في ذكرى مجزرة الكيماوي.. تفاصيل صغيرة جداً

نوفمبر 17, 2022

منهل عروب

مقالات

02:30 فجراً

أستيقظ ـ كعادتي ـ منتصف الليل. توقظني آلام الإصابات المتعدّدة، ولا دواءَ كافٍ في الحصار الأول للغوطة. أتناول ما تيسّر عسى تُعيدني قليلاً إلى نومي. أنصت إلى سكون لا تقطعه سوى أصوات أقدام في الشارع. شباب تذهب إلى نوبة الحراسة الخاصة بها، وآخرون يرجعون. يمشون على إيقاع شبه موحّد وسط ظلام دامس مقصود، يتجنّبون به القنّاصة.

تصدر بعض الأصوات المتداخلة من اللاسلكي. تتراوح بين الهمس وتقارير مشفّرة عن أوضاع كل جبهة أو نقطة حراسة. يتخلّلها بعض المزاح والضحك، يخفف عن المرابطين ثقل الليل ونوبات الحراسة ورشقات القناص.

02:40

أصوات قذائف معتادة. تتعالى أصوات اللاسلكي قليلاً، ثمّ تتحوّل إلى نوع غير مفهوم بين الرجاء والاستنفار:

ـ اللي عندو مازوت يتوجّه عَ الفرعوني فوراً. اللي عندو بنزين يتوجه عَ الفرعوني فوراً.

“الفرعوني” هو لقب المشفى الميداني الكائن في عين ترما. وهو عبارة عن صالة أفراح سابقة، تم تحويلها على عجل إلى مشفى يفتقر إلى أبسط المعايير الطبية لمصطلح “مشفى”. كان الطلب غريباً نوعاً ما؛ لأن الجميع يحرص على توفير الدعم اللوجستي للمشفى. عند وجود نقص في مادة ما، يتم الاجتماع بالهيئات والفصائل لبحث سبل دعم هذا القطاع الحيوي الذي يحرص الجميع على استمراره!

تعالت نداءات الاستغاثة: ـ اللي عندو مازوت أو بنزين يتوجه ع الفرعوني فوراً. اللي عندو سيارة يتوجه ع الفرعوني فوراً.

غرابة الطلب أتت من أنه لا يوجد قصف كثيف أو هجوم كبير، وبالتالي لا إصابات بأعداد كبيرة. إنها بضع قذائف اخترقت سكون الليل فقط. بدأ القلق يساور الشباب في المقر الذي أوجد فيه. توجه اثنان منهم مع ما لديهم من “بنزين” إلى المشفى في عين ترما.

عادة ما أوجد على الجبهات؛ حيث تذوب الفوارق المناطقية وتختفي الصراعات الإيديولوجية. كل ما يبقى على الجبهة، أحلام صغيرة لشباب ثائر ومودة وتسامح لا متناهٍ. تتحول الخلافات إلى ضحكات. ويروي كلٌّ منهم أحلامه في منزل وزوجة وطفل، ويعلن رغبته في العودة إلى عمله السابق. إلى الصنعة التي تعلّمها. بعد إصابتي، لم أطق المكوث في البلدات، حيث يتصارع الناس على الحياة، وتشتد الخلافات الإيديولوجية، وتتحول إلى حروب معلنة وغير معلنة، وخصومات غير شريفة في الغالب. بدأت أدمن الجلوس مع المرابطين على الجبهات؛ منهم شباب ورجال وكهول لهم أولاد وأحفاد. أستمع إلى أحاديثهم. تدهشني ثقافتهم وسعة اطّلاعهم، رغم تدني مستواهم الدراسي. يؤكّد “جدّو” (أكبر ثائر مقاتل سنّاً في جوبر) أن أميركا لن تتدخل. يروي كثيراً من الأحداث السياسية والاتفاقيات السابقة. يهز رجل آخر رأسه موافقاً، ويستشهد بكتب واتفاقيات للأمم المتحدة وأحداث الثمانينيات. يصمت الجميع وينظرون إلى رجل أربعيني ينتظرون حديثه. يتحدّث ويورد كثيرا من المعلومات والاتفاقيات. أُبدي دهشتي من ثقافة شبابنا. أدرك أن صمت السوريين كل هذه السنوات ليس جهلاً، بل خوفاً.

03:10

تتعالى نداءات الاستغاثة من اللاسلكي. تتحول إلى نوع من الهيستيريا. عبارات غير مفهومة، صراخ متداخل ثم نداء:

ـ اللي عندو أي وسيلة نقل يتوجه عَ الفرعوني فوراً، اللي قادر عَ الحركة يتوجه عَ الفرعوني فوراً!

لم أستطع البقاء. طلبت من صديقي أن نتوجه إلى المشفى. بدأ يرتدي لباسه، لكنه علّق قائلا: قال، مَن يستطيع الحركة، لماذا ستأتي معي؟ لم أُجب.

حملت عكازتيّ وخرجنا. قيادة السيارة في جوبر لها قواعد مرور خاصة بها: ضوء خفيف أثناء القيادة في الحارات الصغيرة، القيادة من دون ضوء في المناطق المكشوفة والتقاطعات، القيادة من دون ضوء بأقصى سرعة أثناء قطع العبارة الواصلة بين الغوطة وجوبر. عند قطع تلك العبارة ذهاباً أو إياباً لا بدّ مِن النطق بالشهادتين، فلا ندري متى يرصدنا راصد الجبل، ويُفجّرنا بقذيفة “فوزديكا” قلّما تخطئ هدفَها. المرور من هذه العبّارة أقسى من إجراء عملية جراحية من دون مخدّر. تُسرع السيارة وتتجاوز الحفر والمطبات عشوائياً. نملك عدداً محددّاً مِن الثواني للمرور بسلام، أو يصطادنا مراقب الجبل. تهتزّ السيارة بشدّة، وتخضّ معها جميع جراحي. آلام مبرحة تخترق كل جرح من الجروح المتناثرة في جسدي. يضحك السائق بملء فمه، ويقول: وجعتك ما…. بتستاهل … ويتابع الضحك.

وصلنا إلى بداية الشارع المؤدي إلى المشفى. إنه مشهد حقيقي من مشاهد يوم القيامة: يتحرك الناس على غير هدىً. منهم من يحمل أطفالاً أو نساء. السيارات أو الدراجات النارية والعادية تتوافد بأناس بلا حراك. آخرون يخرج الزبد من أفواههم. نظر شخص إلينا من بعيد وصرخ: معكن محلّ؟ أي تعو.

كانت صرخته كضربة فأس أيقظتنا من ذهولنا. قال لنا أن نذهب إلى الزينية ونحضر ما تيسر من المصابين. المشكلة أننا لا نستطيع التفريق بين المصاب والمتوفى. الكل يرقد بلا حراك. نزل السائق وبدأ يحضر المصابين وينقلهم إلى المشفى. فوضى عارمة تعمّ الشوارع. صراخ ونحيب. وقفت مستعيناً بعكازاتي أنظر إلى الناس تتحرّك من حولي: صرخات متداخلة، صور أطفال ونساء تتحرك سريعاً أمامي. إنها صور حقيقية وليست من الذاكرة. صور لم أستطع محوها حتى الآن. وجوه غضّة طرية وأصابع صغيرة جميلة تحتك بجسدي المتجمّد. أقف ساكناً مرتجفاً. يأخذ أحد المارة العكازة من يدي بسرعة، وبدأ بضرب أحد الأبواب. أدركتُ أنهم بدؤوا بخلع الأبواب لإنقاذ الناس. مشيت على رجلي المصابة. لم أشعر بالألم المعتاد أو لم أنتبه، لا أدري. دخلت إلى المبنى لأساعد في خلع الأبواب. على باب المبنى تحت الدرج أمهات منحنيات يحضنّ أطفالهنّ، ظهورهنّ إلينا ووجوههنّ إلى الحائط، حمايةً لأطفالهنّ من القذائف. ولكن اليوم الجميع في الموت سواء. لقد تحققت أمنيات الناس اليوم: الموت قطعة واحدة، وليس التناثر إلى أشلاء. بدأ الرجل الذي وقف أيضاً مذهولاً للحظة، بدأ بالبكاء. كان يحمل الجثث ودموعه تنهمر بغزارة على لحيته الكثّة. شعرت بحرارة دموعه أثناء سقوط إحداها على يدي. كانت لاذعة. أدركت معنى أن يبكي الرجل. لا يبكي الرجلُ الهزيمةَ، إنه يبكي الخذلان. اليوم أدركت أننا وحيدون في ساحة موت لا ترحم. وحيدون أمام ظالم لم يعدل يوماً إلا في توزيع الموت المجاني علينا. أسأل عن معنى أن أحمل الكاميرا أو أناشد العالم الذي يفضّل الصمت أو إرسال بضع شاحنات من المساعدات الغذائية. مضت ساعتان كأنهما دهر. لم أعد أستطع الوقوف. قام صديقي بإعادتي إلى المقرّ. بدأت أبكي بصمت: أبكي الخذلان والظلم وهواننا على الناس.

عاد الشاب الذي يقوم بالتصوير، ومعه عدد من المواد لإرسالها للقناة. فظائع حقيقية ستفجع العالم وتدفعه للتحرك ووقف تلك الجرائم. لم أكن أرغب بتحميلها. ما الجدوى، وأنا متأكد أن الأسد لم يكن ليستخدم الكيماوي، لو لم يكن يعلم أنه لن يعاقب؟! ترددت في الضغط على زر التحميل. لطالما آلمني سؤال الناس عن جدوى الإعلام أثناء إعدادي التقارير أو تصوير المواد الفيلمية. كان سؤالهم: هل يمكن أن ينقذنا العالم؟ هل سيصل صوتنا؟ وكان الأطفال يسألونني على طريقتهم: هل سنأكل البسكويت مرة أخرى؟

الآن أشعر أنني كذبت عليهم؛ فلن يهتم لنا العالم، ولن يأكل هؤلاء الأطفال البسكويت مرة أخرى. أهُمُّ بحذف الفيديوهات. ولكن من أجل الضحايا، من أجل عالم أكثر عدالة، من أجل اللحظة التي سنقف فيها أمام الباري عز وجلّ. كان يجب أن أصرخ ما استطعت وأبرأ ذمتي، وأضغط على زر التحميل. فالنصر والتغيير دائماً ما يأتي من التفاصيل الصغيرة … جداً…

المصـــدر

المزيد
من المقالات