عن سورية الثورة والشعب العنيد

نوفمبر 9, 2022

حسام الحميد

مقالات

يجدر، في ذكرى انطلاقة ثورة الحرية والكرامة في سورية، التفكير في السنوات التسع التي مرّت على الشعب السوري بكل ثقلها الأسود، محمّلة، مع كل يوم من أيامها، بكل أشكال العنف الدموي الذي مارسه النظام الأسدي ضد شعب أعزل، خرج يحلم بالحرية والكرامة، ومطالباً بأبسط حقوقه، العيش الكريم. خرج منادياً “الشعب السوري ما بينذل”. وكانت هذه العبارة الركلة الأولى التي أسقطت جدار الخوف من هذا النظام الطائفي المقيت، الذي دمّر النسيج الاجتماعي في سورية خمسين سنة، قبل أن يدمر اليوم البشر والحجر. ولم تكن السنوات التسع، بقضها وقضيضها، كافية لكي يدرك المجتمع الدولي مدى حقد النظام المجرم ودمويته، ولم تكن هذه السنوات كافيةً للعالم، ولا حتى العرب، للعمل على منع النظام من ارتكاب مزيد من جرائم الإبادة الجماعية في سورية، بل تجرأ بعضهم على المطالبة بعودة النظام إلى جامعة الدول العربية.

ولكن منذ الأيام الأولى لثورة الحرية والكرامة، أدرك الشباب الثائر أن ثورته ضرورة حتمية للخلاص من حكم عصابة العائلة الأسدية التي استولت على السلطة، فحولت سورية مزرعة تمتلكها، وعانى الشعب، تحت حكم نظام الاستبداد والشمولية خمسة عقود، من الفقر والبطالة وفساد كبير في كل قطاعات الدولة، وعانى من قبضة أمنية شديدة، أدت إلى موجات من القمع والاعتقالات الواسعة لفئات كثيرة من الشعب. وبالتالي، صار الإيمان لدى هذا الشباب الثائر بأنه مهما كان الثمن غالياً، فالثورة من أجل إسقاط النظام أكثر من ضرورة، للخلاص من العصابة المجرمة، وبقاؤها حتماً سيكلف الشعب السوري كل ما يملك.

ولم يدرِ الشباب السوري الذي خرج يطالب بحريته أن هذا المطلب لن يغير النظام فحسب، بل سيكون خطراً قد يغير العالم، فلم يشهد العالم، منذ نهاية الحرب الباردة، صراعاً عالمياً كالذي يحدث في سورية، يبدو في ظاهره محلياً، لكنه أكثر تعقيداً بين الإقليمي والعالمي، فقد أصبحت الأرض السورية المستباحة اليوم من عدد لا متناهٍ من الدول مسرحاً للصراع العسكري والسياسي بين هذه القوى، العالمية منها والإقليمية، وتُرك الشعب السوري يواجه قوى عسكرية كبرى وحده، من دون أي دعم أو مساندة.

تسع سنوات من سياسة تحويط الأزمة لم تعط أكلها، فلم يسبق أن شهد أيٌّ من صراعات العالم هذا الكمّ الهائل من التصريحات والتصريحات المتناقضة والمضطربة لقادة الدول اللاعبة في الملف السوري ومئات من الاجتماعات الأممية والقرارات الدولية واللجان، واللجان المختصة والقرارات الصادرة عنها. ولم يعرف أي صراع في العالم هذا العدد الهائل من قرارات الفيتو ضد قضية شعب أعزل، خرج مطالباً بحريته، فلماذا كل هذا التناقض، ولماذا يرغب المجتمع الدولي في بقاء الأزمة السورية بلا حل إلى أجل غير مسمى؟ للإجابة، يجب أن نعرف أن المعادلة الوحيدة التي يتفق عليها كل الأطراف المتصارعة اليوم أنه لا مصلحة لأحد في الجوار الإقليمي بأن تنجح الثورة السورية، وتبني بلداً ديمقراطياً، فتغيير النظام الأسدي كان سيؤدي حتماً إلى قلب كل توازنات المنطقة التي اشتغل الغرب والشرق على بنائها عقوداً طويلة. وتغيير النظام في سورية، وهو الحليف الوثيق لإيران في المنطقة، كان سيؤدي مباشرة إلى تغيير النظامين في لبنان والعراق التابعين للوصاية الإيرانية. وقد تصل شعلة التغيير إلى دول الخليج، الخزان النفطي الاستراتيجي، وحتى إلى تركيا التي لن تكون بعيدة عن هذا التأثير. لذلك وقف الجميع يتأمل مصيره في حال نجاح الثورة، وحصول المواطن السوري على حريته من نظام استبدادي، جعل من البلد جسراً ليلعب دوره في خدمة العالم ثمناً لبقائه في السلطة. ولهذا كان الموقف العالمي كله معادياً لهذه الثورة العظيمة التي تهدد فعلاً بتغير المنطقة، وهذا ما يعرفه اللاعبون الإقليميون، فقد فعل الجميع، (نعم الجميع) أقصى ما في وسعهم وقوتهم لوأد هذه الثورة العظيمة وإفشالها، منذ بدا لهم أن النصر حليف الثورة، وأن سقوط النظام بات قاب قوسين.

ولندرك قوة هذه الثورة، وصلابة الشعب السوري الثائر، ولنعرف ماهية الصراع الذي يخوضه اليوم ضد دول وقوى خارجية وداخلية، علينا العودة إلى بداية الثورة السورية، والانتصارات التي حققتها، واتساع رقعتها وسيطرتها على مدن وقرى كثيرة، لنعرف لماذا بات على الشعب السوري، بعد أن واجه النظام بكل قوته ووحشيته، أن يواجه إيران التي زجّت عشرات آلاف “المجاهدين” من حزب الله، ثم المليشيات الطائفية العراقية، ثم الحرس الثوري الإيراني وتوابعه. وبعد أن اقتربت قوى المعارضة من إسقاطه، دفعت إيران لذلك مليارات الدولارات، وقدمت كل احتياجات السلاح، ودفعت الأسد إلى استخدام طيرانه وصواريخه الباليستية ضد المدنيين، ولكن ذلك كله لم يكن ليكسر عزيمة الثوار على الأرض، وفشلت إيران، كما فشل النظام في إخماد هذه الثورة، ما دفعها إلى طلب تدخل الجيش الروسي، بكل ترسانته من الأسلحة الثقيلة والطيران، الذي لم يترك سلاحاً لديه، قديماً أو جديداً، إلا جرّبه في قتل المدنيين السوريين، وتدمير المدن باستخدامه سياسة الأرض المحروقة، ولا يزال، بعد مرور نحو خمس سنوات على التدخل الروسي في سورية، غير قادر على إنهاء الثورة عسكرياً.

ولأن التدخل الخارجي، الإيراني والروسي، حقق مكاسب كبيرة عسكرياً على الأرض، كان لزاماً على كل من تركيا والمملكة المتحدة وفرنسا وأميركا أن تعمل على تدخل مضاد، ولكن ليس لمصلحة الشعب السوري، بل لمصالح خاصة بها، وهو تدخل جاء بعدما أيقن الجميع انتهاء سورية الأسد وسقوطها تماماً، فبدأ الجميع يبحثون عن محاولة للإمساك بما يمكنهم من التأثير في رسم خريطة المصالح في صياغة مستقبل سورية، وعمد كل طرف إلى تغطية أهدافه الحقيقية بأهداف وهمية، فكان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وكان التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب جسراً لأن تتدخل هذه الدول في الصراع عسكرياً، من خلال دعم وحدات حماية الشعب الكردية تحت مسمى قوات سوريا الديمقراطية، للسيطرة على المنطقة الشرقية في سورية كاملة بعد هزيمة “داعش”، وهذا ما شكل خطراً حقيقياً على حدود تركيا التي تعتبر هذه الوحدات منظمة إرهابية، غرضها زعزعة الأمن القومي التركي. ولذلك، لم يكن لدى الأتراك خيار سوى التدخل عسكرياً في الأراضي السورية من خلال عملية درع الفرات في 2016، ثم أتبعوها بعملية غصن الزيتون في 2018، لاحتواء التمدّد الكردي على الشريط الحدودي المتاخم لتركيا، ثم كانت عملية نبع السلام في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وتالياً، عملية درع الربيع في فبراير/ شباط 2020.

وبهذا يمكن القول إنه ليس لأيٍّ من الجيوش الخمسة المتحاربة على الأرض السورية مصلحة في انتصار الثورة السورية، وهي لم تفعل أي شيء لتحقيق مطالب الشعب السوري، بل عملت جاهدة على سلب القرار من يده، وتحطيم عزيمة الثورة وتفتيت قواها، من خلال مسرحيات جنيف وأستانة وسوتشي. ولكن على الرغم من مرور السنوات التسع، ووجود كل هذه الجيوش والمليشيات والعصابات والمنظمات الإرهابية على الأرض السورية، فإن ثورة الشعب السوري التي يقف كل العالم بوجهها عظيمة، وسيذكرها التاريخ بأنها الثورة الأكبر والأكثر تميزاً والأكثر تأثيراً في العالم. لقد حققت انتصارها المحلي منذ اللحظة الأولى لانطلاقها، فقد أسقطت جدار الخوف، وكسرت مملكة الصمت، وأسقطت شرعية النظام المجرم. وعلى الرغم من صعوبة الظروف المحيطة بها الآن، وعلى الرغم من دخولها في متاهة صراع المصالح الدولية والتغيير الإقليمي، ستعيد سيرتها الأولى وستنتصر، حتماً ستنتصر.

المصـــدر

المزيد
من المقالات