في آذار عام 2013 كان قد مرّ عليّ أكثر من عامين على رؤية أخي الذي يصغرني بعام ونصف العام، ويكبرني بفضلِ رصاصة اختارَت دخول جسده قريباً جداً من قلبه، تلقَّاها أثناء معركةٍ كان ثوار الشرقية قد أطلقوها لفكّ الحصار عن أحياء مدينة دير الزور المُحَرّرَة أواخر عام 2012، ليكتب الله له النجاة منها، ويكتب لنا لقاءً على الحدود السورية التركية في الطرف السوري من معبر تل أبيض الحدودي المُحَرّر شمالي محافظة الرقة، وذلك في الرحلة التي انطلقتُ فيها من حلب مع رفاق درب الثورة من أبناء ريف حماة (يوسف وأبو عروة)، إلى إدلب وعبر الأراضي التركية باتجاه ديرالزور.
تحرّكْنا برفقة أخي ورفيق سلاحه عبر طرق فرعيّة في الجزيرة السورية بعضُ أجزائها ترابية، لنصل إلى مشارف ديرالزور عند “دوار المعامل” شرقي المدينة، بالتزامن مع تحرير الثوار “لواء الصواريخ 113″، والذي تمكّنّا من مُشاهدة أعمدة الدخان المتصاعدة منه، بعد تفجير قوات النظام للصواريخ فيه قبل انسحابها منه.
ثم من دوار المعامل مروراً بخشام وجديد عكيدات والبصيرة عبر الطريق الممتدّ على طول الضفة اليسرى لنهر الفرات وصولاً إلى ذيبان، والتي انعطفنا منها جنوباً عبر جسر الميادين إلى الضفّة الأخرى لنهر الفرات حيث المدينة التي غادرتُها آخر مرّة قبل عام ونصف، قُبَيل اقتحام قطعات جيش نظام آل الأسد العسكرية لها في آب \ أغسطس عام 2011، مُخَلِّفاً فيها أهلاً وثواراً لم يسكنوا للراحة حتى حرّروها بعد عام على اجتياح جيش النظام لها في رمضان 2012، بالتزامن مع دخول ثوار الشمال إلى مدينة حلب.
ما زلتُ أذكر حتى اليوم خفقَات قلبي المضطرب ونحن نقطع شوارع مدينتي إلى منزلنا، لأقابل والديّ الّذَين لم أتمكّن حتى من سماع صوتهما منذ أنْ غادرتُ المدينة، بعد انقطاع شبكات التواصل عامّة عن المحافظة الشرقية.. ولا أظنّ أنّي أستطيع -وإن اجتهدتُ- رواية شيء عن ذاك اللقاء!
فأيّ كلمات تلك التي يمكن لها أنْ تصف دموع أمّ تعانق ولدها بعد غياب؟!
وأيّ قدرة للّغة تستطيع بها التعبير عن ارتعاش جسد أب يحضن بِكرَه، مُغالِبَاً دموعه تَجَمُّلاً؟!
الميادين المُحَرَّرَة
كانت الميادين نموذجاً للمدن الرّيفيّة التي باتَت تعيش منذ تحريرها حياة شبه مستقرّة، خاصّة مع ابتعادها في الشرق عن مركز ثقل النظام الاجتماعي في أقصى الغرب على ساحل المتوسط، وهو الذي جنّبَ مدن وبلدات ديرالزور جحيم غارات الطيران بنفس الكثافة التي كانت تشهدها المناطق المحررة على الشريط الغربي من حلب وإدلب شمالاً وحتى درعا جنوباً.
ومع حالة المعارك المستمرّة في كبرى مدن الشرق “ديرالزور”، والتي انقسمَت إلى منطِقَتَي سيطرة بين الثوار الذين تمكنوا مبكراً من بسط سيطرتهم على معظم أحياء المدينة، وبين قوات النظام وميليشياته التي حافظَت على سيطرتها على الأحياء الطّرفية فيها، تحوّلَت الميادين إلى قِبلَة النازحين من المدينة ومن محافظات سوريا الأخرى, لتزداد أعداد قاطنيها بشكل كبير حتى وصلَت بحسب تقديرات مجلسها المحلي إلى ما يقارب 350 ألف نسمة أواسط عام 2013، مساهمةً بتعزيز موقع المدينة كمركز تجاري ليس لريفها فقط، بل للشرق عموماً، خاصّة مع حالة السّيولة على الحدود العراقية السورية، التي كانت تسمح لتجار المدينة بنقل البضائع بين محافظات سوريا الغربية، ومحافظات الأنبار والموصل في العراق.
ومع استخراج أهالي الريف للنفط الخام المتوافر بكثرة فيه، والذي كان يتم استخراجه سابقاً لحساب صندوق خاص للنظام السوري لا يدخل في الموازنة العامة لسوريا، ظهرَت طبقة جديدة من الأثرياء وأصحاب رؤوس الأموال، والذين باتوا يُنفِقون أموالهم في المدينة على مشاريع متنوعة خاصّة السكنية منها، مما ساهم في ارتفاع أسعار العقارات بشكل جنوني وصل في بعض المناطق إلى 2500$ للمتر الواحد! بشكل يفوق آنذاك أي قطعة أرض في سوريا!
بعد لقائي الذي طال انتظاره بأهلي، خرَجنا مساءً نتجوّل في المدينة قبل أنْ ينتهي بنا المطاف في أحد المقاهي المنتشرة على ضفاف نهر الفرات، والتي تُعتَبر طابعاً مميزاً للمنطقة الشرقية عموماً، وكان لافتاً بالنسبة إلينا -نحن القادمين من خارج المدينة- الحالة “السّرياليّة” لها، فالأسواق عامرة والمقاهي تغصّ بالشباب، بصورة لا يمكن معها تصوّر أنّ هذه المدينة جزءٌ من بلاد تعيش معركة تحررها، لولا مبالغة بعض الشباب في إظهار “مسدّساتهم” التي تحزّموا بها، بل إنّ بعضهم في المقهى كان يضع بندقيّته تحت الطاولة التي شغلَت سطحها مجموعات بطاقات اللّعب “الشّدّة”، المرتّبة بشكل متتابع بحسب اللعبة الرسمية لأهالي المنطقة “موراكو”.
والحقيقة أنّ عدد التشكيلات والكتائب العسكرية في المدينة -كما في الريف- تزايدَ بشكل مبالغ فيه بُعَيد تحرير المدينة، وتَمَكُّن ثوار الشرقية من إخراج معظم ديرالزور وريفها عن سيطرة نظام الأسد، فيما شكّل أكبر مساحةٍ ممتدّة مُحرَّرَة آنذاك في سوريا، حيث اقتصر وجود جيش النظام على حيّي الجورة والقصور في مدينة ديرالزور إضافة إلى المنطقة الصناعية فيها، مع معسكر الطلائع ومطار ديرالزور العسكري، بينما كانت البادية المُمتدّة بين دير الزور شرقاً وحمص وريف دمشق غرباً، منطقةً بلا نفوذ واضح، تتوزّع فيها بعض النقاط العسكرية المُتفرّقة، وتخضع الحركة على الطّرقات فيها لهِمّة الثوار في نَصب كمائنهم عليها.
توزع مناطق السيطرة في سوريا – آذار 2013
لتكون معظم تلك الكتائب الجديدة صُورِيّة أكثر منها تشكيلات عسكرية فاعلة! تَشَكّل بعضها لأغراض تجاريّة بحتة، بينما تسلّل إلى بعضها الآخر الطابع العشائريّ للمدينة، فأصبح لكل عشيرة تشكيل أسّسه بعض وجهائها، إسهاماً في العمل الثوري المسلح جزئيّاً، وتفاخُراً بالعشيرة و”حمايةً” لها حقيقة، لكنّ تلك لم تكن الحال دائماً!
فعلى طاولةٍ في ذلك المقهى الفراتيّ جلسنا نستمع إلى بعض أقدم حَمَلَة السلاح في المدينة يتذاكرون قصص الأيام الأولى، من الفترة التي كانوا يدخلون فيها المدينة المُحتَلّة ليلاً متجوِّلين بسياراتهم التي تصدح من مسجّلاتها أغنية “يا جيش الأحرار تقدم”، إلى معركة تحرير المدينة في رمضان عام 2012، والتي دمّروا فيها رتل المؤازرة الذي جاء لاستعادتها بفتات السلاح بين أيديهم، إلى تحرير كتيبة المدفعيّة المُشرِفَة على مدينة الميادين، والتي يتناقل أهالي المدينة قصص نداء الفزعة الذي أطلقه أحدهم عبر مكبّر صوت جامع الغرب، مناشِداً الأهالي مؤازرةَ أبنائهم الثوار الذين يحاصِرون الكتيبة، لتخرج على إثره جموع أهالي المدينة بشيبِها وشبابها تحمِل ما توافر بين أيديهم من سلاح “حتى سكاكين المطابخ”، وتتّجه نهراً بشرياً إلى المدفعيّة، ليردّهم الثوار عنها واعديهم بالتحرير القريب، والذي أنجزوه فعلاً في تشرين الثاني \ نوفمبر من عام 2012، بعد ملحمة استمرَّت 22 يوماً سطّر فيها أبناء الريف والمدينة البطولات، ليشكّل التحرير نقطة تحوّل في تاريخ المدينة والمنطقة ككلّ.
استمرّت جلستنا تلك إلى ساعة متأخّرة من الليل، تاركةً آثارها عميقة في ذاكرتي، وكان علينا أنْ نفضّ مجلسنا ذاك لننال قسطاً من الرّاحة، بعد أنْ وعَدْنا إحدى كتائب المدينة بالحضور في الغد لتصوير بيان اندماج لعدد من المجموعات العسكرية، والتي تعتزم تشكيل لواء تابع للجيش السوري الحر.