بين “الفن” و“ما يسمى فنًا”، يحار النقاد في إطلاق الوصف الصحيح على الفن السوري في مرحلة الثورة في مناطق النظام والمعارضة، ويذهب المراقبون إلى القول أن ما يصدر عن مؤسسات النظام الفنية أو التي لا زال يتحكم حارس البوابة (الرقيب) بمحتواها، ما هي إلا امتداد لحقبة ما قبل الثورة، حيث سادت ثقافة “التدجين” والإسفاف في تناول القضايا بأسلوب أمني مدروس، يشعر المواطن بأن حرية التعبير عند أعلى مستوياتها.
في مقابلة لعنب بلدي مع الفنان المسرحي والإعلامي حسين برو، تبنّى وجهة نظر مماثلة، معتبرًا أن التوجه العام للإنتاج الفني قبل الثورة كان جزءًا من ثقافة “الإسفاف” السائدة آنذاك، واعتبر أن الجيل في تلك الفترة تربى على أنواع المسرحيات التي عززت تلك الثقافة، مشيرًا إلى أن الإنتاج الفني كان محصورًا بالمؤسسات الرسمية فقط وخاضعة لرقابتها التامة، واستثنى من ذلك المسرح الجامعي، الذي كان يقدم “طفرات في العمل بعد الالتفاف على الرقابة”.
يرى برو أن الفن قبل الثورة كان مقيدًا بعراقيل ويخضع لموافقات وإجراءات أمنية معقدة، وقال “يجب أن يتم كل شيء تحت الغطاء الرسمي وإلا فمصير الفنان الاعتقال”، حتى ما كان يقدم بقالب النقد للدولة أو للمسؤولين، يراه برو محاولات مدروسة لتحويل الفاجعة إلى ضحكة، مثل مسلسلات مرايا وبقعة ضوء، وكانت محاولة “للتنفيس ليس أكثر”، على حد تعبيره.
في المقابل، ينظر إلى الأعمال الفنية التي برزت في ظل الثورة على أنها نتاج نضوج لأفكار “ثورية” طرحها ناشطون وفنانون ومواطنون رغبوا بتوصيل الفكرة عبر لوحة أو مشهد تلفزيوني أو قصيدة، بعدما كسرت الرقابة المخابراتية للنظام. وما أعطى قيمة نوعية لهذه الأفكار هو أنها صدرت في جوقة فنية خالصة، من مناطق تتعرض يوميًا للقصف والتدمير الممنهج، يفترض بالسكان فيها أن يفكروا في كل شيء إلا الفن، فهو يحتاج إلى جو خاص وعوامل فيزيائية تسمح للفنان بالإبداع.
وهنا يمكن القول، أن مقاييس الإبداع لم تتوقف على الأساليب التقنية، والحرفية في الأداء، وضخامة الإنتاج التي ترفع من القيمة الجمالية والفنية للعمل، بل على المضمون الهادف والذي يعد “حجر الأساس” في التقييم.
ثقافة البعث ووجبات الدراما السريعة
ترى وزيرة الثقافة في الحكومة السورية المؤقتة، سماح هدايا، أن “الفن الحقيقي هو الذي يقدم إبداعًا، ويحمل مشروعًا تنويريًا ويكون بمثابة التوثيق التاريخي الذي يقدم للجيل”.
وتوضح الوزيرة لعنب بلدي أن “الإنتاج الفني في ظل حكم البعث قبل اندلاع الثورة، مثل الوجبات السريعة المغلفة (بأمبلاج) جذاب، يطرح فقط للاستهلاك ويعتمد على إثارة الغرائز، وهو فعليًا يعد لتشكيل الإنسان السوري والهوية السورية بصورة مشوهة كما رُسم لها أن تكون، فهذا ليس فنًا حقيقيًا”.
ولعل القطاع الفني الذي يعبر عن هذه الظاهرة بأبرز وجوهها هو “الدراما”، فرغم النجاجات الكبيرة التي حققتها والانتشار الواسع الذي اكتسح الشاشات العربية، وأنعش الاستثمارات في هذا الجانب، وقعت بالفخ هي الأخرى، إذ تعمدت بعض الأعمال على تعميم الجزئيات السلبية في المجتمع، والتي كانت ترتبط بحالة الشعبوية والغوغائية، ففي كل مجتمع عيوب وحالات غير صحية، لكن التركيز عليها وإبرازها وتعميمها لتبدو وكأنها الحالات الاجتماعية السائدة، يعتبر هدفًا سيئًا للفن، ويدلل هذا على وجود خطة وبرنامجًا سيئًا كان يُشتغل عليه، حتى تحول الفن شيئًا فشيئًا إلى “معول هدم” في سوريا، “لا بل في كل المجتمعات العربية”.
وكان لبعض النصوص الدرامية دورًا سلبيًا على المجتمع، إذ حطت في مشاعر ومخيلة وفكر الإنسان السوري، وغيرت في الشخصية نحو الجشع والنهم والنهب، وغيرت في الشخصية السورية حتى على مستوى الخطاب، وأبرزت المرأة السورية بشكل مبتذل وسيء، وكأنها تحفة فنية جميلة لا تنجح إلا بصنع المكائد، إذ كانت هذه المسلسلات تجسيدًا لأنماط تختلف عن واقع مجتمعنا، قدمت لنا باستمرار لنتقبلها ونتشربها للأبد. في حين لم تعالج هذه الدراما المشاكل الجوهرية.
ويبدو أن لوزيرة الثقافة في الحكومة المؤقتة، سماح هدايا، رأيًا متوافقًا مع هذا الطرح، التي اعتبرت من خلال خبرتها أن “هناك برنامجًا فنيًا متعلقًا بالآثار والتراث، ومتعلقًا بالهوية بشكل عام، كان يجهز في مرحلة حكم آل الأسد، يهدف إلى تحطيم الهوية التاريخية، والهوية الحضارية، والهوية الجامعة لكل السوريين”، وأضافت “ركز هذا الفن على الجانب الذي أصابه انحطاط في حضارتنا السورية العريقة، وعممه على كافة إرثنا الحضاري، ليصبح أداة تشويه للمجتمع السوري”.
الفن السوري ينفرد بالرواية التسجيلية
ارتبطت الإنتاجات الفنية في العالم بظروف تاريخية، وكان لهذه الظروف ارتباط كبير بتغيير الأنماط والأساليب الفنية، كالفن المرتبط بالثورة الصناعية في القرن العشرين والثورة الفرنسية وغيرها.
وعلى سبيل المثال، لو نظرنا للتجربة الروائية، فهي إنتاج يتم تصنيفه أوروبيًا على أنه ارتبط بفترة البورجوازية، وكذلك السينما فهي إنتاج أمريكي ارتبط بصعود الطبقة الوسطى واحتلالها لمواقع ثقافية واجتماعية، وفي الحالة السورية وفي ظل الثورة أنتج كم كبير من الأعمال والتي يصح أن نسميها “توثيقية”، وأخذت أشكالًا جديدة كالرواية التسجيلية، والتي تعتقد الوزيرة هدايا أنه سيكون لها دور كبير في سوريا.
تقول هدايا “الفيلم التسجيلي والوثائقي موجودان من قبل، ولكن النكهة السورية الآن ستوجه الفن في سوريا وربما في الثقافة العربية في اتجاه جديد، باتجاه مخاطبة الإنسان بواقعه الحقيقي، وبواقع حياته ومعيشته وواقع معاناته”.