ربما تكون أواسط العام 2014 هي أحلك الفترات التي عاشتها الثورة السورية شمال البلاد، حيث كانت المنطقة الممتدة شرقي مدينة حلب منقسمة بين سيطرة ثلاث قوى هي قوات النظام وتنظيم داعش وفصائل الجيش الحر، وقد شهدت هذه الفترة تقدم قوات النظام والميليشيات متعددة الجنسيات بقيادة إيرانية في محيط مدينة حلب، متمكنة من السيطرة على المدينة الصناعية في الشيخ نجار شمال شرقي المدينة مطلع يوليو \ تموز، بعد تنسيق ميداني مع تنظيم داعش الذي انسحب من عدد من القرى في محيط الشيخ نجار سامحاُ لها بامتلاك الأفضلية الميدانية في المعركة، إلا أن استبسال الفصائل في مواجهة قوات النظام في محيط المدينة الصناعية أسفر عن إيقاف تقدمها أخيراً بعد أن باتت الأحياء المحررة من مدينة حلب -والتي تشكل ثلثي المدينة- معتمدةً على طريق إمداد واحد -تشرف مدفعية النظام عليه- يربطها بالريف الشمالي هو (طريق الكاستيلو).
آنذاك كان تنظيم داعش قد فرغ من معركة السيطرة على محافظة دير الزور شرقي البلاد التي امتدت نصف عام تقريباً، والتي اضطر حتى يتمها لتجميد جبهاته مع المناطق المحررة شمالي حلب، ليبادر فور تأمين التواصل بين مناطق نفوذه في العراق وسوريا بسيطرته على الشرق السوري إلى حشد قواته لمهاجمة الشمال مرة أخرى في معركة أطلق عليها اسم “غزوة الثأر للعفيفات”، مستثمراً كذبة أطلقها تتحدث عن تعرض عدد من النساء غير السوريات (المهاجرات) المنتميات إلى التنظيم -أو اللائي ينتمي ذووهن إلى التنظيم- للاغتصاب على أيدي فصائل الجيش الحر شمالي حلب، أثناء معارك تحرير الشمال من تنظيم داعش مطلع العام 2014، وهي التهمة التي تبين زيفها بعد نشر وثيقة تؤكد تنسيق الهيئة الشرعية في ريف حلب مع الفصائل لتسليم النساء اللائي تخلفن عن مقاتلي التنظيم بعد فرارهم من الريف الشمالي إلى ممثل عن تنظيم داعش.
(وثيقة تسليم النساء المنتميات إلى تنظيم داعش إلى ممثل عنه شمال حلب – كانون الثاني 2014)
لكن ذلك لم يمنع الماكينة الإعلامية للتنظيم من الاستمرار في التجييش للمعركة التي كان التنظيم قد تمكن في بداياتها أواسط أغسطس \ آب من السيطرة على عدد من المناطق الاستراتيجية شمالي حلب وأبرزها (أخترين وتركمان بارح)، وهو ما دفع فصائل الشمال التي كانت تتثاقل طوال أسابيع عن تحصين المنطقة رغم التحشيد العلني للتنظيم باتجاهها؛ إلى تشكيل غرفة عمليات لإيقاف تقدمه، أطلقوا عليها اسم “نهروان الشام” تيمناً بالمعركة الشهيرة 38هـ \ 659م بين جيش خليفة المسلمين علي بن أبي طالب وبين فرقة المحكِّمة (الخوارج).
بنية غرفة عمليات نهروان الشام
شهد النصف الأول من العام 2014 بروز تشكيلين جديدين من مرتبات الجيش السوري الحر شمالي سوريا، أولهما حركة حزم التي نتجت عن اندماج عدة تشكيلات من ريف حلب الغربي وشمالي إدلب أواخر يناير \ كانون الثاني عام 2014، والتي شاع ضمن الأوساط العسكرية في حلب لكونها نواة لمشروع جيش مستقبلي يضم الفصائل الثورية “المعتدلة” تدعمه الولايات المتحدة الأميركية، حيث تعد تشكيلات الجيش الحر من مدينة الأتارب غربي حلب نواة الحركة الرئيسية.
أما ثانيهما فكان “فيلق الشام” الذي أعلن عن تشكيله في مارس \ آذار من العام نفسه، والذي ضم عدداً من الكتائب بثقل واضح لتلك المنتمية للمنطقة الممتدة بين ريف حلب الغربي وريف إدلب، حيث تميز الفيلق بكونه أول تشكيل عسكري تكون القيادة الفعلية فيه لدائرته السياسية المقربة من صانع القرار التركي.
كذلك شهدت أواسط العام 2014 تغيراً سيترك أثره على الخريطة الفصائلية لحلب وريفها، حيث أعلن لواء التوحيد وجل مجموعات حركة أحرار الشام في حلب وريفها اندماجها تحت مسمى “الجبهة الإسلامية في حلب وريفها” أواخر يوليو \ تموز، ومع أن الإعلان آنذاك جاء بحسب كوادر الجبهة كتجربة عملية لاندماج كافة تشكيلات “الجبهة الإسلامية” التي كانت تضم إضافة إلى التوحيد وأحرار الشام كلاً من جيش الإسلام وصقور الشام، إلا أن الأيام أثبتت أن هذا الاندماج كان عملياً يمثل انتهاء مرحلة الجبهة الإسلامية كمظلة فعلية للتنسيق بين التشكيلات المكونة لها، خاصة بعد أن أخذ الكيان الجديد “الجبهة الإسلامية في حلب وريفها” عدة خطوات أعاد فيها تعريف نفسه كفصيل من الجيش السوري الحر، وذلك بعد فترة غلب على تحركات لواء التوحيد فيها وقوفه في المنتصف بين تشكيلات الجيش الحر والفصائل السلفية، وربما أقرب إلى الأخيرة.
تحمّل الكيان الجديد / القديم الفاتورة الأثقل بين تشكيلات الشمال في المواجهة مع تنظيم داعش ما بعد طرده من الشمال، وذلك لكون المنطقة المشرفة على خط الجبهة بين المناطق المحررة والمناطق التي يسيطر عليها تنظيم داعش تعتبر مسقط رأس جل مجموعات الفصيل، لذلك كانت معظم نقاط الرباط في مواجهة التنظيم تشغلها مجموعات الجبهة الإسلامية في حلب وريفها، وهي المجموعات التي تلقت الصدمة الأولى من اجتياح تنظيم داعش لريف حلب الشمالي ضمن غزوة “الثأر للعفيفات” ولمدة أسبوعين تقريباً، قبل أن تتنادى فصائل الجيش الحر في الشمال لتشكيل “غرفة عمليات نهروان الشام” أواخر أغسطس \ آب عام 2014.
ضمت غرفة العمليات كلاً من الجبهة الإسلامية في حلب وريفها وحركة حزم وفيلق الشام، إضافة إلى جيش المجاهدين الذي كانت فصائل (الأنصار – أمجاد الإسلام – تجمع فاستقم) أبرز مكوناته آنذاك، والتي تنتشر بين مدينة حلب وريفها الغربي، وكذلك انضمت حركة نور الدين الزنكي للغرفة والتي سبق لها أن استقلت عن جيش المجاهدين، حيث يعتبر ريف حلب الغربي منطقة انتشارها الرئيسية.
ويمكن القول إن “نهروان الشام” كانت أول غرفة عمليات في الشمال السوري تشكلها وتشرف عليها فصائل الجيش الحر دون ثقل للفصائل “السلفية” فيها منذ “غرفة عمليات خان العسل”، التي خاضت معارك تحرير بوابات مدينة حلب الغربية أواسط العام 2013، وذلك ضمن مرحلة ما بعد تنظيم داعش التي شهدت استعادة الجيش الحر لمكانته بعد سلسلة من النجاحات، حيث سبق لتشكيلاته المختلفة أن كان لها الدور الأكبر في إيقاف تقدم قوات النظام في محيط مدينة حلب ومنع حصارها، كما سبق لها أن نجحت بقيادة معركة تحرير الشمال السوري من تنظيم داعش مطلع العام 2014.
لكنها الآن أمام تحد كبير هو الصمود أمام اجتياح واسع ومنظم لتنظيم داعش في أول معركة من نوعها في الشمال السوري، حيث كانت الأفضلية في المعركة السابقة التي طرد فيها التنظيم من الشمال مطلع العام 2014 لفصائل الجيش الحر التي اعتمدت عنصر المفاجأة، أما أواسط العام 2014 ففصائل الجيش الحر منهكة بسبب معارك الاستنزاف التي كانت ما تزال تخوضها ضد قوات النظام شرقي حلب، بينما يعيش تنظيم داعش أفضل أيامه بعد انتصاره في معركة دير الزور، حيث بات قادراً على تحريك مجموعاته من الموصل إلى مشارف حلب.