الحالة التي خرجنا بها نحن المهجرين قسراً من أرضنا، هي حالة المهزوم المُبعد إلى المنفى، والحالة التي رسمتها لنا الدول، هي أن نكون شعوبَ خيام، مجرد تجمعات بشرية متباعدة تسكن في آلاف الخيام المتجاورة المحاطة بسور أُعد ليمنعهم من التسرب وسط أراضٍ خاوية.
في أحسن الأحوال يتمتع المنفي السوري أو المهجر قسراً من أرضه بميزة اختياره مكاناً بين مكانين أو ثلاثة ليهجّر إليها، وهو في حيرة اختيار المكان يجد نفسه عاجزاً عن إيجاد أي مكان يشبه مدينته أو قريته المهدمة، والتي صمدت معه طويلاً، وصبرت معه طويلاً جداً، وشهدت ذكرياته وتضحياته وآلامه. من سورية إلى سورية، هل يختلف الأمر كثيراً، أم إنه اختلاف الحالة؟!
في الطريق الذي نعبره بين البلدات في الشمال السوري، لا يمكننا بشكل أو بآخر أن نتكهن
متى تظهر وردة بيضاء في وسط الخواء، وردة لها بتلات كثيرة بيضاء، أو زرقاء فاقعة الزرقة أحياناً، وحيدة وكأنها في كوكب منسي، معزولة عن العالم كقنبلة نووية تُستخدم للترهيب، ويغلق عليها بإحكام ليفكروا كيف بإمكانهم تفجيرها بما يتناسب ومصالحهم، مُبعدة عن روح المجتمع الأم وقواعده وقوانينه وقيمه، ففي الخيام تفقد هويتك، شكلك الحقيقي، جدران بيتك، مدرسة أولادك، مسجدك، وتفتقد أشياء تعدها من الرفاهية كحديقة الحي مثلاً أو مقهاه، وقبل ذلك كله وأهم من ذلك تفقد خصوصيتك، فقماش الخيمة يفضل أن يبقى مفتوحاً لسهولة الحركة، وبُعد المرافق والخدمات عنها سيجعلك خارجها دائماً، لا شيء هناك سوى سلات الإغاثة التي يحاولون إقناعك أنها كل حياتك.
لم أبحث في سبب اختيار اللون الأزرق لبعض الخيام فارضاً نفسه بوقاحة، هل فكروا – لا سمح الله- أن يقلدوا ألوان البيوت الطينية التي يبنيها أهل الريف بأنفسهم فتجمع اللون الترابي الحقيقي واللون الأبيض الصافي، واللون السماوي الرائع بهدوئه المهيب الآسر الذي يشعر عابرو السبيل أمثالي وكأنهم في جولة في قرية من قرى تونس الجميلة؟ هذه الفكرة تحديداً مًستبعدة، فالخيام تمتد في المساحات الشاسعة لتؤسس مجتمعات بلا هوية.
تبدأ الحالة من اللمسة الأخيرة لتراب مدينتك، والقُبلة الأخيرة لجدرانها، والعناق الأخير لأسراب المشيّعين لنا، الباكين علينا، نحن الذين نهاجرُ وأكفاننا معنا، كما كنا نفضل أن نموت بلا أكفانٍ تحت القصف، المهم أن نموت ونحن نقاوم!
تلك اللحظة التي ينخلع فيها قلبك، وتحتشد في ذاكرتك كل مراحل العمر، وتتركز في سنوات الثورة، لتجدها مقارنة بغيرها الأعلى والأسمى في معدل العطاء والبذل والقيمة، كل ما فيك يخبرك بأنك تفقد شيئاً غالياً كنت قبل ساعات مستعداً لأن ترخص نفسك ليبقى لك، وتبقى له، لكن أياً من ذلك لا يفيد في تلك اللحظة، فالرحيل المُعلن سيد الموقف، والحافلات تقف على مضض تنتظر بصبرٍ مجبرة عليه صعود أرواح الناس إلى السماء قبل صعودهم الحافلة، أو هكذا يشعرون.
الشمال السوري منطقة مغيبة، ليست جنة الدنيا كما وضع بعض الناس من الحالمين خطط أحلامهم، ربما ليجدوا بديلاً أو مواساة على خسارتهم أرضهم، وهو من ناحية أخرى ليس بالجحيم إن سكنته حضارة الإنسان وبدأت تحوله إلى أرض صالحة لحياة كريمة، الجحيم المطلق هو في تلك الخيام الحارة صيفاً، الباردة شتاء، والتي تعتبر دول العالم وجودها حالة مؤقتة للشعوب في حالات الحروب وغيرها.
في الحالة السورية الحالة المؤقتة استمرت سنوات سبع، والشعب الذي انتفض وثار من كل مدينة وبلدة وقرية لإسقاط النظام، قد وجد نفسه خارج منظومة الإنسانية، وجد نفسه مشرداً، مهجراً، معتقلاً، ضائعاً، منسياً، مغيباً. كيف بإمكان السلطة والقوة والعلم أن تصل إلى ابتكار قوة تدميرية للشعوب تصل إلى هذا الحد من البشاعة؟
لا أحد يعلم بعد النتائج التي حصلوا عليها من اختباراتهم للأسلحة في أهلنا وأرضنا، ولا اختباراتهم النفسية لردات أفعالنا التي توقعوها مسبقاً وفقاً لدراساتهم،
ولا لاختباراتهم العسكرية، تماماً لا أحد يعلم كم من الأموال ربحوا من الاتجار بنا نحن الأحرار الذين يعملون بجهد كي يحولونا إلى عبيد.
ما أعلمه جيداً أننا ورغم تقنياتهم المستحدثة في الاستعباد مازلنا نقاوم، ومازالت الخيمة تُخرج طلاباً يضربون بعرض الحائط كل ما مروا به من مآسٍ ومشكلات ويتوجهون إلى مدارسهم أو جامعاتهم في قرى ومدن مجاورة، وما زال المعلمون والمتعلمون، والمهنيون والحرفيون وكل صاحب إرادة للعمل يتحركون في البلدات والمدن لينجزوا أعمالهم الشريفة بكل تفانٍ ليعودوا إلى أهلهم في الخيام ويكرموهم بأعمال أيديهم، تلك النماذج المضيئة ليست شائعة بالضرورة، فبالمقابل الأكثرية الغالبة يجتاحها طوفان الجهل والتغييب والضياع، سيادة قانون الغاب، والتراجع الحضاري الهائل إلى الخلف، من مجتمع المدن إلى مجتمع البداوة، وفقدان لمعنى الإنسان، وفقدان الإنسان للمعنى، كل تفصيل يصرخ أين الحل؟!
بعيداً عن ذلك كله..
من يمتلك الشجاعة ليعبر داخل تلك الزهور التي تتفتح في المساحات الشاسعة، ليتعرف على بقايا وطنه هناك، لابد وأنه سيصادف في طريقه بعض الأطفال هناك، فليحدق في عيونهم الجميلة قليلاً، وليسألهم ما الذي بقي في ذاكرتهم من أناشيد يحفظونها أو أراجيز يرددونها؟
سيجد الجميع بلا منازعة ينشدون بصوت واحد..
جنة جنة جنة والله يا وطنا.. يا وطن يا حبيّب يا بو تراب الطيب..
حتى نارك جنة..
حتى نارك جنة..
تلك بقايا الوطن في الذاكرة، مهما كانت عرضة للنسيان!
المؤلم حقاً، والعصي عن الفهم أن يكون الوطن هو ذاته المنفى.
أن نتقبل هذه الفكرة ونستسلم لحالة المنفي المقهور العاجز، فهذا شأننا الذي نتحمل نتائجه، وأن نبقى نقاوم ونثور ونعاند واقعنا بالعمل وإحداث التغيير، فهذا ديدن الثائر المؤمن بنبل قضيته، شاء من شاء، وأبى من أبى.