عندما دخلنا المنطقة المحرّمة في حلب

نوفمبر 17, 2022

ورد فراتي

مقالات

حول العالم يُعتبر التظاهر حقاً للمواطن لا يفصله عنه إلا النزول إلى الشارع، لكنه في أغلب بلدان وطننا العربي –ومن ضمنها سوريا– أمرٌ بالغ التعقيد عظيم الخطورة..
أما في حلب فقد كان “مهمة مستحيلة”.

بعد ثلاثة أشهر من انطلاقة الثورة السورية في آذار 2011، وفي الوقت الذي كانت فيه مؤسسات نظام آل الأسد الأمنيّة تتهاوى أمام حشود المتظاهرين التي تؤُمّ الساحات الكبرى في المدن والبلدات السورية، كان مسؤولو الملف الأمني في العاصمة الاقتصادية “حلب” يسجّلون نجاحاً ملحوظاً في تعاملهم مع المدينة الكبيرة، فقد تمكنوا بفضل سياسات غضّ الطّرف عن كل أنواع المخالفات الاقتصادية والبلديّة من إشغال شريحةٍ واسعة من أبناء المدينة عن الانضمام للاحتجاجات، فضلاً عن الاستخدام الجيّد للقيادات الدينية والاجتماعية في الوصول إلى الأهالي وتثبيطهم عن اللّحاق بالثورة، إضافة إلى الخطّة الذكية في استثمار أرصفة الشوارع والساحات الرئيسية كأماكن تجارية لكل مهتم بافتتاح “بسطته” دون رشاوَى أو ضرائب مقابل خدماتٍ “تشبيحيّة”، فكان الهتاف الأول لأيّ مظاهرة في أيّ مكان ينتهي بتفرق المتظاهرين قبل تجمعهم تحت ضربات “الشّنتيانات” و “البَواري” التي يخبّئها أصحاب البسطات تحت بضاعتهم انتظاراً لحدث غير مألوف يستحقون فيه مكانهم المجّاني في الشارع.

أحكم النظام قبضته على المدينة مُولِياً عناية خاصّة لأيام الجمعة.. أشدّ أيام الأسبوع على نظام آل الأسد والموعد الرسمي لاحتجاجات ثوار سوريا، دافعاً إيّانا إلى “المظاهرات الطيّارة” في أيام الأسبوع الأخرى كحلّ أقلّ ضرراً، وهي نوع من المظاهرات تبدأ وتنتهي قبل أن يقوم الشبيحة من مجالسهم خلف “بسطاتهم”، وفي بعض الأحيان قبل أن يرتدّ إليهم طَرْفُهم، ورغم صعوبة الترتيب لهذا النوع من المظاهرات في ظلّ نظام احترف القمع لـ 40 عاماً، إلا أنّ وجود بعض الأشخاص الشّغوفين بالتنظيم جعل مَهَمّة كهذه ممكنة.

كانت المشكلة الأولى التي واجهتنا هي القدرة على التجمّع بداية المظاهرة، فعند وجود أي عدد من الشباب في أي سوق أو شارع بصورة أكثر من المعتاد يكون ذلك إيذاناً بمظاهرة قادمة، وهو ما يسمح للشبيحة والمتعاونين معهم بالتحضّر جيداً لوَأدها في مهدها، ليكون الحلّ فيما عرف لاحقاً بمجموعة البداية أو “الإشعال”.

لا أعلم تماماً مَنْ صاحب فكرة “مجموعة البداية” لكنه بلا شكّ قد شاهد الكثير من أفلام السرقات الذكية، ففكرة المجموعة تقضي بتجمّع 30 شاباً على الأقل في الثواني العشرين الأولى من انطلاقة المظاهرة بشكل يَصعُب فيه على الشبيحة المحلّيّين تفريقهم، ممّا يتيح المجال لبقيّة المتظاهرين الالتحاق بها حتى اكتمالها، ولإنجاز ذلك كان يتم تقسيم مجموعة البداية لأربعة فرقٍ تضمّ كلّ منها 7 إلى 8 أشخاص يتبع كل منهم شخصاً يتحرّكون لتحرّكه، الأشخاص الأربعة الأساسيون كانوا يضبطون ساعاتهم بحيث يكونون في النقطة المتفق عليها للانطلاق في الوقت المحدد، وقُبَيل انطلاق المظاهرة يكون كلّ منهم متأكداً من وجود مجموعته حوله إضافة إلى المجموعات الأخرى على مرمى بصره، يعطي الأشخاص الأربعة إشارة تأكيد الجاهزية بحركة يتفقون عليها، ومن ثم يحتشدون جميعاً حول صاحب الصرخة الأولى: “تكبير” هاتفين بعده: “الله أكبر.. الله أكبر”..

يُعتَبر حيّ “الجميلية” في حلب من أشهر المناطق التجارية في المدينة، حيث يضمّ مكاتب السفريّات والعديد من الشركات التجارية الهامة، لكن ذلك ليس السبب الذي دعا النظام للتركيز عليه في خطته الأمنية، ففضلاً عن ضمّ الحيّ لفرع “حزب البعث” يشرف الحي من طرفه الشرقي على ساحة “سعد الله الجابري”، الساحة المركزية في مدينة حلب والمنطقة المُحرّمة بالنسبة لخطة نظام آل الأسد الأمنية فيها، وهو ما جعل التظاهر في الحي – كطريق إلى الساحة – حلم كل تنسيقيات المدينة وثوارها.

كان إنهاء “المظاهرة الطيارة” مشكلة أخرى طالما واجهناها، فحالَ انطلاقها ومسيرها يدفع الحماس عدداً من الثوار إلى الاستمرار فيها – مهما حاول منسقو المظاهرة تفريقها– منتشين بلحظات الحرية القليلة تلك، والتي كانت تنتهي دائماً بهجومٍ للشبّيحة يُسفِر عن اعتقال بعضهم، إلى أن ينهار أحدهم بفضل أساليب التحقيق/التعذيب القذرة دالّاً على آخرين، فنكسِب نقطة تظاهر على خارطة الثورة ونخسر مادّة ثورة حلب وعُدّتها وعديدها من الشّجعان الذين ندّخرهم لبناء سوريا المستقبل (كان ومازال ذلك حلمنا).

لذلك ابتدَع أحد الشباب فكرة هتاف مميز يتم ترديده عدة مرات مع التحوّل من المشي إلى الهرولة لضمان اشتراك الجميع فيه عند إنهاء المظاهرة، وبهذا يُحجِم الآخرون عن العودة إلى التّظاهر بعد أن انفضّ الجَمع، لتكون التجربة الأولى لهذا التّكتيك –الذي بقي مستخدماً في مظاهرات المدينة الطيارة بعد ذلك– في حي الجميلية.

مساء الثالث عشر من حزيران 2011 عند التقاطع القريب

من محل “الأفندي وصباهي” الشهير في حلب، وقفَ أربعة شباب كانوا مسؤولي “مجموعة البداية”..
نظر كل منهم حوله ليتأكد من وجود فريقه قريباً منه.. ثم أعطوا الإشارة لبعضهم معلنين جاهزيتهم..

دَوَّى الصّوت: “تكبيييير..”..
تلته حناجرنا مرددة “الله أكبر.. الله أكبر.. الله أكبر..” حتى احتشد جمعنا وبدأنا المسير من التقاطع غرباً باتجاه سكة القطار..

مظاهرة الجميلية – حلب

كانت خُطَانا تتسارع شيئاً فشيئاً كلّما مضينا في الشارع مع تحوّل الهتاف إلى الكلمة الأجمل على لسان كل أحرار سوريا والأثقل على نظام آل الأسد وشبيحته “حرّية.. حرّية..”، رددنا تلك الكلمة فقط وأعدناها مرة تلو مرة مقلِّبين أبصارنا في أهل المحلات الذين وقفوا يراقبوننا مصدومين..
“المَا بِشارك.. ما فيه ناموس” هو الهتاف الذي اعتدنا ترديده في كل مظاهرة حاثِّين أهالي المنطقة للمشاركة، لكنه في ذلك اليوم لم يكن دعوة.. بل كان تصريحاً.. ورسالة..

حيَّيْنا سريعاً “حماة” ثم ومع اقتراب مشينا السريع من الهرولة هتف أحدنا: “بكرا راجعين.. بكرا راجعين” –وهو هتاف النهاية المُتّفق عليه لتلك المظاهرة – تبعته حناجر الجميع خائفين “بفرح” أو متحمّسين “على مضض” تُرَدّد الهتاف نفسه وقد بدأنا الهرولة إيذاناً بإنهاء المظاهرة..

ركَضتُ شارعين ثم دخلت طريقاً فرعياً ينتهي عند شارع الجميلية الرئيسي متحوّلاً إلى المشي البطيء الواثق الذي كانت تفضحه خفقات قلبي المتسارعة وأثرها على مظهري، قطعتُ فتحة السكة إلى حي “المريديان” الذي كنت أستأجر فيه مع زملاء لي منزلاً آنذاك، ثم وعلى مدار الساعتين التّاليتين جعلتُ أتحقق كل دقيقة من مجموعة “سكايب” من نسخة “بيتّا” مثبّتة على جهازي للاطمئنان على الآخرين..
كانت النتيجة صادمة..
نجاحٌ بنسبةٍ تفوق تلك التي ينجح بها “القائد الخالد” وابنه “القائد المفدّى” في أحداث “تجديد البيعة” المُجَدْوَلةِ في الدستور كانتخابات.. 100
 %

مظاهرتنا الطيارة لأربع دقائق في حي الجميلية انتهت دون أي اعتقال..
دخلنا المنطقة المحرّمة.. هتفنا للحرية.. وثّقنا المظاهرة.. ثم تفرّقنا قبل أن يصِل الخبر حتى إلى الأفرع الأمنية في المدينة لإرسال قطعانهم.

لا أستطيع كلّما تذكّرت إحدى مظاهرات حلب إلا أن أستنكر كمّ الإجحاف الذي عاناه الحراك السلمي في هذه المدينة من انتقادات “لتأخرها” عن اللحاق بركب الثورة، بالطبع لايمكن إنكار قِلّة زَخَم الاحتجاجات فيها في البدايات، لكن إيراد ذلك دون الإشارة إلى المنظومة الأمنية المعقدة والضخمة بشكل يفوق أغلب المناطق السورية الأخرى هو ظلمٌ على أقلّ تقدير، وبَخس للجهود الجبّارة التي بذلها ثوار هذه المدينة حتى تمكّنوا أخيراً من حجز أحياء كاملة كمناطق مُحرّمة على الأمن والشبيحة حيّوا في مسائيّاتها مدن سوريا كلها، قبل أن تصبح مناطق محررة قدّم أهلها وأبناؤها أملاكهم وأحلامهم وأرواحهم فيها لأجل الحرية.

المصـــدر

المزيد
من المقالات