تعرّضت الثورة السورية بعد عام من انطلاقها، لانتكاسات مختلفة مرتبطة بالقيم والمبادئ التي قامت عليها، منها حرف البوصلة من قبل القادة العسكريين بعد تبنّي مشاريع ما دون وطنية رداً على المشروع الطائفي الذي تبناه النظام.
ومنذ ذلك التوقيت، يستمر إطلاق الأحكام الجدلية المختلفة من قواعد الثورة، حول بقاء المبادئ من عدمها، وفي الغالب تتقلص الحواضن من حيث الاهتمام بالواقع؛ الذي تقاس به مستويات المشاركة الثورية، مع ارتفاع نسب الخذلان وتعقّد المشهد، لا سيما بعدما رسمت التفاهمات الإقليمية واقعاً سورياً جديداً وخارطة واضحة المعالم لحدٍ كبير بعد العام (2020) أي عقب بروتوكول سوتشي.
الحقيقة، لا يمكن القفز على واقعية انحراف مسار الثورة السورية، بعدما تحوّلت لصراع نفوذ إقليمي ودولي، بين ثلاثة مشاريع عامة: النظام السوري، والإدارة الذاتية، والمعارضة السورية، الأخيرة التي من الصعب في مكان التأكيد على وحدة فاعليها ضمن مشروع واحد. فقد أثبتت السنوات القليلة الماضية، مدى التحولات الفكرية التي طرأت على فصائل المعارضة السورية، رافقها اصطفاف وانزياح في التحالفات خاصة بين الفصائل الإسلامية والجهادية كـ”حركة أحرار الشام” التي تحالفت مع “هيئة تحرير الشام” المصنفة على قوائم الإرهاب.
ثم، تبعه تحالف -مؤخراً- بين عدة تشكيلات في فصائل “الجيش الوطني” مع “هيئة تحرير الشام”، مع بقاء فصائل أخرى رافضة لحدٍ ما لمشروع “الدولة السنية” الذي تتبناه “الهيئة” باعتباره تهديداً للمشروع الوطني الذي قامت عليه الثورة في إطار دعوات المواطنة والدولة الديمقراطية، هذه الفصائل التي يطلق عليها “فصائل ذات الهوامش” في إشارةٍ لقدرتها على التحرك ضمن هوامش معينة تعكس استقلالية للقرار المحلي.
خارطة الصراع، ترسم للسوريين ملامح مستقبل بلادهم وقضيتهم ولو بحدودٍ معينة، وتضعهم أمام خيارات محدودة ربما أبرزها القبول بواقع لم يختاروه يعجب المجتمع الدولي وبعض دول المنطقة الإقليمية، التي على ما يبدو ترى نموذج أفغانستان جيداً لدولة مثل سوريا، بكونه لا يشكل تهديداً جيواستراتيجياً مرتبطاً بتغير شكل المنطقة ونحوها تجاه ديمقراطيات جديدة اختفت منذ عقود طويلة، فضلاً عن أن كيان الدولة السنية قد يؤسس لبناء طوق أمني مريح ومقبول في عمق الأراضي السورية، وضمن هذا الواقع، يرى السوريون أنفسهم أمام خيارين أحلاهما مر، مما يدفعهم لإعلان موت الثورة السورية.
بتقديري، إن الخطأ الذي ارتكب من الحواضن الاجتماعية، مرتبط بسوء التقديرات، ويرجع ذلك للإيمان المطلق بمثالية الثورات، وهذا يمكن تتبعه من خلال حركية المطالب، وما نتج عنه من سلوك وممارسات أفضت في النهاية إلى القضاء أو تقويض أنصار المشروع الوطني، فالتعامل مع القوى المحلية والدولية والفواعل بالمجمل كان يدل على ضعفٍ وتهاونٍ كبيرين من لحظة تسليم قرارهم لدول وثقوا بها بينها دولية ومنها إقليمية خاصة ما يسمّى “مجموعة أصدقاء سوريا” مروراً بسماح المعارضة السورية لدخول فواعل جهادية ضمن صفوفها لغايات دينية.
لكن، في العودة إلى فلسفة الثورات، من الممكن القول إنّ الحكم على انتصار الثورة من عدمه خلال عقدٍ ونيف يحتاج لقليل من الدقة، لعلّ الخطأ الذي تقع به الحواضن الاجتماعية ضمن هذا الطرح، هو المقارنة التي بدأت منذ لحظة الانتفاضة بثورات الربيع الأخرى مثل تونس ومصر وليبيا، وكان هناك تعويل على ضرورة سقوط النظام السوري وانتصار الثورة بفترات زمنية متقاربة ومشابهة، مع أنّ تلك الثورات عملياً لم تنتصر وإنما تجاوزت مرحلة مهمة لكن سرعان ما عادت إليها بأنظمة أكثر قمعية واستبداداً.
الذي يمكن الإشارة له، بالطبع الثورات لا تنتصر بسهولة، وهي مجموعة من الأفعال وليست فعلاً واحداً يبدأ وينتهي بسقوط الرئيس، بل بالوصول إلى قناعة بضرورة ولادة مشروع وطني غير طائفي ليس فقط على الورق، ولنا في إعلان حقوق الإنسان الذي قدمه ثوار فرنسا للويس السادس عشر، عام 1789، مثال مهم، يحيلنا للاستشفاف بالعديد من الاستنتاجات ماذا حلّ بالثورة الفرنسية بعد هذا الإعلان وكم جمهورية وكم قرن وليس “عقد” احتاجت حتى يتطبق ويخرج من كونه مجرد شعارات مثالية مخطوطة على الورقة.
إن التعويل في الثورة السورية، يبقى على فعل الحراك والتظاهر والاشتباك المستمر الفكري مع سلطات أمر الواقع، وعرقلة تمرير المشاريع الطائفية، ودعم المبادرات الوطنية داخل سوريا وخراجها، وتنظيم السوريين أنفسهم، والوصول إلى أماكن صنع القرار في دول العالم، هذه عوامل كافية كي يتم دحض موت الثورة السورية.
فالثورات لا تموت بتوصيفٍ صلب صفري، الثورات تتفاعل في المساحات والهوامش، وتنتصر دائماً وليس بالضرورة أن تنتصر كما يتصور لها الناس من خلال عملية الانتقال بين المراحل وبقاء الأنظمة من عدمها، أو مرّة واحدة، الثورات تنتصر عدة مرات؛ عندما يصل الإنسان الثائر إلى قناعة مطلقة بقيم العدالة والحرية وقدرته على العمل لنشرها كرسالة إنسانية بين مجتمع كان يوماً مضطرباً خائفاً مهزوزاً ضعيف الوعي لا يعرف من الوطن سوى اسمه، وصولاً للحظة التي تُمأسس تلك القيم ضمن الوعي الجمعي ومؤسسات الوطن سوريا، وهذا طريق طويل يحتاج إلى عمل كبير وإخلاص تجاه القضية وصبر وحكمة والتخفيف من إطلاق الأحكام الصفرية المبكرة، لا يوجد هزيمة أو نصر مطلق كلاهما بحالة صعود وهبوط مستمرّة ودائماً هناك فرص إمّا توفرها التناقضات الدولية مثل الحرب الأوكرانية، أو يصنعها السوريون بأنفسهم مثل هوامش الداخل، ونجاح شباب سوريا في الخارج.