في بدايات الثورة، خلال المظاهرات التي شاركنا فيها، بإدلب ومعرتمصرين وبنش وحزانو، كنا نردد الهتاف الشهير “بدنا المعتقلين”، وأذكر أنني، بعدما نزحت إلى تركيا في أواسط آب 2012، واستقريت في مدينة “الريحانية” الحدودية، شاركت في مظاهرة حصل بعضُ الأصدقاء على رخصة لأجلها من قائمقام الريحانية، تجمعنا عند دوار البركة، وهتفنا: بدنا المعتقلين، بدنا المعتقلين.. وخلال تلك المشاركات كلها كنت أسأل نفسي:
– لمن نوجه هذا النداء؟ ومَن سيعيد إلينا المعتقلين؟..
وبعد ذلك صرت أمقت هذا الهتاف، وأخجل من نفسي لأنني رددته ذات يوم بحماس.
نظام الأسد، إذا كنت تريد الحق ولا تريدُ ابنَ عمه الباطل، يقوم في جملته وتفاصيله على اعتقال الناس، ثم ضربهم، وتعذيبهم، وإذلالهم. وكان السؤال التقليدي الذي يصدر عن أي مواطن سوري يصله خبر عن حملة اعتقالات جديدة:
– مين هالمرة؟
فيأتيه الجواب: الإخوان. الطليعة المقاتلة. رابطة العمل. المكتب السياسي. حزب العمل. جماعة الأتاسي. جماعة الجراح. بعث العراق..
هذا كل ما في الأمر، وفي صباح اليوم التالي للحملة ينطلق أهالي المعتقلين للبحث عن أبنائهم في فروع الأمن المختصة باعتقال الناس.. ويكون محظوظاً ابن محظوظ مَن يسأل جهة أمنية عن معتقل يلوذ به وتعترف له تلك الجهة بأنه موجود لديها، فقد جرت العادة أن يأتي جواب الضباط، أو العناصر، عندما يُسْأَلون عن معتقل ما:
– ما عندنا هالاسم.
(وفي العرف الشعبي يقول الناكرُ: الله يقتل قاتله)!
ولكن، انتبه.. فالاعتراف، بأن ابنك عندنا، لا يعني أن نقول لك تفضل اشرب فنجان قهوة عندنا، وخذه واذهب، وإنما هو طمأنة من نوع ما على أننا لا ننوي التخلص منه في الوقت الحاضر، وإنه من الممكن أن نخلي سبيله، و(بدك تطول بالك).
المعتقلون في سوريا لم يكن لهم، في يوم من الأيام، دفاتر، وسجلات، وعدد ثابت
لا يجوز أن ينقص، بدليل أن هناك عشرات الألوف من المعتقلين المصنفين في خانة “المفقودين”، وهؤلاء يتراكمون وتزداد أعدادهم على نحو مطرد منذ أربعين سنة، وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال آخر، وهو: لماذا نهتف بدنا المعتقلين ولا نهتف: بدنا المعتقلين والمفقودين؟
إن السبب الأساسي لوجود مصطلح “المفقودين” هو وجود مواد صريحة في القوانين الاستثنائية المعمول بها في سوريا، كقانون الطوارئ، ومحكمة أمن الدولة، وقانون الإرهاب، كلها تعفي الضابط أو العنصر الذي يموت تحت يديه معتقلٌ، أو أكثر، من أية مساءلة أو محاسبة، أو حتى لوم، ووقتها ينتقل الشخص المقتول من خانة المعتقل إلى خانة “المفقود”.. ومعروفة هي النكتة التي تقول إن ضابطاً هدد عنصراً أمات معتقلاً تحت التعذيب قائلاً:
– والله إذا بتعيدها لأحلق شعرك ع الصفر يا كواد!
ومن الأشياء التي سمعتها من صديق أمضى سنوات طويلة في سجن تدمر، وهو بالنسبة إلي موثوق جداً، أن السجانين، عندما يقوم سيئ الذكر مدير السجن بجولة تفقدية، كانوا (يُضَحُّون له) بسجين، ينتقونه، غالباً، من ذوي الأجسام القوية والعضلات المفتولة، ويبدؤون به بتعذيب بسيط، تقليدي، ثم يرفعون الجرعة على نحو متصاعد، ثم يبدؤون بالتفنن وابتكار أساليب جديدة، فإذا استغرق زمناً طويلاً ولم يفارق الحياة، كانوا يضطرون لضربه بحجر صلب على مؤخرة رأسه، فيخر صريعاً مع وصول المجرم الكبير، مدير السجن، إلى الساحة، ووقتها يسحبون جثته إلى باب مهجعه، ويقرعون الباب، فيخرج عريف المهجع، وهو من المساجين، يسحبه إلى الداخل، وبعد قليل يقرع الباب من الداخل، ويفتح له الجلاوزة، فيخبرهم قائلاً:
– السجين رقم “كذا” مات.
ووقتها تستكمل إجراءات دفنه.
كلمة واحدة يمكن أن تصف المعتقل الذي يغادر سجن تدمر الرهيب بعد 15 سنة هي: معطوب.
من قصص الكوميديا السوداء، أو لنقل من قصص “مقلوب البكاء” واحدة كتبها القاص المبدع الراحل تاج الدين الموسى بعنوان “آخر الرقصات”.
في القصة: كل الخيوط والدهاليز الموجودة في عقل الأم المريضة تقودها للتفكير بابنها المعتقل “فاخر”. كل شيء تطبخه، ترتبه، تعمل على إنشائه وتهيئته، هدفُه استقبال فاخر، كان أبناؤها يرون أنها ستموت، من كثرة الهموم والأمراض، ولكن موتها مؤجل لحين خروج فاخر من السجن. قلبها كان، خلال تلك الأيام التي بدأ النظام فيها يُفرج عن بعض المعتقلين (الباقين على قيد الحياة)، يؤكد لها أنه حي، وسوف يخرج قريباً. أكثر من مرة نظفت الدار، ورتبتها، وسقت الورود، وأصص الزريعة.. وأثناء ذلك كله كانت لا تتوقف عن توبيخ أبنائها الآخرين، ودائماً تقارنهم بفاخر الذي كان متفوقاً عليهم علماً وأدباً وسلوكاً.. ولكن ما حصل، في نهاية القصة، وكما يرويه تاج ببراعة استثنائية، هو التالي:
(أهي السَكرة كانت قد ذهبت يا أمي، وجاءت الفكرة؟ أم هو الفرح الذي أعمى بصرك، وباصرتك؟ إن أخي لم يكن أخي يا أمي.. أخي القديم كان ممشوقاً، باسماً، شاباً، ممتلئاً، وكان شعره مسترسلاً، يغني وقت الغناء، ويرقص وقت الرقص، ويدبك وقت الدبكة، ويحكي إذا حضر الحديث.. أما الشخص الذي جاءنا البارحة، فقد كان ضئيلاً، هرماً، محني الظهر، على رأسه بضع شعرات بيض، لم يعبأ برقصك، ولا بدربكة خالتي، أو بغناء صالح، أو بفرح الناس من حوله بعودته.. كان ساهماً طوال الوقت، ينظر إلى لا شيء، لم ينطق بكلمة واحدة منذ وصوله.. حتى من الأحاسيس لم يكن عنده شيء.. فلو كان عنده شيء منها، لوجدنا لقبلاته حرارة.. لحضنه دفئاً.. لبقي معي هنا، عند قبرك، ولو لدقائق، بعد انتهائنا من مراسم دفنك!
انتهى الاقتباس من قصة تاج.
خلاصة القول: يجدر بنا أن نجري تعديلاً جوهرياً على هتاف (بدنا المعتقلين)، وهو: بدنا نتخلص من النظام الذي لا يوجد ما يردعه أو يثنيه عن تحويلنا، جميعاً، إلى معتقلين.