الثورة السورية وما تحمله من غنى وزخم إنساني وفكري تستحق المراجعة والمتابعة والتأمل عبر مسار أعوام باتت تستلزم البحث عن نتائجها والعمل على مشاهدات الحصاد.
في نظرة لعالمنا، ومقارنة بما يحدث حالياً في أمريكا، وما حدث سابقاً في فرنسا، وغيرها من وقائع غضب في دول متحضرة بذلت جهوداً كبيرة لتعلم شعوبها احترام الحقوق، تبرز حالة الغضب الشعبي العارم، السلوكيات التخريبية في الاحتجاجات، حالات التحطيم للممتلكات الخاصة والعامة، ونظرة إلى 2011 حين كانت المظاهرات في غاية السلمية، وحين كان التمزيق الأهم لصورة بشار الأسد، والتحطيم الأوحد لتمثال حافظ الأسد، وحين كانت أيدي الثوار ترتفع محملة بالزهور وأغصان الزيتون، وفي جيوبهم تختفي عبوات الكولا لتقاوم الغاز المسيل للدموع، وحين كانت الأكف تهتز، والحناجر تهتف بصوتٍ موحد، لا تشابهه هتافات المشجعين المتناغمة في الملاعب، ولا يناظره تناغم الناس هناك، في وحدة أرواح، وتآلفٍ عجيب، وفي وقفات لا يدري أصحابها أتراها تكون الأخيرة في حياتهم، وفي حياة رفاقهم الذين خرجوا معهم يحملون ذات الهم والقضية، فكيف استطاع الشعب السوري أن يحترم إنسانيته إلى هذا الحد؟
حين نغرق بالتفاصيل أكثر تبدو لنا مشاهد المشافي الميدانية المختفية في الطوابق السفلية للمباني، والتي قرر الثوار أن تكون ملجأ حصيناً للمصابين، سواء بسبب رصاص الأمن في المظاهرات، أو بسبب قذائف الجيش على الأبرياء والقصف الهمجي، حين تتجول في أرجاء مشفى ميداني لحظات القصف، فبإمكانك أن ترى المشهد على حقيقته، وتشهد أروع تجليات الإنسانية هناك، بدءاً بالأطباء الذين يتفانون لإبقاء الجرحى على قيد الحياة، والفرق التي تتطوع بشكل عفوي لنقل الجرحى بسياراتها الخاصة، وهي تدرك أنها خلال تلك العملية الجريئة قد تتعرض للقصف أو القنص بكل سهولة، وانتهاء بأفواج المتطوعين للتبرع بالدماء، ففي بدايات الثورة كانت المآذن في مدينتي تنادي للتبرع بدم تحدد زمرته، فيبادر الناس، ومع تقدم سنوات الثورة، بات الناس يعرفون من تلقاء أنفسهم، ومع ازدياد وتيرة القصف والعنف أن هناك حاجة لدمائهم، كما يدركون أنه لا حاجة لهم في تخزين دمائهم في أجسادهم بينما ينزف البقية، وهناك تغدو التضحية بالدم ذات بُعد جديد، يختلف عن الشهادة والإصابة، إنه متعلق هذه المرّة بالحياة.
في نظرة أخرى على حالات الحصار، وعندما يتصور العقل أن الأنانية وتغوّل الإنسان هي من ستفرض نفسها بفعل الحاجات الإنسانية التي يصعب كبحها، تتجلى صور عظيمة للتضحية والتفاني في مساعدة المحتاجين، وتفقد الضعفاء، والإيثار للآخرين في الطعام وتأمين الدفء، وحتى في تأمين المساكن بعد كل قصف، مشهد عظيم؛ نظامٌ يقصف، وشعبٌ يقاوم، جدران تتهالك، وثوار يعمرون الجدران ويسدّون الثغرات، نوافذ تتحطم، وفرق عمل تعوض عن الزجاج بما يسد الفجوات، ويقدم جرعة صبر جديدة تساعد على اجتياز واقعٍ مؤلم.
اليوم؛ لا يبذل بعض الأوغاد جهداً كبيراً في سبيل تشويه صورة الثورة التي طالما رمزت للكرامة، يسيؤون بتصرفات عشوائية فجّة، يرتكبون جرائمهم بدمٍ بارد تحت مسمى الثورة ويغادرون، يقتلون المدنيين بتصرفات هوجاء ويرحلون، يطلقون رصاصهم على الملأ، دون أن يلتفتوا إلى أي مكانٍ ستقع الرصاصة، تماماً كأولئك الذين يسيؤون في مجال السياسة، متجاهلين أرواح المدنيين تحت الخطر، ووطناً ينزف، ومعتقلين ينتظرون المخرج، ومثلهم في كل الميادين ممن يهدمون دون أدنى وازع للضمير والمسؤولية، تاركين الشارع في حالة سخط وغضب، وكأنهم يحاولون هدم بقيّة الأمل عند الناس، وكأنهم يتعاونون مع النظام لأجل سلبهم قضيتهم، كرامتهم، ومعتقداتهم، تلك سلوكيات ووقائع مؤلمة، تحدث وتنتشر، وترسخ في الذاكرة، وعندما تتكرر الصور السلبية، تصبح الانطباعات ساخطة، وتتثبت فكرة انعدام الإنسانية لدى كل ثائر.
كل فجر، يحدث الثوار أنفسهم عن جدوى تحملهم عواقب إساءة الآخرين، ينفضون غبار يومٍ محمّل باللوم والقهر على ذنب لم يقترفوه، بل ارتكبته فئة حملت السلاح لتطغى، يسيرون معاً أو فرادى ليتابعوا الطريق، يتأملون صور رفاقهم الشهداء الذين رحلوا وهم على ذات الهدف، تلك الصور والذكريات هي أكثر ما يقنعهم بألا يتراجعوا، وبأن يظلوا على ذات المبادئ والهدف حتى النصر.
وكل فجر، تولد قصص جديدة، وتستيقظ صور قديمة، لوقائع مؤلمة، وانتهاكات تستحق أن يتجند الأحرار أفراداً وجماعات لمكافحتها، بكل ما أوتوا من صدق وعزيمة، وتولد أيضاً قصص جديدة جميلة، تتجلى فيها معاني الإنسانية، وتستيقظ ذكريات قديمة، تحمل عبق الماضي محملاً بروائع ما حدث في الثورة من قصص ووقائع تتجلى فيها الإنسانية في أبهى صورها، تتزاحم الأفكار المتضادة وتتصادم، ويبقى انحياز كل إنسان لما يعرف من الحق، ومع كل انحياز؛ فجر كرامة يتجدد.