في الوقت الذي ما يزال فيه الكثير من جمهور الثورة السورية مأخوذاً بسخونة الحديث عن الاستدارة التركية في تعاطيها مع الملف السوري، فإن الكثير من السوريين – في الوقت ذاته يعيد طرح سؤال قديم جديد: هل بمقدور القوى الفاعلة في الثورة استعادة أنصارها، عربياً ودولياً، كما كانت عليه الحال في العام 2012؟ ربما كان الدافع لهذا التساؤل هو حالة الإحباط والخذلان التي يشعر بها السوريون، سواء من جهة تغيّر المواقف العربية التي ناصرت الثورة لعدة سنوات، ثم انعطفت باتجاه الدعوة للتطبيع مع نظام الأسد، أو من جهة المواقف الدولية التي أدانت النهج الدموي والتوحّش الأسدي بقتل السوريين، إلى درجة أنها نادت بنزع الشرعية السياسية والأخلاقية عن حاكم دمشق، ثم ما لبث هذا الموقف أن بات أكثر انحساراً، ومن ثم أكثر تحوّلاً باتجاه المطالبة بتغيير سلوك النظام بدلاً من نزع شرعيته، وبالعودة إلى السؤال السابق، يمكن الوقوف عند ملاحظتين:
1 – إن التعاطف الكبير والتأييد الذي حظيت به الثورة السورية خلال الأشهر الأولى من انطلاقتها، سواء على مستوى التأييد العربي التي تمثل بتجميد عضوية النظام في أنشطة الجامعة العربية، أو على مستوى التأييد العالمي الذي تجسد بمؤتمر (دول أصدقاء سوريا) في تونس، أقول: إنما تحقق ذلك آنذاك بفعل قوّة الحراك الثوري السوري وتماسكه، والذي أجبر نظام الأسد على التقهقر السريع، وبدت علائم الانهيار واضحة من خلال انحصار سيطرته على رقعة جغرافية لا تتجاوز ثلث الجغرافية السورية، وإذا كان من الصحيح أن الدول تسعى لتحقيق مصالحها، إلّا أنها في الوقت ذاته تعوّل في تحقيق مصالحها على أوراق ومعطيات تحظى بالقوة والمصداقية، ولا تراهن على نقاط الضعف، فالأسد آنذاك كان ضعيفاً متقهقراً، بينما قوى الثورة تتقدم بقوة، والرهان عليها كان هو الأقوى.
2 – لعل الكيان السياسي السيادي الأول الذي انبثق عن الثورة وبات ممثلاً لها هو المجلس الوطني السوري، ولعله كان يحظى باحترام عربي ودولي ولو نسبياً، أكثر مما تحظى به الكيانات الراهنة، وربما يعود ذلك إلى أن المجلس الوطني آنذاك كان ما يزال ممسكاً بقراره الوطني إلى هذه الدرجة أو تلك، وربما أيضاً لأن التوغل الدولي في القضية السورية لم يكن كما عليه الحال الآن، أما فيما بعد، ومنذ تشكيل الائتلاف، ومن ثم تعدد الكيانات، هيئة التفاوض وتعدد منصاتها، ثم اللجنة الدستورية، فقد بدا واضحاً أن تلك الكيانات إنما أوجدت بمسعى خارجي، ولتكون ذراعاً وظيفياً لأجندات الغير، كما أثبت سلوكها ومُنتجُها خلال أعوام تلت بأنها لم تنبثق من حاجات وطنية تمليها مصلحة الثورة، بقدر ما كانت وكيلاً محلياً لطرف خارجي، وبهذا لم تفقد احترامها والثقة بها من جانب الأطراف العربية والدولية فحسب، بل من جانب أكثرية السوريين أيضاً.
مما لا شك فيه أن ثمة عوامل موضوعية كان لها الأثر الحاسم في انحسار قوى الثورة لصالح الأسد وحلفائه، لعل أبرزها التدخل العسكري الروسي المباشر أواخر أيلول 2015، ما أدّى إلى سقوط حلب الشرقية أواخر العام 2016، ومن ثم انطلاق مسار أستانا مطلع العام 2017 الذي أدّى من الناحية العملية إلى تحييد مسار جنيف وإفراغ القرارات الأممية من محتواها الجوهري عبر فكرة تقسيم الحل إلى أربع سلال، ومن ثم اختزال القرارات الأممية بلجنة دستورية مجهولة المصير، ومن الجانب العسكري أو الميداني أدى أستانا إلى احتواء الفصائل العسكرية تارة عبر إشراكها بلقاءات أستانا وتارة عبر الإجهاز عليها عسكرياً، ومن ثم بات مسار أستانا أكثر إفصاحاً عن ماهيته عبر إجهاز النظام وحلفائه على مناطق ما سمّي بخفض التصعيد، ما أفضى إلى استعادة النظام السيطرة الكاملة على مجمل المدن والبلدات التي كانت بحوزة قوى المعارضة.
ربما أحدث التوجه التركي الجديد بالتعاطي مع القضية السورية، وأعني الميل نحو فتح حوار مع نظام الأسد والعمل على المصالح المشتركة بدلاً من شعار إزالة النظام، ربما أوجد هذا النزوع التركي ما لم يكن متوقعاً، وأعني اشتعال جذوة الحراك الثوري السلمي في مدن وبلدات الشمال السوري، الأمر الذي أطاح بكثير من الدعوات التي بشرت بموت الثورة، كما أسقط كثيراً من الأصوات التي كانت تنادي بحتمية وأحادية الحل الخارجي للقضية السورية، ولكن السؤال الذي يبقى قائماً هو: هل يستطيع هذا المنجز الثوري المتمثل بالحراك الشعبي أن يعيد للقضية السورية اعتبارها عربياً ودولياً، وما مقدار قدرته على التأثير في السياسات الدولية المحكومة دوماً بمصالحها؟ قبل الجواب بنعم أو لا يحسن الوقوف عند مسألتين متلازمتين:
تشير الأولى إلى أن أيّ مُنجز ثوري لا يمكن حصد نتائجه المرجوّة منه دون تحويله إلى ورقة من أوراق السياسة، أي حين يتحوّل المُنجز الثوري إلى مكسب سياسي، وهذه العملية مشروطة بوجود أطر سياسية منبثقة من الحراك الثوري أو على الأقل ذات ارتباط عضوي به، وهذا الكلام يستدعي بالضرورة وجود جسم أو أجسام سياسية جديدة بأجندة وطنية قادرة على استيعاب وتفهم مصالح الدول ولكنها في الوقت ذاته تنطلق من أولوية المصلحة الوطنية السورية، ولعله لا حاجة للتأكيد على أن الكيانات الرسمية الراهنة لا تملك النهوض بهكذا أجندة نظراً لحالة العطب المريعة والمزمنة التي تعاني منها. وتشير المسألة الثانية إلى أن أي محاولة لاستثمار الحراك الشعبي الثوري ليتحوّل إلى موقف سياسي ناضج لا يمكن لها النجاح بالاعتماد على أطر سياسية مؤدلجة أو ذات ميل نخبوي متعالي على الحراك، ذلك أن تلك (النخب الثقافوية) مارست – وما تزال – دوراً خاذلاً للحراك، من خلال تجاهلها التام له تارةً، ومن خلال استمرارها بالتعويل المطلق على الحلول الوافدة من الخارج تارة ثانية، وكذلك من خلال هروبها من مواجهة استحقاقات أولوية وراهنة، والركون لنزعتها الرغبوية في التفكير بحجة الابتعاد عن الشعبوية تارة ثالثة.
لعله من الصحيح أن مسار المصالح العربية والدولية هو في تغيّر على الدوام، ولا يحظى بسمات الثبات والاستقرار، وربما جاز للبعض الذهاب إلى أن من العسير جداً على أي كيان سياسي سوري ثوري مهما بلغ من النضج، أن يُحدِث انعطافة دولية نوعية تجاه القضية السورية، نظراً للواقع المتشظي الذي أفرزه تقاسم النفوذ الدولي للجغرافية السورية وتعدد سلطات الأمر الواقع وما بينها من تخوم قتالية تحول دون أي جهد أو نشاط سكاني سوري موحّد، ولئن صحّ ما سبق، إلّا أن المطلوب في الوقت الراهن ليس انعطافة نوعية تأتي بإيماءة عصا سحرية، بل ما يمكن التطلع إليه بمزيد من الموضوعية، وما هو أكثر أولوية، إحداث انعطافة من شأنها تصحيح العلاقة وإعادة التلاحم العضوي بين القوى السياسية والحراك الثوري السوري أولاً، ومن ثم الانطلاق إلى الآخر الخارجي، إذ بدون الاستقواء بالسوريين أولاً، يبقى التعويل المطلق على الآخر الخارجي أقرب إلى لعبة القمار.