آذار جديد يطل، ومنذ 2011 ونحن نحتفي بكل آذار على طريقتنا كثوّار، عرفوا قيمة آذار يوم ذاقوا طعم الحرية في وطنهم، يوم جعلوا الحرية أولى أولياتهم، ويوم وحّدوا مطالبهم وعرفوا أن لا خلاص لهم إلا بالثورة على نظامهم المجرم، فكانت البداية من آذار، في أيامه الخضراء الجميلة كرايته المطعمة بثلاث نجوم حمر، رمز الدم الطاهر الذي انسكب لأجل تحرير الوطن الغالي، بداية تتجدد بتجدد الأعوام، وذكريات تخبرنا عن الثورة كونها التجربة الإنسانية الأعمق والأكثر نبلاً وتأثيراً مما يمكن لإنسان ما أن يمر به في حياته.
كل منتصف آذار من كل عام أكتب معايدة ما للثورة، خروجاً عن وعيي وإرادتي أشعر بأنها كيوم العيد، شئت ذلك أم أبيت، ففيها الفرح بكسر القيد، وتحطيم الصّنم، فيها الفرح بأصوات تتعالى في وجه سياطٍ ترتفع، وأكفّ تعلو في السماء في وجه رصاصٍ حيّ ينتشر، وأقدام تتسابق في السّاحات وخلفها مدرّعات تطارد كل جسمٍ متحرّك، وكلمات حقّ يُصدح بها، تلجم الظّلم وأهله، وتنتشر في الأرض لتنشر عدواها الجميلة، وعبقها الزكي، هي هكذا الحرّيّة كانت ولم تزل ملهمة لأهلها على مرّ الزمن، وكل سنة تأتي تجدد فينا كل صرخة، كل دمعة، كل جرح، وكل ضحكة انتصار، وتجدد الأمل أكثر بأننا سنحصل على حقّنا مادامت حناجرنا تهتف، وقلوبنا تنبض، حبّاً وإرادة وتصميماً على بلوغ النصر وإسقاط النظام.
كل منتصف آذار أتفحص وجه ثورتي المتعب، وأقول لها لا تحزني يا حلوتي، خسرتِ الكثير، ولكن استمرارك معجزة، تعبتِ كثيراً، لكن طاقاتك تتجدد كل يوم، والأطفال الذين عرفوكِ صغاراً كبروا، وباتوا لكِ حرّاساً وأبناءً بررة، وشبابكِ المخلصين لكِ مازالوا في كل ميدانٍ يعملون لأجلك، ويستمدون معنى الحياة منكِ، وينادون لأن تبقي صامدة، فأنتِ الأمل لسورية مهما توالت الأعوام وطال بكِ المقام.
كل منتصف آذار نكتب مراثينا ونتذكر انتصاراتنا، نتذكر وجوه وأسماء الشهداء منذ قطرة الدم الأولى، نبحث عن صورهم في أكفانهم، لتبقى الذاكرة حيّة بقيمة الثمن المدفوع، وينضم إليهم في هذه الذكرى حارس الثورة الساروت، الذي أنشد قبل أن يستشهد للثورة مخاطباً ” تاسع سنة يا غالية، فيها المرار يزيد”، ولم يُغرق في أحزانه بل استدرك يقول لها وكأنه يعرف مسبقاً أنه راحل فيوصيها منشداً: ” سورية ظلي واقفة، رغم الجروح النازفة، لابد يلفي العيد”.
تلك هي سير الشهداء ووصاياهم تلوح، لا تفارقنا لحظة! تماماً كما لا يغيب المعتقلون أبداً عن كل المشاهد والأحداث التي تعبرنا، ونحن إذ نودع الشهداء فنطمئن إلى راحتهم، إلا أن آلامنا تتضاعف ونحن نفكّر بالمعتقلين والمختفين والمغيبين خلف القضبان، النازفين بصمت، الذين يعانون منذ أعوام من القهر والظلم الممتد بلا توقف، نفكّر بسبل الخلاص، ونفكر بمصيرهم، تحترق قلوبنا مع طول المدّة، وندرك تماماً أن خلاصهم لن يكون إلا بسقوط النظام.
تقترن بجميع تلك الصور، صور المدن الميتة، والمفرغة من سكانها، مع صور المهجرين من جميع المدن، والذين لم يكن أمامهم إلا قرار الرحيل، مقابل الاستسلام أو الخنوع، صور يومية أعايشها، وأبطال واقعيون أقابلهم، وأفكر في كم الحب والاعتزاز التي يكنونها للثورة رغم كل ما فقدوه فيها، رغم كل الخسارات التي لحقت بهم على الصعيد الشخصي أو الجماعي، فهم لا يملكون سوى المتابعة، عهدٌ قطعوه ذات يوم، ورسالة نذروا حياتهم لأجلها.
أما المدن وأحوالها هذا العام ، فقد كان العبء على أم الثورة وحاضنتها إدلب، التي لطالما احتوت سورية بكل أهلها في داخلها، وكثيراً ما كنا نعجب، كيف تحتضن محافظة ما وطناً بأسره، ولذلك كان الهجوم عليها أكثر شراسة وضراوة، وكانت المثال المشرف في المقاومة والصّد، وكان ثمن الكرامة غالياً، من شهداء ومهجرين وجرحى، ضريبة مازال الشعب يدفعها يوماً بعد يوم، ولا يحيده ذلك عن مطالبه.
هل يحق لنا أن نقول لثورتنا كل عام وأنتِ بخير؟ بالتأكيد، فنحن نريدها بالخير الذي يجعلها تستمر، وتتجدد، وتنتفض، وتعيد تشكيل نفسها مجدداً بشعبها المقاوم، بإرادتها الحرة، بقدرتها على الاستمرارية وعدم الضعف مهما ازدادت حجم الضغوط، كل عام وأنت ثورة الشعب، كل عام وأنتِ النبض، وأنتِ الحرية والكرامة.