حِقَبٌ عدة مرت على سورية، لم تكن كافية لتشكل هوية اجتماعية سياسية مكتملة من جهة ولا حتى هوية مؤسساتية مستقلة داخل الدولة من جهة أخرى، فبعد استقلال سورية عن فرنسا في نيسان سنة 1947، دخلت البلاد مرحلة بناء الدولة ومؤسساتها ومرحلة التعددية والحرية السياسية التي نشطت من خلال تنافس الأحزاب، مثل الحزب الوطني والحزب القومي السوري والحزب الشيوعي وحزب البعث العربي الاشتراكي والإخوان المسلمين الذين تنافسوا في انتخابات برلمانية ورئاسية عدة.
ومن جانب آخر كان الصراع العسكري المدني على السلطة ومؤسسات الدولة ومُقدراتِها والحراك المدني في أًوجهِ، إلى أن استطاع حزب البعث بانقلابه عام 1963 وضع مؤسسات الدولة المدنية و العسكرية في قبضته تدريجياً، وتأطير حراك المجتمع المدني الذي عادة مايكون مراقباً لسياسيات الدولة وحامياً لحقوق فئات المجتمع، ليصبح معززاً لاستبداد الحزب الواحد الحاكم وسبيلاً لقمع الشعب ونهب قوت يومه.
ومع انطلاق ثورة الكرامة عام 2011 خرج السوريون في سبيل حقوقهم وحريتهم دون أن يضطروا إلى مأسسة حراكهم أو إدارته بشكل ممنهج لأن الحراك الشعبي السلمي أو المسلح في دول شرارة الربيع كان وحده كافياً لهروب بن علي وتنحي مبارك ومقتل القذافي وحرق عبد الله صالح، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود معارضة سياسية مستمرة ومنظمة ضد هؤلاء المستبدين ماقبل ثورات الربيع العربي وإن كانت ثانوية أوضعيفة.
ومع طول أمد الثورة السورية وتفعيل المسار السياسي و المدني ليصبح موازياً للحراك الشعبي بسبب محاولات الأسد لتمييع القضية سياسياُ بمساعٍ روسية، كان لابد من ظهور مؤسسات ثورية سورية إعلامية كانت أو سياسية أو إغاثية تحاول أن تكون نواة بديلة عن مؤسسات النظام في حال سقوطه و منافسة له أيضاً في الساحة الاقليمية و الدولية، و لتعوض غياب الدولة في المناطق التي خرجت عن سيطرة الأسد.
مؤسسات في خدمة المستبد
بعد انتزاع الأسد الأب للسلطة من رفاقه البعثيين ثم تسلمه لرئاسة الدولة في 1971، عمل على تغيير بنية مؤسسات الدولة كَكُل، ابتداءً من هيكلية الجيش وولائه و انتهاءً بمؤسسات المجتمع المدني، ففي عام 1980 أصدرت سلطات الأسد قراراً بِحَل نقابات المحامين و الأطباء و أطباء الأسنان و الصيدلة و المهندسين، واعتقلت عدداً كبيراً من منتسبي هذه النقابات، لتقوم لاحقاً بتعيين أعضاء تابعين لحزب البعث ضمن نقابات جديدة بهيكليات مختلفة.
أدى تشابك منظمات المجتمع المدني مع السلطة القائمة إلى تشكل كتلة استبدادية صلبة لقمع المجتمع السوري و إنهاء أية تعددية فكرية أو حزبية، تشمل الأطفال في مراحلهم الدراسية الأولى من خلال تنسبيهم إلى طلائع البعث، مروراُ بطلاب المدارس و الجامعات عبر اتحاد شبيبة الثورة و الاتحاد الوطني لطلبة سورية، حتى الوصول إلى التخصصات و المهن من خلال النقابات الصُوَريّة.
ومع العقد الأول من استلام بشار الأسد السلطة، كان هناك انفتاح مؤقت للعمل المدني تمثَّل بانتشار المنتديات الفكرية وترخيص بعض منظمات المجتمع المدني يما سُمي ” ربيع دمشق ” الذي لم يستمر طويلاً، حيث تم اعتقال أغلب مؤسسي تلك المنتديات و إلغاء ترخيص المنظمات و استبدالهم بمنظمات مجتمع مدني لا تتبع للنظام ظاهرياً و تحمل أسماء رنانة تدل على الانفتاح والتغيير، مثل الأمانة السورية للتنمية التي استولت عليها أسماء الأسد وأصبحت رئيساً لها، و جمعية البستان الخيرية التي يملكها رامي مخلوف والتي نشطت في المجال الإغاثي والتعليمي، والتي شكلت بعد انطلاقة الثورة “ميليشيا جمعية البستان” بهدف تجنيد الشباب برواتب مغرية بُغية قتالهم إلى جانب جيش النظام.
ماضِ ثوري أم خبرة مهنية؟
مع بدايات الثورة، كان النصيب الأكبر لإدارة العديد من المؤسسات الثورية لأشخاص كان لهم سجل معارض لنظام الأسد قبل 2011، وكان لبعضهم تاريخ أيضاً من الاعتقال لسنوات سواء في عهد الأسد الأب أو الابن بسبب حراكهم السياسي أو الحقوقي، حيث كانت ثنائية الاعتقال والتاريخ المعارض هي ضمان مغري لتفادي أية اختراق من قبل نظام الأسد لمؤسسات الثورة التي مازالت في طور الولادة.
وعلى الرغم من تمكن العديد من المؤسسات الثورية من الحفاظ على سرية عملها وحراكها و لكن غياب آليات توظيف الكوادر كان واضحاً، تم الاعتماد على الثقات أو المعارف أو سلسلة الثقات بشكل أساسي من أجل التوظيف، مما أدى إلى تشكل خليط من الإشكاليات سواء على صعيد سياسات العمل أو على صعيد المصداقية في الأداء أمام المجتمع السوري، فانعكست سياسة التوظيف على تفاعل هذه المؤسسات مع المناطق بناء على التركيبة الجغرافية للموظفين أو حتى الأرضية الايدلوجية التي قامت عليها المؤسسة بناء على مؤسسيها و مدرائها، كما ظهر الأداء الهزيل أثناء التفاعل مع المؤسسات الدولية والاقليمية، ناهيك عن حالات الانفصام عن الواقع التي ظهرت في مواقف مؤسسات ثورية من أحداث كانت قد تأسست بالأصل من أجلها.
الثقة – الثورية – المهنية، الثالوث المُغيَّب.
60 عاماً من تغييب المواطن السوري عن العمل المدني الحقيقي و مؤسساته في سورية، وفقدان عامل الثقة بين أبناء الشعب بسبب سياسة الأسد القائمة على الدولة الاستخباراتية، حيث اعتمدت أجهزة المخابرات على تجنيد مخبرين محليين لاتقتصر مهمتهم فقط على التقارير المتعلقة بأمن الدولة بل أيضاً لتفنيد السلوكيات و الممارسات الشخصية للمواطنين مثل ارتياد المساجد أو حتى تسجيل الأحاديث ضمن العائلة الواحدة، هذه العوامل وغيرها كانت عقبة أمام بناء الثقة المتبادلة بين المنظمات الثورية السورية والمجتمع السوري، حيث كان عامل الشك والريبة هو الأساس في تلك العلاقة وكل مؤسسة هي غير صالحة وفاسدة حتى تُثبِت العكس.
ومع انتشار المؤسسات السورية في مجتمع يحمل ترسُبات من عدم الخبرة المؤسساتية و نقص الثقة في العمل الجماعي، كان أداء وسياسات فئة من المؤسسات الثورية عامل إضافي لغياب الثقة، حيث غابت في بعضها الشفافية و انتشرت عنها حالات من الاختلاس أو هدر الأموال.
لم تكن الثقة المُغيبة هي ثقة مالية فقط، بل حتى ثقة في مدى ولاء هذه المؤسسات للثورة مقارنة بولائها لايدلوجيات القائمين عليها أو حتى مدى إيمانها بفكرة الثورة، حيث بعض موظفين المنظمات مازالوا يقضون عطلهم السنوية و إجازاتهم في مناطق النظام، و بعضهم أصلاُ ترك عمله و عاد إلى مناطق النظام، وهذه الحالات تفتح التساؤلات عن ماهيَّة السياسيات المتبعة في مؤسسات الثورة لقبول الأشخاص والموظفين فيها.
مؤسساتٌ تحمل عبئ غياب الدولة
عادة ماتكون مؤسسات المجتمع المدني في الدول الديمقراطية و المستقرة لتحقيق مصالح المواطنين وحماية حقوقهم وإقامة مشاريع توعوية لرفع كفاءاتهم، لكن الوضع السوري كان مختلفاً، ففي ظل غياب الدولة التي تقدم الخدمات للمواطنين مثل تمهيد الطرقات وبناء المساكن وتوفير المياه والكهرباء و الخدمات الصحية، كان هذا العبئ على عاتق المؤسسات السورية التي اهتمت بهذه الخدمات، فبالإضافة إلى عدم وجود خبرة كافية لكوادر هذه المؤسسات بالأمور الخدمية، كان هناك احتياج مالي ضخم لتأمين أساسيات المعيشة و البنية التحتية للأماكن التي تنشط بها بالتزامن مع غياب دعم الدول الحقيقي لإعادة تأهيل هذه المناطق.
و على الرغم من كل المعوقات المالية وغيرها، استطاعت الكثير من المؤسسات الثورية السورية أن تُقدم نماذج خدمية ناجحة طبياً وتعليمياً ومؤسساتياً قياساُ بِقُصر عمر التجربة السورية في العمل المدني و المؤسساتي، و المتغيرات الجغرافية و السياسية و التمويلية.
الثورات الحقيقية .. تؤهل أبناءها
على مدى سنين الثورة، عشرات آلاف الشباب فقدوا جامعاتهم وأعمالهم إما بسبب التهجير أوالاعتقال، وأضحوا بلافرص عمل أو تعليم، وكثير من هؤلاء يتحقق فيهم عامل الثقة الأمنية و الثورية وينقص بعضهم الكفاءة والمهنية المؤسساتية، تلك الكفاءة التي يجب تدريبهم عليها وإعادة دمجهم في المؤسسات السورية الثورية واعتبار تأييدهم للثورة و تضحيتهم في سبيلها هو عامل تزكية لا عامل محدد وحاسم في استلام الوظائف و المناصب وتعيين الكوادر.
وفي كل الحالات تبقى المؤسسات الثورية السورية أمام واجب مزدوج اتجاه المجتمع السوري، حيث يتوجب عليها رفع كفاءة كوادرها لتتمكن من صنع مساحة الاشتباك مع مؤسسات النظام التي مازالت حتى هذه اللحظة تملك حراكاً و تأثيراً في المنظمات الدولية مثل الاتحاد الوطني لطلبة سورية ومؤسسة بسمة أمل التابعة لأسماء الأسد، كما يجب أن تُعزز مبدأ الشفافية أمام المجتمع لتعزز من ثقته بها، و ذلك عبر سياسيات واضحة للتوظيف والتوثيق المالي المتعلق بها.
فتواجد ثنائية المهنية والثورية في الكوادر هو مايغيب عن كثير من مؤسساتنا الثورية أوالمعارضة، فَعِند غياب المهنية من الطبيعي أن تجد مجموعة أشخاص صادقين ومخلصين و لكن لم يستطيعوا تحقيق أهداف مؤسساتهم على صعيد الأهداف أو على صعيد اهدار الأموال، وفي حالة غياب انتماء الموظفين للثورة و إيمانهم بهاـ فمن الطبيعي أن أتجد كوادر لدى مؤسسات ثورية ومعارضة لامشكلة عندهم مع النظام أو رموزه ومؤيديه من الفنانين.
وختاماَ، إن المجتمع السوري بمؤسساته وأفراده يصنع تجربته وخبراته التي لم يمارسها من قبل، ولكن ماكان مقبولاً من أخطاء وعثرات في بدايات 2011 لم يعد مستساغاً ومقبولاً بعد عشر سنوات من عمر الثورة، وماكان يعتبر قلة نضج وخبرة في البدايات أصبح كارثياً بعد أن يُكرر بمنهجيات واضحة ومتجاهلة لمطالبات المحاسبة و المسائلة، فالأخطاء تكرارها يصبح خيانة، و التجاوزات تراكمها عمالة.