تحتفي الشعوب بشهدائها، وتكرمهم، وتتناقل سير شجاعتهم وبطولاتهم، ويكتب التاريخ عنهم للأجيال القادمة، كيف كانوا شجعاناً عظماء، حين اختاروا درب الكرامة، قدموا دماءهم رخيصة في سبيل الحق، وفي سبيل النضال والحرية، تقدم هذه الشعوب خيرة شبابها، يتسابقون لنيل شرف الفداء للحق، ووضع حد للظلم والقهر، فلا بد من صوتٍ يغير مسار الصمت الخانق، ولا بد من دماء زكية تنزف، لتتحقق المطالب، فكيف بمن كانوا الأوائل في الثورة، أوائل من جعلوا الشرارة تتقد، والصوت يعلو، وعدوى الحرية تنتشر، فلم تكن مطالبهم فقط لأجل سجن الأطفال الذين كتبوا على جدران المدارس واعتقلوا بسبب ذلك، بل كانت مطالبهم أعلى، بإسقاط النظام، وردّ قوات الأمن بعنف شديد، فاخترق رصاصه أجسادهم الطاهرة.
ولد محمود الجوابرة عام 1987 في مدينة درعا الأبية، سكن في درعا البلد، أول حي المنشية، وتوفي والده وهو لم يكمل الشهر من عمره، فعاش مع فقد الأب ظروفاً صعبة، وأحوالاً مادية ضيقة، لم تنل رغم ذلك من إبائه ولم يُسلم نفسه لاستبداد اليُتم والفقر والحاجة، فافتتح دكاناً صغيراً متواضعاً من بيته، يبيع فيه البسكويت والمواد الغذائية، وظل يسعى في طلب الرزق ويكافح، حتى تحسنت أحواله قليلاً وافتتح لاحقاً محلاً لبيع الألبسة في سوق فراس، فكان ذلك دلالة نفس أبية تأبى الاستسلام والركون إلى صعوبة الحياة، وتهميش المجتمع والافتقار إلى السند، وعرفه أصدقاؤه ومن حوله الكرام بالنخوة والشهامة طباعاً أصيلة في نفسه.
وكأن رموز ثورة الكرامة لهم ارتباط مع الرياضة، فكما كان عبد الباسط الساروت حارساً للمرمى، كان محمود الجوابرة لاعب كرة قدم، أحب الرياضة والتفت إليها، ووجد نفسه في خضرة ملاعبها، وفي إيقاظها روح المقاتل داخله، وتهذيب أخلاقه، فكان لاعباً في نادي الشعلة، أثبت نفسه وكفاءته، وكان حضوره جاداً ملتزماً فلعب في حوران في جميع مباريات الشباب، وكأن الرياضة ألهمته ليدرك مفاهيم الثورة وما احتاجته من انطلاق وقوة وبذل جهد لتحقيق الانتصار، فلم يتردد بأن يكون من أوائل المتظاهرين فيها.
يتحدث رفاقه عن يوم استشهاده، بتاريخ 18-3-2011 حين خرج ساهم محمود مع شباب الثورة بالتخطيط للمظاهرة، فخرجوا جميعاً من الجامع العمري في درعا، مطالبين بإسقاط النظام واتجهوا باتجاه حي الكرك ومعهم محمود، وكانت قوات الأمن متربصة بهم، ونية النظام منذ البداية قتل الشعب لا تفريقهم، ولا الحوار معهم إلا بلغة القتل والعنف، فأطلقت الرصاص الحي، واخترقت الرصاصة الأولى رقبة محمود فاستشهد على الفور، وكان أول شهداء الثورة السورية، وقال بعض من معه بأن الرصاصة ذاتها اخترقت جسد الشهيد حسام عياش، فكان ثاني الشهداء.
تسابقت أيدي الشباب الثائر لحمل جثمان محمود، كان بينهم أطفال أيضاً فكّروا في تلك اللحظات العصيبة، وبينما قوات الأمن تطلق نيرانها، أنّ لهم دورا ما وسط الزحام والتوتر وسير الناس في كل اتجاه، وثارت ثائرة درعا ومن فيها لمقتل شبابها، فكانت الهتافات في المسجد قبل التشييع غاضبة أيضاً، وكان الناس يهتفون “الموت ولا المذلة” “اللي بيقتل شعبه خاين”، ولم تتوقف من يومها درعا عن تقديم الشهداء، فعند تشييعه ومن معه، قتل رصاص الأمن من “الجوابرة” من أولاد أعمام محمود كثيرين، فشهدت درعا مجزرة لعائلة الجوابرة، ودفنوا جميعهم معاً في مقبرة بات اسمها مقبرة الشهداء.
عاش محمود خمسة وعشرين ربيعاً من عمره، لم يكن يتوقع غالباً أنها ستنتهي بثورة، وبأنه سيكون شهيدها الأول، ولم يخيل إليه أبداً أن قطرات دمائه ستشعل الأرض غضباً، وبأن صورته ستُعلّق في المحافل، وتوضع في الكتب، وتُروى في الحكايات والقصص البطولية، وسيذكره كل حر من أبناء الشعب السوري العظيم، ويربط اسمه بالشجاعة والبطولة والتضحية، ربما كان حلمه أن يكسب بطولة ما في ناديه، لكن كُتب له أن يكسب بطولة أسمى، وأن يرتبط بالثورة من يومها الأول، ويترك أثراً ممتداً امتداد تاريخ الثورة في ذاكرة السوريين، ويلهم الناس ويحركهم لضرورة أن يتخذوا الخطوة الأولى، مهما كان ثمنها غالياً، لأنها الخطوة التي ستقود إلى خطوات أخرى تنبثق منها وتعتمد عليها.