في آذار عام 2013 وصلتُ إلى مدينة الميادين على بعد 45 كم شرقيّ مدينة ديرالزور على الضفة اليمنى لنهر الفرات، بصحبة رفاق درب الثورة؛ يوسف وأبو عروة (من أبناء طيبة الإمام شمالي غربي مدينة حماة)، وذلك بعد عامين على انطلاقة الثورة السورية، كنّا قد قضيناها في عاصمة الشمال السوري حلب، التي شاءت الأقدار أنْ نكون طلاباً في جامعتها ضمن كلية العمارة مع بدايات الثورة، لنختار البقاء فيها مشاركين في ثورتها بعيداً عن مدينتِي وبلدتِهما.
ليأذن الله بعد توسُّع عمليات التحرير في سوريا، التي تمكّن فيها الثوار من إخراج معظم الشمال السوري من الشرق إلى الغرب عن سيطرة نظام آل الأسد، بلقائِيَ أهلي في المحافظة الشرقية على بعد 400 كم إلى الشرق من حلب، والتي صُدِمْتُ بتحوّلها من مركز تجاريّ محليّ لمنطقتها، إلى مدينة كبيرة تضم 350 ألف نسمة تقريباً ثلثاها من الوافدين إليها، وسوقاً ضخماً يتم فيه تداول البضائع ليس ضمن الشرق السوري فحسب، بل بين محافظات سوريا على الشريط الغربي ومحافظات العراق في الشرق، ثم لاحقاً أواسط عام 2013 طريقاً آخر -أقلّ تكلفة- للبضائع القادمة من تركيا عبر حدودها مع الشمال السوري باتجاه العراق عبر الميادين، بعد تحرير مدينة الرقة ووصل شمال غرب سوريا بشرقها، سامحةً بانتشار معالم الثراء في المدينة التي تُشكِّل التجارة مورِدها الأساسي.
كانت حالةُ المدينة تلك -على ما فيها من استقرار وحياة آمنة هي غايةُ التحرير- غريبةً علينا، ولم يكن سهلاً التأقلم مع الوضع “الطبيعي” ذاك، بعد عام تقريباً قضَينا معظمه بين كتائب ومجموعات الجيش الحر ضمن معارك تحرير الشمال، ليعيدَنا موعدٌ قطعناه لكتيبة “المهام الخاصة” في المدينة، بتصوير بيان اندماج لتشكيل لواء يتبع الجيش الحر إلى الحال الذي نعرف.
المهام الخاصة
تُعتَبَر كتيبة “المهام الخاصة” التي ينتَسب إليها أخي وبعض أقربائي واحدةً من أوائل مجموعات الجيش الحر في المدينة، حيث تتميّز كتائب البدايات تلك في الميادين بابتعادها عن الصبغة العشائرية، التي باتت الحالة الشائعة لتشكيلات الجيش الحر اللاحقة فيها، فكانت تضمّ بين صفوفها أفراداً من عشائر مختلفة من المدينة، فضلاً عن عدد من المنشقّين عن جيش آل الأسد الذين كانوا يخدمون ضمن المنطقة.
كانت الكتيبة قد اتّخذَت منذ تحرير المدينة من الثانوية الصناعية فيها مقرّاً لها، وهو المكان الذي اتّجهنا إليه لتصوير بيان الاندماج الذي اجتمعَ فيه عدد من كتائب المنطقة لتشكيل لواء اختاروا له اسم “درع الأمة”.
كان الجميع تقريباً قد ارتَصفوا أمام كاميراتنا لتصوير البيان، لكنهم أخبرونا أنّ علينا الانتظار!
لم نفهم كثيراً ما الذي ننتظره؟! حتى دخلَت سيارة إلى المقرّ تراكَض بعض أفراد الكتيبة إليها.
أحدهم فتح الباب.. وآخرٌ أنزل كرسيّاً “مُدَولَباً” من صندوقها، أجلسوا عليه الشخص الذي أنزلوه من السيارة؛ “عبود”، وهو قريبي الذي انشقّ عن جيش النظام مبكّراً مُنخرِطاً ضمن صفوف الجيش الحر في الكتيبة، ومتوجّهاً مع شطرها إلى مدينة ديرالزور التي كانت تدور في أحيائها رحى معارك طاحنة بين الثوار وجيش النظام مع “شبيحته”، حيث تمكّن الأخير من إطباق الحصار على الأحياء المحررة في المدينة بمن فيها من ثوار وبقايا مدنيين، لتصبح الإصابة في تلك الأحياء أسوأ حتى من الاستشهاد!
عبود عند دخوله إلى مقر الكتيبة لتصوير البيان
يروي لنا أحد أفراد الكتيبة الذين عاشوا ذاك الحصار في بدايات النصف الثاني من عام 2012 عن أيامٍ كانت الجروح فيها تُخَاط بخيوط “اللّحف” بسبب فقدان المعدّات الطبية، وهو الذي أصيب بقدمه في تلك الأيام وجلس ينتظر حتى مشَت “الديدان” في جرحه الذي أنتَن، رافضاً نصيحة طبيب محاصر معهم ببترِها، ومُعَلِّقاً آماله بفرج قريب، أما “عبود” فكانت إصابته في عموده الفقري، قريباً من النخاع الشوكي مُتَسبِّبَةً بشلل جزئي لأطرافه السفلى.
كان شَطْر الكتيبة خارج الأحياء المحاصرة يحاول مع عدد من كتائب الريف فتح طريق آخر إلى الأحياء المحاصرة، والذي كان سبيلهم إليه معركة حاجز الحلبية على الضفة اليسرى لنهر الفرات قُبَالة المدينة، وهي المعركة التي أصيب فيها أخي برصاصة اخترقَت صدره قريباً جداً من قلبه كادَت أنْ تقتله.
لم تنجح معركة الحلبية بفك الحصار بعد تمكُّن النظام من استعادته، وكان على الثوار أنْ ينتظروا حتى كانون الثاني \ يناير عام 2013 لفتح طريق إلى المدينة عبر جسر السياسية، أما المُحَاصَرُون فقد جاء فرجهم بعد أن تمكّن أحد ثوار المدينة من اكتشاف طريقٍ يمكن فيه التحرّك خلسةً بين قطعات جيش النظام التي تحاصر المدينة، ليُخرِجُوا عبره المصابين وعدداً من المدنيين المُحاصَرين مشياً على الأقدام، والذين كان من ضمنهم “عبود”.
لم تنسَ الكتيبة تلك الأيام على ما يبدو، فكان ضروريّاً بالنسبة إليهم وجُود عبود في البيان الذي دَعونا لتصويره، فجلس قرب قائد اللواء على كرسيه ذي العجلات، حامِلاً بندقيّته، صِلةَ قرابةٍ ونسبٍ بينه وبين من يقفون حوله، أقوى بكثير من رابط العشيرة والعائلة، في مشهد يضع حدّاً فاصلاً واضحاً بين ما كان في الثورة وما كان قبلها.
لواء درع الأمة في المنطقة الشرقية
دعانا شباب الكتيبة لقضاء ليلتنا معهم في إحدى الغرف الصفّية التي أحالوها مهجعاً للنوم، بعدَ أن فرشوها بـ “اسفنجات وبطانيات”، وزيّنوا جدرانها ببنادق فهمنا لاحقاً أنها لشهدائهم الراحلين، وقريباً من الباب كانت تستند “شاهدة” قبر حُفِر عليها قوله تعالى “ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً”، مع الاسم “محمد عبد القادر قطمة”، وهو أحد أبناء حوران الذين انشقّوا عن جيش النظام في ديرالزور وحملوا السلاح ضمن صفوف الكتيبة، ليستشهد في إحدى معارك التحرير ويُدفَن هناك شرق سوريا بعيداً جداً عن عائلته، وقريباً جداً من عائلةٍ جديدة جعلَت صيحَة اقتحامها في المعارك التالية: “جايينك يا أبو قطمة” نسبةً إليه.
جلسنا في تلك الغرفة التي ضمّت جنوداً مُنشقِّين من درعا وريف دمشق وحمص وحماة، وطلاباً جامعيِّين وأصحاب مصالح ومهن من أبناء محافظة ديرالزور، وزوّاراً طارئين كانوا نحن، نستمع إلى القصص التي يَحتَرِفُ سردَها كلّ من حمَل السلاح في الثورة، عن الشهداء الذين دفنوهم على طريقٍ فُرِضَ عليهم أنْ يسلكوه.. عن الموت الذي ألفُوه وألفَهم.. وعن معارك ملحميّة كان المخرز فيها ندّاً للعين.
وقبل أن يطلع علينا صبح يوم فراتيّ آخر، بدأ عدد من أفراد الكتيبة يَنظُمُون “دحّيّة” حورانيّةً، يبدو أنّ أبناء درعا في الكتيبة قد علّموهم إيّاها، ومنهم تعلّمناها:
“يا حلالي ويا مالي ويا ربعي ردوا عليّا.. حلوة يلي زغردتي يا أم العيون الرضيّة…”
لاحقاً وجدَ عدد من الجنود المُنشَقِّين من المحافظات الأخرى سبيلَهم إلى ديارهم بعد تحريرها، وبقيَت الكتيبة نشطةً على الجبهات المتبقية في المحافظة (مدينة ديرالزور والمطار العسكري)، حتّى ظهر تنظيم داعش وبدأ معركة احتلال المحافظة التي دامَت أكثر من أربعة شهور، لم تتخلّف الكتيبة عنها، وخرجَت مع من خرجوا من المحافظة بعد إتمام التنظيم سيطرته عليها أواسط عام 2014، ليتوزّعوا في أصقاع الأرض، يحملون ذكريات بلاد حرّروها بالدماء وخسروها بالمزيد من الدماء.