غادرتُ بلدتي “معرتمصرين” إلى إدلب سنة 1980، لكي أقيم فيها، ووقتها أطلق لقمان ديركي طرفته الشهيرة، فقال:
– عندما دخل خطيب بدلة إدلب شعر بصدمة المدينة!
إنها طرفة ذكية، لأن البلدتين كلتاهما ريفيتان، وصغيرتان، ومتشابهتان، إضافة إلى أن المسافة بينهما عشرة كيلومترات لا غير، وخلال إقامتي في إدلب كنت آتي إلى معرتمصرين راكباً البسكليت، أو الموتوسيكل، وفيما بعد السيارة، وصادف مراراً أن آتي وأعود في اليوم الواحد أكثر من مرة.
ولكن الصدمة الحقيقية، الخالية من أية فكاهة، تلقيتها حينما اضطررتُ لمغادرة إدلب، هارباً من الاعتقال، عائداً إلى معرتمصرين بعد 31 سنة بنيت خلالها أسرتي في إدلب، وعمرت بيتي، وكان ذلك في اليوم الثامن من آذار 2012، حيث كانت دبابات الجيش العربي السوري المعفية من مواجهة أعداء الخارج، تنتشر على الطريق المحلق بقصد تطويقها من كل الجهات تمهيداً لاقتحامها، (حصل الاقتحام بعد يومين بالضبط)، وأقمت في معرتمصرين، وصرت أعمل مع الشباب الثائرين، وكانت البلدة آمنة، ولكن نظام الأسد صار يستفقدها كل يومين أو ثلاثة، برشقة من قذائف المدفعية، فأصيب الناس بالذعر، وشرعوا ينزحون في اتجاهات مختلفة.. وقد أخبرتكم في المقالة السابقة كيف توصلنا إلى هدنة مع النظام، وتوقف القصف، وعاد النازحون جميعهم إلى بيوتهم، بل إن معظم الثوار الذين هربوا من القصف في مدنهم وقراهم لجؤوا إليها، وازدهرت البلدة اقتصادياً، وصارت مضرب المثل في الخدمات التي كنا نقدمها للناس، حتى إننا استطعنا أن نؤمن سيولة مالية أودعناها في المصرف الزراعي لأجل حصول أكثر من ألفي متقاعد على رواتبهم التقاعدية شهرياً.
بتاريخ 19 من آب 2012، وقعت الحادثة التي شكلت بالنسبة لي مفترق طرق.
كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة ليلاً، وكنا ساهرين أمام محل شقيقي دريد لبيع إكسسوارات الخليوي، وفجأة رأينا قذيفة ذات ضوء أحمر قادمةً نحونا من جهة الجنوب، فركضنا إلى داخل المحل، واختبأنا وراء الطاولات، وسمعنا صوت سقوطها على بعد أمتار من المكان، مترافقاً مع دوي هائل، ودخان مختلط بالغبار والشظايا، استمر ذلك نحو دقيقة، وبدأ الوضع ينجلي، ورحنا نتفقد خسائرنا، فوجدنا أن شقيقي الأكبر مالك “أبو عبدو” قد أصيب بجروح بسيطة في رقبته، وحينما خرجت إلى الشارع وجدنا أن زجاج سيارتي الخلفي قد انفرط، ونزل حطامه على المقعد، وعرفنا أن أحد الموجودين في الدكان المقابل قد أصيب إصابة أدت إلى خسارته إحدى ساقيه.
ومع أنني رفضت، طيلة الأشهر الـ 18 السابقة، فكرة النزوح، ولكنني، في تلك الليلة، بعدما رأيت الموت بعيني، غيرت رأيي، قررت أن أغادر إلى تركيا.
بيت القصيد الذي أريد أن أتوصل إليه، بعد هذه المقدمة، هو موضوع الشكوك الثورية.. فقبيل سفري بيومين، كنت واقفاً مع أحد أصدقائي في السوق، بالقرب من دكان عبدو الشاكر، وأخبرته بأنني سافرت إلى حلب في اليوم التالي لسقوط القذيفة، ورَكَّبت زجاجاً خلفياً جديداً لسيارتي، والآن أجهز نفسي للمغادرة إلى تركيا، فقال لي مبتسماً:
– منيح. أحسن.
كان جوابه، بالنسبة إلي، مريباً، استفسرت منه، وألححت عليه بالأسئلة، فقال لي:
– بصراحة؟ بعض الثوار بيقولوا إنك من “هيئة التنسيق”.. وأنت بتعرف، سمعة هيئة التنسيق مو كتير كويسة بيناتهم!
الحقيقة أن تَحَلِّيَّ بالعقل، خلال تلك الفترة، لم يكن ليبلغ الكمال، فصحيح أنني في الـ 59 من العمر، وعندي تجارب حياتية لا يستهان بها، إلا أنني، حينما أدخل في قلب المظاهرة، لا أعود أفكر بغير إسقاط النظام والمطالبة بالحرية، إلى آخره.. وأما بالنسبة لهيئة التنسيق، وغيرها من التكتلات التي ظهرت بعد انطلاق الثورة، فحديثها مختلف..
في تلك الأيام البهيجة – والعصيبة في الوقت ذاته – دُعيت، بصفتي معارضاً وثائراً، لحضور أكثر من لقاء ومؤتمر، أولها اللقاء التشاوري للمعارضة الذي عُقد في فندق سمير أميس، وسط دمشق، في 31 من آذار على ما أذكر، (وهو اللقاء الذي أدى إلى تشكيل هيئة التنسيق لاحقاً)، وكنت يومئذ في دمشق، والتقيت، عشية اللقاء مع صديقين، أحدهما روائي كبير، والثاني قاص كبير، وكانا مدعوين، مثلي، للحضور.
روى لنا الصديق القاص حكاية معبرة، قال:
– ذات يوم، كان ثلاثة أدباء سوريين مشهورين، جالسين في مقهى الهافانا، في فترة الظهيرة، وبعد قليل انضم إليهم أديبان آخران دخلا المقهى بالمصادفة، وبعد حوالي نصف ساعة أصبح عدد الجالسين حول الطاولة عشرة. دخلت دورية مخابرات إلى المقهى، والتقى عناصرها بمدير المقهى، وأبلغوه أن وجود عشرة أشخاص حول طاولة واحدة ممنوع، والأفضل أن يتفرقوا، فيجلس كل ثلاثة أو أربعة إلى طاولة!
العبرة التي أرادها صديقنا القاص من هذه القصة هي: (شو عَدَا ما بَدَا) حتى يسمح النظام المخابراتي السافل لمئتي شخص أن يلتقوا في وسط دمشق، ليتشاوروا في أمور الثورة والمعارضة، جهاراً، بوجود الصحفيين ومراسلي الفضائيات العالمية؟ إن النظام، عندما سمح بعقد هذا اللقاء، يريد أن يصورنا، ويبث صور اجتماعنا عبر الأقمار الصناعية، ليقول للعالم إنه نظام ديمقراطي، والثوار المطالبون بالحرية ليسوا على حق!
وبناء على هذه العبرة لم نحضر اللقاء، مع أن معظم الذين حضروه أناس أوادم، ولهم تاريخ مشرف في معاداة النظام، وأقول الآن، نحن الثلاثة كنا متشددين، ويا ليتنا حضرنا.
بعد هذا اللقاء بأيام قليلة جاءتني دعوة من مجموعة أطلقت على نفسها اسم “الطريق الثالث”، زعموا أنهم ليسوا مع النظام ولا مع الثورة، وإنهم يريدون مصلحة البلد. اعتذرت عن الحضور. وفي اليوم ذاته كنت جالساً مع صديقي حمدو صفية عند باب دكانه وحضر أحد الأصدقاء، سلم علينا، جلس، وأعلمنا أنه مدعو لحضور الطريق الثالث. قال: ما رأيكم؟
قلت له إن منظمي هذا اللقاء، وأنا أعرف بعضهم، شبيحة، مخبرون، وأنصحك بالاعتذار عن الحضور. ولكنه لم يسمع النصيحة، حضر، وفيما بعد أبدى ندمه، إذ تأكد من صحة ما أخبرته به.
حكيت هاتين القصتين لصديقي الذي أعلمني أن بعض الثوار يتهمونني بعضوية هيئة التنسيق، وقلت له:
– يبدو أن اجتماع الثورة مع العقل غير ممكن. وعلى كل حال أنا مسافر، وسأحاول أن أقدم للثورة ما أستطيع تقديمه من تركيا، وأتمنى لهذه الثورة أن تنتصر.