إلى تأسيس آلية دولية لتحديد أماكن المفقودين أو رفاتهم، ومحاكمة من ارتكبوا هذا الجرائم.
الحصار “الجوع أو الركوع”
كان حصار المناطق الثائرة وتجويعها من الأسلحة التي لجأ إليها نظام الأسد وداعموه، وقد نجح في هذا الأمر بعد أن سخّر كلّ آلات الحصار اللازمة لتجويع المدنيين، لإجبارهم على الرضوخ والاستسلام، الأمر الذي أدى إلى وفاة كثير من سكان المناطق التي تمت محاصرتها. وكانت مدينة حمص، وتحديدًا “حمص القديمة”، من المناطق التي استخدم النظام ضدها سلاح التجويع، بعد أن حاصرت قواته وميليشياته، في العام 2012، الثوار والمدنيين هناك، وأجبرتهم على تناول الحشائش، بعد أن تم منع دخول الدواء والغذاء وأي مواد أساسية أخرى إلى المنطقة.
ومن المناطق التي تم تجويعها أيضًا: الغوطة الشرقية، مضايا، الزبداني، يبرود، معضمية الشام، مناطق جنوب دمشق، دير الزور، حي الوعر الحمصي. وقد دانت منظمات أممية وحقوقية عالمية، بشدة، سياسة التجويع المنهجية، ووصفتها بأنها ترقى لمستوى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، كونها تسببت في وفاة المئات بينهم أطفال بسبب الجوع وسوء التغذية.
انتهاكات حقوق الإنسان والاستيلاء على الأملاك
من أبرز انتهاكات حقوق الإنسان التي مارسها نظام الأسد طوال 10 سنوات من عمر الثورة السورية، القتلُ خارج نطاق القانون، الاعتقال التعسفي، التعذيب، الإعدام بإجراءات موجزة، الحصار، التشريد القسري، القصف العشوائي، التدمير الواسع للمباني والمراكز الحيوية. ويضاف إلى ذلك، الاستيلاء على أراضي المعارضين له وممتلكاتهم، كنوع من العقاب الممتد لهم ولعوائلهم، وإعادة توزيعها على الأجهزة الأمنية، والميليشيات المحلية كنوع من المكافأة بدلًا عن الدفع النقدي.
وفي الآونة الأخيرة، بحسب تأكيدات “الشبكة السورية لحقوق الإنسان”، و”هيئة القانونيين السوريين”، بدأت اللجان الأمنية التابعة لنظام الأسد بالإعلان عن مزادات علنية، في كل مناطق ريف محافظة حماة، وريفي محافظة إدلب الجنوبي والشرقي، التي استعاد النظام السوري وحلفاؤه السيطرة عليها، في عامي 2019 و2020. وتم رصد “ما لا يقل عن 22 إعلان لمزادات علنية، شملت قرابة 134 قرية وبلدة في محافظة حماة، و88 قرية وبلدة في محافظة إدلب، وتبلغ مساحة هذه الأراضي ما يقارب 400 ألف دونم، تشمل أراضٍ زراعية متنوعة تنتج محاصيل القمح والشعير والبطاطا والزيتون، وأراضٍ بعلية، إضافة إلى مزارع أسماك”.
“التعفيش”
أعطى نظام الأسد، بعدما تمكّن من تهجير السكان من المدن والأحياء التي ثارت بوجهه بفعل آلة الحرب وسياسة الأرض المحروقة، أعطى الضوء الأخضر لقوات جيشه بممارسة سلاح جديد عُرف باسم “التعفيش”، بات سياسة منهجية تتبعها قوات النظام في المدن التي تجتاحها وتنتهي من تنفيذ عملياتها العسكرية فيها، فيأتي بعد ذلك نهب ممتلكات المدنيين في عمليات سرقة استهدفت ممتلكات المدنيين، على يد تلك المجموعات، وأبرزها ميليشيات “الدفاع الوطني”، التي باتت تعتاش طوال سنوات الثورة على “تعقيش” ممتلكات المدنيين، وكان آخر تلك العمليات، وهي ما تزال مستمرة، عملية نهب مخيم “اليرموك” جنوب دمشق، الذي استهدفته عمليات “تعفيش”، بعد أن تم هدم المنازل في المخيم من أجل أخذ الحديد منها، حتى إن عمال التعفيش سرقوا بواري البلاستيك وخزانات البلاستيك، ووثقت كل تلك العمليات بالصور، كيف أن السيارات تحمل تلك المواد وهي تخرج من المخيم. حتى إن “شاحنات (العفيشة) تخرج من الباب الرئيسي الذي يتمركز عليه عناصر أمن النظام السوري، ما يؤكد أنهم متواطئون معهم، وأن لهم حصة ونصيبًا ونسبة من هذا المواد التي يتم تعفيشها”، بحسب “مجموعة العمل من أجل فلسطينيي سورية”.
خاتمة
بالرغم من مرور 10 سنوات من عمر الثورة السورية، ما تزال الانتهاكات مستمرة، وما تزال القبضة الأمنية مستمرة، خاصة في المناطق التي بسط نظام الأسد سيطرته عليها، من جنوب البلاد في درعا وريفها وصولًا إلى وسط البلاد في حمص وحماة، وانتقالًا إلى الشمال السوري في حلب وما حولها، وليس انتهاء بقبضته الأمنية في العاصمة دمشق. وتتزامن الضغوطات الأمنية، مع أزمات اقتصادية معيشية متردية، ومع الطوابير البشرية على أبواب الأفران ومحطات الوقود، التي باتت تتصدر واجهة الأحداث الحياتية اليومية في العاصمة دمشق ومناطق سيطرة نظام الأسد، يضاف إليها النزيف الحاد لليرة السورية، مقابل العملات الصعبة وخاصة الدولار، بعد أن وصل سعر الدولار الواحد إلى عتبة الـ 4000 ليرة سورية (في مطلع آذار/ مارس 2021)، يضاف إليها انتشار ظاهرة تعاطي وترويج المخدرات، وتحول سورية من بلد عبور إلى بلد إنتاج، على يد الميليشيات الإيرانية والعراقية لتهريبها إلى الأردن ودول الجوار. ووسط كل تلك الأحداث، تواصل إيران تغلغلها في كل مفاصل الحياة الاقتصادية والتجارية والثقافية والتعليمية، إضافة إلى التغلغل العسكري، في حين تعمل روسيا على السيطرة على القرار السياسي منذ تدخلها في عام 2015، إضافة إلى سيطرتها على مفاصل اقتصادية لا تقلّ أهمية عن تلك التي استولت عليها إيران.