عقدٌ من الصراع، وانهيار شامل لكل جوانب الحياة، هذا هو واقع الحال في سورية اليوم، ويحاول السوريون الذين تضيق وتتقلص أمامهم السّبل أكثر فأكثر، بكل الوسائل، مواجهة الكارثة المعيشية التي يعانونها، لكن الفرص اليسيرة أو المشروعة أصبحت نادرة الوجود في خياراتهم، ونسب المجبرين منهم على اتباع سُبُلٍ، تصل إلى درجات قصوى من الشقاء النفسي أو الجسدي أو من الإهانة للقيم والمعايير الإنسانية، تتزايد بشكل حاد يومًا بعد يوم.
كل شيء، بالمعنى الحرفي والمجازي، أصبح اليوم في سورية قابلًا للبيع، حتى الإنسان والوطن أصبحا سلعة في بازارات المصالح المسعورة الممتدة من الداخل إلى الجوار وإلى الساحة العالمية، والسوريون بدورهم في مواجهتهم مع الأزمة المعيشية المستفحلة، التي يغيب عنها أدنى حدود التكافؤ، بات عليهم -شاؤوا أم أبوا- أن يخضعوا لمعايير هذا البازار الوحشي، وصار عليهم في كثير من الأحوال أن يبيعوا ما كان بيعُه من قبل مستحيلًا حتى في الخيال!
فماذا يفعل السوريون من أجل البقاء في خضم الأزمة الخانقة؟ وماذا يبيعون عندما لا يكون لديهم سبيل إلا البيع؟ وهل تبقى لديهم ما يُباع؟ هذا ما ستناوله هذه الدراسة!
1-الانهيار المعيشي في سورية الراهنة في نظرة عامة سريعة:
وفقًا لبيانات “برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة، في أواسط شباط/ فبراير من العام الحالي (2021)، فقد ازداد عدد السوريين الذين باتوا يعانون حالة انعدام الأمن الغذائي 4.5 مليون شخص، خلال عام واحد فقط، وبلغ 12.4 مليون شخص، أي ما يعادل حوالي من 60% من مجموع السكان، وأفادت تلك البيانات بأن أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء سورية، خلال العام الماضي، قد ارتفعت بنسبة 236%، وبذلك بلغت تكلفة الأغذية الأساسية اللازمة لإطعام أسرة واحدة لمدة شهر، من الخبز والأرز والعدس والزيت والسكر، حوالي 120 ألف ليرة سورية، وهذا يعادل تقريبًا ضعف متوسط الراتب الحالي في القطاع العام في سورية([1])، وفي هذا الشأن، يقول شون أوبريان، ممثل برنامج الأغذية العالمي ومديره القطري في سورية: «لم يكن الوضع يومًا أسوأ من ذلك. فبعد مرور عشر سنوات على النزاع، استنفدت الأسر السورية مدخراتها، وأصبحت تواجه أزمة اقتصادية متصاعدة»، ويضيف أوبريان: «ومما ينذر بالخطر أن تكون الوجبة البسيطة بعيدة عن متناول الأسر، في جميع أنحاء سورية، وتظهر هذه البيانات الحديثة أن المساعدات الإنسانية تمثل الفارق الوحيد بين وضع وجبة على الطاولة، والذهاب للنوم من دون عشاء. لم يسبق أن كان الدعم الغذائي بهذه الأهمية الحرجة»([2]).
ووفقًا “لتقرير الأمن الغذائي في سورية لعام 2019″، الذي أنجزه “المركز السوري لبحوث السياسات”، بالتعاون مع “الجامعة الأميركية في بيروت”؛ أصبح أكثر من 93% من السوريين في حالة فقر وحرمان، ويعيش حوالي 60% منهم في حالة فقر مدقع، ووفقًا “للمكتب المركزي للإحصاء” في نهاية عام 2020، صارت الأسرة السورية المؤلفة من خمسة أشخاص، بحاجة إلى 732 ألف ليرة شهريًا، لتغطية حاجات الاستهلاك الأساسية، وبذلك يتضاعف الرقم بنسبة 192% خلال عام([3]).
ما تقدّم من معطيات يسلّط بعض الضوء فقط عن معاناة السوريين، وهو يدلّ على مدى الحالة المأساوية وضخامة الكارثة المعيشية التي بات يعانيها السوريون، وهي كارثة تشمل كل جوانب حياتهم، من الغذاء إلى اللباس والسكن والنقل ومصاريف تعليم الأولاد وسوى ذلك، والأسوأ بين ذلك هو تكاليف العلاج التي صارت بدورها من أخطر الأعباء على السوريين!
ولمواجهة هذه الكارثة المعيشية التي لم يكفِ فيها تقليص النفقات إلى أقصى الحدود الممكنة، بدأ السوريون في البداية بإنفاق مدخراتهم، وعندما نفدت هذه المدخرات (في حال وجودها) صار عليهم أن يبيعوا كل ما يمكنهم بيعه، وامتد البيع إلى أكثر الأشياء ضرورة، ووصل إلى أشد الأمور حساسية، كما سنرى في ما يلي من فقرات.
2– إنفاق المدخرات:
أول خطوة لجأ إليها السوريون، لمواجهة التدهور المعيشي السريع والمتنامي، كانت بيع ما لديهم من مدخرات (إن وجدت)، وتضم هذه المدخرات المعادن الثمينة والعملات الصعبة أو مبالغ مدخرة بالليرة السورية أو بعض الممتلكات الاحتياطية، وتختلف بالطبع، بين أسرة وأخرى، ونظرًا لأن الفقر في سورية حتى قبل عام 2011 كان مرتفع النسبة، فأكثرية السوريين، إن كان لديها شيء من هذا أو ذاك، فقد كان من القلة بحيث لا يمكن أن يعوّل عليه في دعم أوضاعهم المعيشية حتى لوقت قصير، وقلة منهم من كان لديه احتياطي ادخاري كاف ليصنع بعضًا من الفرق، فأكثريتهم كانت بالكاد تستطيع تأمين مصاريف يومها، ومعظمهم كان يرزح تحت ثقل القروض الشخصية أو السكنية أو سواها، لتأمين سكنه أو غيره من ضرورات الحياة.
وكما رأينا أعلاه، في كلام شون أوبريان، فقد “استنفدت الأسر السورية مدخراتها، وأصبحت تواجه أزمة اقتصادية متصاعدة”([4])، وعلى الرغم من أن مجرى هذه الأمور حدث بأشكال مختلفة في الأسر المختلفة، فإنه -كما سلف القول- حدث سريعًا، بالنسبة إلى معظم الأسر السورية التي لم تكن قبل بداية النزاع قادرة على تأمين الضروريات، فما بالك بالادخار، وهكذا بات على السوريين اللجوء إلى أساليب أخرى، وهي أساليب لا تتباين إلا في حدة درجات سوءها غالبًا.
3- بيع الممتلكات:
عندما لم يكن هناك مدخرات، أو لم يبق منها شيء، في حال وجد منها شيء، صار السوريون مرغمين على بيع ممتلكاتهم، إن كان لديهم ممتلكات، وكثيرون منهم لم يكن لديهم ممتلكات، أو لم يكن لديهم منها الشيء الكثير، حتى الطبقة المتوسطة التي تقلّصت كثيرًا بسبب السياسات الاقتصادية الفاسدة، التي نمّت البرجوازية الطفلية وخدمت مصلحتها بشكل رئيس قبل عام 2011، وجدت نفسها هي الأخرى في وضع اقتصادي غير آمن.. وصار عليها، في كثير من الأحيان، أن تبيع ممتلكاتها بعدما أنفقت مدخراتها.
وهكذا، لم يجد كثير من السوريين، في كثير من الأحيان، إلا ما لديهم من أثاث ليبيعونه من أجل تأمين بعض المصاريف، وهم حتى في هذا أصبحوا يتعرضون للاستغلال من قبل التجار الجشعين الذين يستغلون حاجتهم، فيدفعون القليل مقابل الأثاث المعروض للبيع.
وبهذا الشأن، تقول الكاتبة السورية هيام كرم: «الموظفون السوريون يبيعون أثاث بيوتهم، كي يحتفظوا بكراماتهم، في الوقت الذي يبيع فيه المسؤولون السوريون كراماتهم، لِيحتفظوا بأثاث بيوتهم ومكاتبهم؟!»([5]).
وبالتأكيد، ليس الموظفون، وهم صاروا من أكثر الشرائح بؤسًا في المجتمع السوري وحدهم من يفعلون ذلك، فقد شملت الانعكاسات الحادة للصراع، على مدى عقد من الزمن، كلّ شرائح المجتمع السوري، وإن اختلفت درجات المعاناة بسببها.
وبالطبع، لم يقتصر الأمر على بيع الآثاث وحده، فكثيرون اضطروا إلى بيع منازلهم، وسواهم باعوا سياراتهم أو عقاراتهم، وكثيرون باعوا كل شيء كان لديهم، وامتطوا “قوارب الموت” في مغامرة اللجوء المجهولة المصير مخاطرين بكل شيء، ليهربُوا من جحيم واقع مأساوي في بلدهم الذي لا أمل فيه بأي تحسن حقيقي في المستقبل المنظور، بل على العكس.
4- بيع الأصول الإنتاجية:
في أحيان كثيرة، لم يُسعف السوريين لا إنفاق المدخرات، ولا بيع الأثاث أو الممتلكات الخدمية أو الاحتياطية -إن وُجدت- فصار عليهم أن يذهبوا إلى ما هو أشدّ قسوة من ذلك، وهو بيع مصادر رزقهم نفسها، إما لأن هذه المصادر لم تعد قادرة على تأمين نفقات معيشتهم بسبب التدهور الاقتصادي الحاد، أو في الحالة الأسوأ لأن التدهور المعيشي لم يُبق لديهم شيئًا آخر يُباع سواها، وهكذا اضطر كثيرون إلى بيع حقولهم التي كانوا يزرعونها، أو مواشيهم التي كانوا يقتنونها، أو ورشاتهم الخاصة التي كانوا يعلمون فيها، أو سياراتهم العامة التي كانوا يعملون عليها، أو محلاتهم التي كانوا يستثمرونها، أو بيوتهم التي كانوا يؤجرونها، وهكذا دواليك…
وبخصوص هذا، يقول شون أوبريان، في تقرير “برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة” الآنف الذكر: «أفاد الآباء والأمهات في الوقت الحالي بأنهم أُجبروا على اتخاذ قرارات يائسة للحفاظ على حياتهم، فأصبحوا يأكلون أقلّ حتى يتمكنوا من إطعام أطفالهم، أو أصبحوا يلجؤون إلى الاستدانة أو يبيعون أصولهم ومواشيهم لإدرار الدخل»([6]).
5- بيع الممنوعات:
عندما لا يكون هناك مدخرات لتنفق أو مقتنيات أو ممتلكات لتباع، أو عندما لا يبقى منها شيء؛ لا يجد كثيرون من حلٍّ أمامهم سوى العمل في بيع الممنوعات، بدءًا من الأمور البسيطة كبيع السجائر المهربة أو بيع المواد المعيشية المحتكرة أو المسروقة من مخصصات الشعب، بشكل أو بآخر، كالخبز والمحروقات مثلًا، وصولًا إلى بيع المخدرات والسلاح.
وفي الآونة الأخيرة، انتشرت هذه الأعمال، ونمت تجارتا المخدرات والسلاح، بسبب الأعمال الحربية والتدهور المعيشي وقلة فرص الإنتاج والفلتان الأمني، ففضلًا عن الطلب على السلاح، من قبل الجماعات المسلحة وعصابات الجريمة المنظمة مثلًا، صار كثير من عامة الناس في أوقات كثيرة يسعون، ولو بشق الأنفس، لتأمين قطعة سلاح من أجل الحماية الذاتية لا أكثر، وبالطبع، فقد استغل تجار الأزمات هذا الوضع، وأصبحت تجارة السلاح من مصادر الربح الكبيرة التي يعملون فيها، ويستغلون الفقراء والمعوزين الكثر، فيجندون قسمًا منهم في عملياتها، وشيء مماثل يمكن قوله عن تجارة المخدرات، التي يتم فيها بيع بعض المخدرات في الداخل السوري، أو تستخدم فيها الأراضي السورية غالبًا، كمناطق إنتاج للتصدير الخارجي أو العبور إلى دول الجوار وبقية دول المنطقة وحتى أوروبا.
تكثر المعطيات والتقارير التي تتحدث عن تفشي إنتاج وتجارة المخدرات في سورية، ولا سيما مادتي الكبتاغون والحشيش، وتوجه الاتهامات فيها غالبًا إلى شبكات مرتبطة بالنظام أو بجماعات مسلحة أخرى، حيث أصبحت هذه التجارة مصدرًا رئيسًا من مصادر التمويل لكلا الفريقين، في ظروف الانهيار الاقتصادي الذي تعانيه البلاد بعد عقد من الصراع المدمر.
ووفقًا لشبكة “دويتشه فيلله” (DW) الإخبارية، فقد أصدر “مركز التحليل والبحوث العملياتية” (COAR) البحثي، في الأسبوع الأول من أيار/ مايو 2021، تقريرًا يسلط الضوء على تجارة الكبتاغون والحشيش في سورية، وقال التقرير إنّ “سورية أصبحت دولة مخدرات، لنوعين رئيسين يثيران القلق هما الحشيش والكبتاغون. وأصبحت سورية مركزًا عالميًا لإنتاج الكبتاغون، حيث يتم الآن تصنيعه وتطويره تقنيًا بمعدل أكبر مما مضى”، وأضاف التقرير: “في عام 2020، وصلت قيمة صادرات سورية السوقية من الكبتاغون إلى ما لا يقل عن 3.46 مليار دولار”، وفي الوقت نفسه تقريبًا، كشفت صحيفة “الغارديان” البريطانية، في تقرير لها صدر في 7 أيار/ مايو 2021، كيف تحولت سورية إلى دولة مخدرات، عبر إنتاج مخدر الكبتاغون([7]).
وبدورها كانت أيضا قناة (بي بي سي) قد نشرت عبر تقرير تلفزيوني لها، في 21 كانون الأول/ ديسمبر 2020، نقلًا عن مصادر معنية بإتلاف المخدرات في إيطاليا، أن وزن حبوب “الكبتاغون” التي صودرت في إيطاليا، وجاءت إليها عبر ليبيا قادمة من سورية، قد بلغ 14 طنًا تقريبًا، وبلغت قيمتها حوالي مليار يورو([8]).
أما في ما يتعلق بانتشار السلاح في سورية، فقد قالت منظمة “مسح الأسلحة الخفيفة” ( Small Arms Survey) التي تعمل في “المعهد العالي للدراسات الدولية والتنموية” في جنيف بسويسرا، والمعنية بانتشار الأسلحة بين المدنيين، في تقرير لها عام 2020، إن سورية تحتل المرتبة 89 عالميًا، بمعدل قدره 8.2 قطعة سلاح لكل 100 شخص([9])، لكن هذا الرقم -وفقًا لمراقبين ميدانين- لا يعكس حقيقة الحال([10])، وقد أصبحت تجارة السلاح رائجة إلى درجة أنها صارت تسوّق عبر شبكات التواصل الاجتماعي، كالفيسبوك والواتساب، وعن هذا يقول الكاتب السوري كمال شاهين: «كان التحول الأبرز في هذه السوق النشطة استخدامها منصات التواصل الاجتماعي المختلفة للوصول إلى عملاء جدد»([11])، كما يقول موقع سناك سوري: «المجموعات التجارية على الفيسبوك تحولت إلى سوق بيع افتراضي، لكنها لم تعد تبيع الغسالات والبرادات والثياب المستعملة، فبحسب ما رصد سناك سوري، فإن تلك المجموعات تحولت إلى سوق سلاح أمام مرأى ومسمع الجميع دون التدخل لوضع حد لهذا الأمر»([12]).
ومن المفارقات أن لبنان غدا، مع بداية عسكرة الانتفاضة السورية، مصدرًا رئيسًا من مصادر تهريب السلاح إلى سورية، ثم انقلبت العملية في الآونة الأخيرة، بسبب الأزمة المعيشية الخانقة التي يعانيها السوريون، الذين صاروا بسببها يبيعون الأسلحة (التي سبق أن اشتروها بأسعار مرتفعة لأغراض شخصية)، بأسعار منخفضة، وتقوم شبكات تجارة السلاح المحترفة ببيعها في لبنان، ويساعدها في ذلك حالة الفلتان الأمني في سورية والاضطرابات السياسية والاجتماعية في لبنان، وحالة عدم ضبط الحدود بين البلدين([13])([14]).
6- بيع الأعضاء:
أصبح بيع الأعضاء الجسدية الذاتية هو الآخر إحدى الوسائل الاضطرارية التي يُرغم السوريون عليها لتأمين بعض الدخل، بعد أن تنسدّ في وجوههم كلّ السبل الأخرى، إما من أجل تأمين مصاريف مفاجئة كعلاج حالة مرضية خطيرة طارئة وإما من أجل تأمين ضرورات المعيشة الاعتيادية نفسها، ولم يعد الأمر يقتصر على رؤية الإعلانات التي تطلب متبرعين، كما كان الأمر سابقًا، إذ لم يكن من النادر رؤية إعلانات تطلب متبرعين بالكلى مثلًا، بل صارت تظهر إعلانات يُبدي فيها مواطنون استعدادهم للتبرع بأعضائهم الخاصة، وبالطبع فمصطلح “تبرّع” هو الصيغة الأدبية والأخلاقية المقبولة لما هو في حقيقته بيع لأعضاء الجسد، ولكن مصطلح “بيع” يبدو في هذه الحالة كريهًا ومعيبًا، لذا لا يُستخدم علنًا ويتم تلطيفه شكليًا بكلمة “تبرّع”.
هذا الأمر لم يعد في سورية الراهنة مجرد عمليات محلية محدودة، إذ تشير المعطيات إلى تحوّل تجارة الأعضاء البشرية إلى تجارة ناشطة فيها، وفي هذا الشأن، تقول الكاتبة هيام كرم: «صار مألوفًا في الآونة الأخيرة أن تكثر في شوارع دمشق المكتظة بالمارة ملصقات على الجدران تحوي إعلاناتٍ من قبيل “مريض يحتاج متبرعًا بكلية زمرة دم A+ “، مع وضع أرقام هواتف علنية للتواصل، أو إعلاناتٍ لمواطنين يُبدون استعدادهم للتبرّع بأعضائهم. هذه الوفرة في الإعلانات تتجاوز الحاجة الطبيعية للتبرع بالكلى، لتصل إلى مستوًى آخر يتعلق برواج تجارة الأعضاء في سورية»([15])، وما يحدث في دمشق ينطبق أيضًا على سواها من المدن السورية الأخرى.
وفي أحيان كثيرة، يتم انتزاع الأعضاء عنوة عبر عمليات اختطاف مخططة، ولا سيما اختطاف الأطفال، وتقوم بها عصابات منظمة في كل مناطق البلاد، ووفقًا لهيئة الطب الشرعي في مدينة حلب -مثلًا- فقد تم توثيق 18 ألف حالة سرقة أعضاء بشرية في سورية، خلال الفترة بين عامي2011 و2016([16]).
ولا يقتصر الأمر فقط على بيع الكلى، حيث تباع أيضًا قرنيّات العين هي الأخرى، ولا ينحصر الأمر في المناطق التي تخضع لسيطرة النظام أو الفصائل المسلحة المعارضة، بل يتعداها أيضًا إلى مخيمات اللجوء في الدول المجاورة، وتفيد المعطيات أن الكلية مثلًا تُباع في لبنان بثلاثة آلاف، وفي العراق بألف دولار، أما القرنية فتباع في بعض الأحيان بـ 7500 دولار([17])، وهكذا “أصبح قدر السوري أن يأكل من لحمه ودمه”، كما تقول هيام كرم([18]).
7- بيع الشرف:
لبيع الشرف أساليب كثيرة، وهي تمتد من المساهمة في بيع المنتجات الفاسدة والمشاركة في احتكار المواد المعيشية الأساسية، كالخبز وكالمحروقات مثلًا، إلى التشبيح المأجور والجريمة المنظمة حتى الدعارة، وهذه كلها باتت من الأمور التي بات على أعداد متزايدة من السوريين أن يمتهنوها، إن لم يكن طوعًا، فرغمًا عنهم، وهذي هي الحال في أكثرية الحالات.
من الشائع الآن رؤية بائعين يبيعون، في شوارع العديد من المدن أو على جوانب الطرق العامة، المازوت والبنزين بأسعار تبلغ أحيانًا أضعاف سعره الرسمي، وذلك بسبب النقص الحاد في هاتين المادتين، حتى الخبز نفسه أصبح في وضع مشابه، فبسبب نقص المادة باتت الربطة تباع أحيانًا في السوق السوداء في بعض المناطق بخمسة أو عشرة أضعاف سعرها الرسمي في الأفران، وبالطبع، يقتصر دور بائعي الشوارع، وهم عادة من عامة الناس، على التوزيع فقط، أما عمليات “الاستحواذ اللصوصي” على هذه المواد، فيقوم بها عادة مسؤولون أو نافذون، لديهم النفوذ ولا يخشون أي محاسبة، ولا سيما مع حالة الفساد والفلتان الحكومي المستشرية.
أما التشبيح فقد أصبح بدوره “مهنة”، وهذا ليس جديدًا، فهو كان مهنة الموتور والمتعصب والانتهازي والمزاود والمنافق ومن شابههم سابقًا، ولكن تفاقم الأزمة المعيشية وسّع هذه الدائرة، التي بات يدخلها اليوم مزيد من المعوزين راضين في ذلك ببعض الفتات الذي تلقيه لهم السلطة مقابله.
أما الجريمة المنظمة، فتشمل طيفًا واسعًا من أنواع الجرائم التي تقوم بها عصابات محترفة، ويدخل في عدادها الخطف وتجارة الأعضاء البشرية والسطو والسرقة وتجارة المخدرات والسلاح وأعمال الدعارة وسواها، ووفقا لـ “مؤشر الجريمة العالمي” الذي يُعِدّه موقع نومبيو (Numbeo Crime Index) ويرصد مؤشرات الجريمة حول العالم، فقد جاءت سورية في المرتبة الأولى عربيًا والتاسعة عالميًا، بارتفاع معدلات الجريمة عام 2021، حيث حصلت على مؤشر جريمة هو 68.09 ومؤشر سلامة هو 31.91([19])، وقد حلّت مدينة دمشق في عام 2021 في المرتبة الثانية في آسيا، بعد مدينة كابول الأفغانية، في ارتفاع معدل الجريمة بأصنافها المختلفة([20]).
وكذلك ارتفعت نسبة ظاهرة ممارسة البغاء، بسبب التدهور المعيشي والفلتان الأمني، وصارت الكثيرات من النساء، اللاتي لم يكن في أخلاقهنّ أدنى عيب قبل الكارثة، مرغمات على هذا العمل الفظيع، إما بسبب فقدان المعيل أو إصابته، أو بسبب التشرد والنزوح، أو حتى بسبب الخداع والاستغلال والإيقاع بهن، من قبل مافيات، وفي هذا الشأن، يقول المرصد السوري لحقوق الإنسان: «رصد نشطاء المرصد السوري انتشار “بيوت الدعارة” بشكل كبير، في معظم مناطق سيطرة النظام السوري، وبشكل متزايد في العاصمة دمشق وضمن أماكن انتشار الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني، وذلك في ظل الانحلال الأخلاقي والفقر»([21])، وتفيد بعض المعطيات أن التسعيرة المتعارف عليها في بعض بيوت الدعارة للساعة هي “بين خمسة عشر ومئة ألف ليرة سورية”([22]).
من ناحية أخرى، تتوفر معطيات كافية تشير إلى ممارسة الابتزاز الجنسي، في بعض مراكز توزيع المساعدات الإنسانية داخل سورية، من قِبل بعض الرجال المحليين الذين يوزعون المساعدات الإنسانية التي تقدّمها المنظمات الدولية، وهذا ما أكدته (بي بي سي) التي أفادت بأن صندوق الأمم المتحدة للسكان أكّد في تقرير له عام 2017 وجود عمليات مقايضة للمساعدات الإنسانية، مقابل الجنس، في جنوب سورية([23]).
لكن ظاهرة البغاء لا تقتصر على مناطق سيطرة النظام وحدها، فكثيرًا ما يتم استغلال النازحات جنسيًا في الدول المجاورة، وفي مخيمات اللجوء نفسها، فقد نشرت وكالة “أسوشيتد برس” الأميركية، عام 2013، تقريرًا تحدثت فيه عن لجوء بعض السوريات إلى ممارسة بيع الجسد، في مخيم الزعتري في الأردن لأسباب مختلفة([24])، وهناك معطيات عن حالات مماثلة في لبنان، حيث أشارت الكاتبة باسكال بطرس -مثلًا- إلى أن النازحات السوريات يعانين من أشكال عنف شتى والزواج ضدّ الإرادة والاتجار بهنّ…”([25])! وتفيد المعطيات بأن لاجئات سوريات كثيرات في تركيا يتعرضن للتحرش أو يضطررن إلى الزواج المبكر([26]).
8- بيع النفس:
شكل آخر من أشكال البيع الخطيرة التي باتت تنشر في سورية هو “بيع النفس”، عن طريق العمل المسلّح المأجور، وقد ظهر هذا الأمر في بدايته في بعض مواقع سيطرة بعض الجماعات المسلحة المحسوبة على المعارضة، حيث وجد أبناء المناطق الخاضعة لسيطرة هذه الجماعات، ومنهم قاصرون تحت السن القانوني، أنه من الأفضل لهم التطوع المأجور لصالح هذه الجماعات والمساهمة في أعمالها العسكرية أو الخدمية، بدلًا من عمل السخرة التي كانت تفرضه عليهم هذه الجماعات عنوة، ولا سيما أن كثيرًا منهم وجد في ذلك فرصة لجني بعض المال لينفقه على نفسه أو يساعد به أسرته في ظروف التدهور الاقتصادي التي تسبب بها الصراع، وقد امتد هذا الأمر لاحقًا لتمارسه أيضًا جماعات مسلحة موالية للنظام بدورها.
وتوسّع الأمر في نطاقه وشكله، بسبب التدهور المعيشي، وامتد حتى إلى مناطق لم تبلغها العمليات الحربية، ولكن بلغتها بالطبع آثار الصراع المعيشية الحادة، فصار مثل هذا التجنيد يتمّ بإدارة دول أطراف في الصراع السوري، حيث بات يتم تجنيد السوريين لإرسالهم إلى دول أخرى وتعرض العديد من هؤلاء المقاتلين للخداع والاحتيال من قبل الأطراف التي قامت بتجنيدهم، وتمت سرقة أجور بعضهم، ولم تقدم التعويضات الموعودة لعائلاتهم عند إصابتهم أو مقتلهم([27]).
وماذا بعد؟!
إن عمليات البيع والاتجار والأساليب التي بات السوريون مجبرين على القيام بها لم تعد تتوقف عند حد، وقد وصلت إلى حدود جد مهينة للشرف والكرامة الإنسانيين، وجد خطيرة على صحة وسلامة وحياة الإنسان، وأعداد السوريين المرغمين على القيام بها تتزايد باستمرار. صحيح أنه ثمة من يقوم أحيانًا بالأعمال المذكورة أعلاه، بدافع الجشع واستسهال الكسب غير المشروع، لكن هؤلاء قلة، أما الأكثرية فتجد نفسها مرغمة على تلك الممارسات والأعمال المشينة أو الخطيرة، لأن السبل الأخرى قد سدت بوجهها ولم يعد لديها بدائل أخرى.
يحدث هذا والعالم ما زال يدير ظهره لمعاناة السوريين التي لم يشهد العالم مثلها بعد الحرب العالمية الثانية، ولا حلّ حتى الآن يلوح في الأفق، وما يلوح ويظهر فيه لا يبشّر بأي خير، والسلطة الدكتاتورية تسعى -بكل غيّ واستهتار- لإعادة إنتاج نفسها غير مبالية بفداحة الكارثة التي تغرق فيها البلاد، منتشية بانتصارها الدونكيشوتي، ومتجاهلة بكل صفاقة ورعونة أبسط الدروس التي كان من المفترض تعلّمها مما أصاب البلاد.
هذا هو واقع الحال المأساوي في سورية اليوم، والواقع نفسه يؤكد أنه سيتسمرّ في التفاقم إلى مدًى وحدّ غير معلومين، وسيستمر السوريون الذين خذلهم العالم في دفع أثمان المصالح المتوحشة الداخلية والخارجية، التي تفتك ببلادهم غير آبهة لمصيرهم.
[1] – برنامج الأغذية العالمي، 12 مليون سوري في قبضة الجوع بسبب الصراع وارتفاع أسعار المواد الغذائية، 17 شباط 2021
[3] –هيام كرم، لم يتبقَّ شيءٌ للبيع غيرُ كليتي، صالون سوريا، 16 شباط 2021.
[4] – برنامج الأغذية العالمي، مرجع سابق.
[6] – برنامج الأغذية العالمي، مرجع سابق.
[7] – دويتشه فيلله (DW)، تقرير: ″الكبتاغون″ حوَّل سوريا إلى دولة مخدرات، 7 أيار 2021.
[8] – موقع عنب بلدي، بقيمة مليار يورو.. مخدرات قادمة من سوريا في محارق إيطاليا،21 كانون الأول 2020.
[9] – سبوتنيك عربي، دول عربية تتربع على رأس القائمة الأحدث “لأكثر الشعوب تسليحا” في العالم، 10 شباط 2020.
[10] –صحيفة جسر، عن تجارة السلاح في دير الزور.. بالأسعار والأنواع، 7 آذار 2020
[11] – كمال شاهين، سوريا: سوق للسلاح عبر منصات التواصل الاجتماعي، السفير العربي، 15 آذار 2018.
[12] – سناك سوري، احصل على السلاح الذي تريده في سوريا عبر الإنترنت! 6 شباط 2018.
[13] –أسامة القادري، تجارة السلاح نشطة بالدولار… وخط التهريب سوريا – لبنان، الكلمة أون لاين،11 تشرين الثاني2020
[14] – إندبندنت عربية، هذه بورصة أسعار السلاح المتفلت في لبنان والعراق وليبيا، 9 كانون الثاني 2021
[15] –هيام كرم، المرجع السابق.
[16] –أحمد الليثي & إسلام أحمد، 18 ألف حالة سرقة أعضاء بشرية في سوريا خلال 6 سنوات، صحيفة المدينة،29 كانون الأول 2016.
[18] –هيام كرم، المرجع السابق.
[19] –Crime Index by Country 2021
[20] – عبدالله البشير، سورية التاسعة عالمياً والأولى عربياً بمعدل الجريمة، العربي الجديد، 9 حزيران 2021.
[21] – المرصد السوري لحقوق الإنسان، في ظل تزايد الفوضى والانحلال الأخلاقي.. مناطق النظام السوري تشهد انتشارًا لـبيوت الدعارة والمخدرات، 30 نيسان 2021.
[22] – طارق علي، تسوّل ودعارة وبلطجة… عوالم سفليّة في المدن السوريّة أفرزها الفقر، النهار العربي، 3 آذار 2021
[23] – جيمس لاندل وفيني اودوود، سوريات يتعرضن للاستغلال الجنسي مقابل الحصول على مساعدات إنسانية، بي بي سي نيوز، 27 شباط 2018.
[24] – أسوشيتد برس: السوريات يمتهن الدعارة، صفحة معلش نكون صريحين؟ -فيسبوك، 9 آذار 2013.
[25] – باسكال بطرس، نازحات سوريّات يبعنَ أجسادهن… لتأمين لقمة العيش، جريدة الجمهورية، 25 أيلول 2023.
[26] – Al-Monitor The Pulse of the Middle East، اللاجئات السوريات ضحية الإذلال والاستغلال في تركيا، 12 آذار 2014.
[27] – دويتشه فيلله، المرتزقة السوريون.. قضية مؤرقة للجميع بلا حل واضح في الأفق، 28 أيار 2021.