مدينة حلب هل ثارت أم فرضت عليها الثورة ؟ (1)

نوفمبر 29, 2022

ملهم عكيدي

مقالات

كان سقوط مدينة حلب بيد النظام السوري نهاية عام 2016 واحداً من أكبر الهزائم التي تعرضت لها الثورة السورية، ولا يخفى على أحد أن سقوط المدينة وما تبعه من تفاهمات سياسية وأمنية جديدة بين الأطراف المؤثرة في الساحة السورية كان سبباً مباشرا لهزائم وانحسارات أخرى، إضافة لما رافقه من حالة يأس وفقدان ثقة لدى السوريين بالأصدقاء قبل الأعداء.

وبعد أكثر من ست سنوات على سقوطها يبقى حجم انخراط مدينة حلب في الثورة محلّ خلاف لدى كثير من الثوار، وهذا ما ظهر مؤخراً في حديث أحد ضيوف حلقة منتدى دمشق الأخيرة والتي حملت عنوان “حلب الثورة .. قصة مدينة شغلت العالم”، والذي تطابق حديثه مع الدعاية التي عمل النظام لسنوات على تسويقها وهي أنّ “ريف حلب احتل المدينة وفرض الثورة على أهلها”، دون أن يراعي مشاعر عشرات آلاف الحلبيين الذين أخرجوا من مدينتهم التي يحتلها الروس والإيرانيون، وهم يشاهدون الحلقة.

لا يمكن إنكار أنّ مدينة حلب لم تشهد في العام الأول من الثورة السورية الاستجابة التي كان ينتظرها السوريون من عاصمة الاقتصاد السوري، وهذا ما حاول النظام تسويقه على أن المدينة “صامدة في وجه المؤامرة”، ولكن مع بداية عام 2012 تغير كل شيء وبدأت المدينة بالانخراط بشكل فعلي في الثورة السورية، وشهدت أكبر المظاهرات على مستوى المحافظات السورية من حيث عدد المشاركين ونقاط التظاهر أشهرا متتالية بحسب المركز السوري المستقل لإحصاء الاحتجاجات، كما أن المدينة تصدرت المشهد العسكري على مستوى الثورة السورية منذ دخول الجيش الحر إليها في تموز 2012 حتى سقوط المدينة بعد أشهر من الحصار في نهاية 2016. فما هي الأسباب التي ساهمت في تأخر استجابة الحلبيين لدعوات الحرية؟ وما هي العوامل التي تسبب بانفجار الثورة في المدينة بعد أشهر طويلة من بدايتها في درعا؟.

لماذا تأخرت الثورة في حلب؟

قبل كل شيء يجب معرفة أن مدينة يسكنها قرابة الثلاثة ملايين إنسان لا يمكن الحديث فيها عن مجتمع واحد أو موقف واحد، بل عن مجتمعات متعددة متداخلة ومتناقضة في الآراء والمواقف، ومع ذلك، شهدت مدينة حلب منذ بداية الثورة في عام 2011 محاولات متكررة ومستمرة للتظاهر قادها ناشطون وتنسيقيات ومجموعات شبابية، فشلت كثيراً ونجحت أحياناً، ولعل أبرزها المظاهرات التي شارك فيها الآلاف في “بركان حلب” بتاريخ 30 حزيران و”بدر حلب” في 17 آب وتشييع مفتي حلب الشيخ إبراهيم سلقيني في 6 أيلول وتشييع الشهيد عمر حاوي في 27 كانون الأول، ومظاهرات الجمعة من جامع آمنة بنت وهب في حي سيف الدولة وجامع نور الشهداء في حي الشعار.إضافة للحراك الطلابي المستمر في جامعة حلب. وفضلا عن ذلك كان يقتصر على مظاهرات طيارة تتم بتنسيق مسبق بين مجموعات شبابية تخرج في المناطق المزدحمة والأسواق لعدة أسباب أهمها أن يرى أكبر عدد من الناس أن هناك من يجرؤ على المطالبة بالحرية والوقوف بوجه النظام، رغم أنهم في كثير من الأحيان يتعرضون للضرب والاعتقال، بهدف إنهاء حالة الـمسماة “عنا بحلب ما في شي طاول” التي كان يحاول النظام الترويج لها.

ولكن رغم هذه المحاولات لا يمكن القول إن مدينة حلب شهدت حراكاً واسعاً مثل بقية المدن السورية، ولهذا أسباب عديدة ومتراكمة لا يمكن حصرها أو ترتيبها ولكنها مجتمعة ساهمت في تأخر انخراط المدينة في الثورة

الحالة الاقتصادية

شهدت مدينة حلب بعد وصول بشار الأسد إلى السلطة، انفتاحاً اقتصادياً خاصة مع تحسن العلاقات السورية التركية في بداية الألفية الجديدة، وهو الأمر الذي رأى فيه الحلبيون نهاية لفترة العقاب التي عاشتها المدينة في فترة حكم حافظ الأسد بسبب مشاركة المدينة في الاحتجاجات التي قادها حزب الإخوان المسلمين في ثمانينيات القرن الماضي، لذلك تردّد أهالي حلب في المشاركة خوفا من العودة إلى الفترة المظلمة التي مرت بها المدينة.

تفكك البنية الاجتماعية

كما أنّ سياسة استبدال النخب المجتمعية التي اتبعها النظام السوري في معظم المناطق والمدن السورية (خاصة دمشق وحلب) كان لها أثر كبير على مدينة حلب، حيث تم خلق طبقة “نخبة” جديدة على المستوى الديني والاقتصادي والاجتماعي، فأصبح “قادة المجتمع” في حلب إما مستفيدين من وجود النظام أو متعاونين مع أجهزته الأمنية، الأمر الذي تسبب بانهيار وتفكك البنية الاجتماعية في المدينة وجعلها ضعيفة في مواجهة نظام الأسد الشمولي القمعي. وربما يكون هذا السبب الذي تشترك فيه حلب مع المدن الكبيرة هو الفارق الأساسي الذي سمح للأرياف بأن تكون الحامل الحقيقي للثورة لكون مجتمعاتها أكثر تماسكًا. بينما كانت مجموعة صغيرة من الشبيحة يستطيعون تفريق مئات المتظاهرين في حلب، وهذا ما حصل في حي الجابرية بتاريخ 3 آب 2011 عندما عملت تنسيقية أحفاد الكواكبي على إخراج مظاهرة في حي الجابرية حيث تنتشر مجموعات شبيحة آل ماردنلي، وكان الهدف من المظاهرة هو خلق مواجهة بين المتظاهرين والشبيحة ثم الانسحاب قبل وصول قوات الأمن من فرع المداهمة القريب، ومع بدء المظاهرة التي شارك فيها المئات ورغم وجود “مجموعة حماية” وتوزيع عشرات العصي على المتظاهرين، استطاعت مجموعة صغيرة من الشبيحة تفريق المظاهرة، أذكر أنني نظرت حولي في ذلك اليوم وشعرت أني وحيد في مواجهة الشبيحة رغم وجود المئات من المتظاهرين حولي، بسبب عدم معرفتي لهم وعدم ثقتي في قدرتهم على حماية ظهري خلال المواجهة، وعلى العكس، قبلها بأسبوعين استطعت برفقة أخي الشهيد أيهم عكيدي ومجموعة من الأصدقاء أذكر منهم مصطفى البكر وعبد القادر عطار مواجهة عدد أكبر من الشبيحة في مظاهرة خرجت من جامع سعد بن أبي وقاص في صلاح الدين في جمعة أسرى الحرية بتاريخ 15 تموز 2011. 

الدعاية الإعلامية 

لا يمكن إغفال ما قام به النظام من حملة ترويج أنّ الشعب الحلبي “واع ووطني” وأنّ الحلبيين “يتصدون لمحاولات إشعال الفتنة التي تهدف لتدمير الوطن”، فعمل النظام على إخراج مسيرات يومية من المدارس والشركات والجامعات بهدف إظهار المدينة وأهلها بمظهر الداعمين للأسد ونظامه، هذه الحملة التي انجر وراءها وصدقها كثير من أبناء الثورة في حمص وحماة وإدلب، حتى بدأ ترديد هتافات خلال المظاهرات تستنكر موقف حلب من الثورة، بل إن البعض ذهب إلى أبعد من ذلك وحصلت العديد من حالات الإذلال والانتهاكات بحق أهالي حلب تحت ذريعة “تأييدهم للنظام” من قبل مجموعات من الجهلة واللصوص في أرياف إدلب وحماة، الأمر الذي ساهم بتشويه صورة الثورة والثورة وزاد من تردّد المترددين.

القبضة الأمنية

مهما تعددت الأسباب يبقى السبب الأهم والأكثر تأثيراً هو القبضة الأمنية الشديدة التي فرضها النظام على المدينة حتى قبل انطلاق الثورة، من خلال قيام الفروع الأمنية بتجنيد عدد هائل من المجرمين وتجار المخدرات وتجهيزهم لقمع الاحتجاجات، فتم تجنيد عصابات من آل بري وآل ماردنلي وآل حمرة وغيرهم، وتم تقسيم أحياء حلب بينهم إلى قطاعات، كما سمح النظام لعدد كبير من متعهدي البناء بتنفيذ مشاريع بناء بدون رخص أو ضرائب مقابل التزامهم بأداء مهام تشبيحية، فكانت مجموعات الشبيحة المنتشرة في المدينة تتولى مهمة قمع المظاهرات حتى قبل وصول قوات الأمن، وأظهرت العديد من المقاطع المصورة وحشية الشبيحة في ضرب المتظاهرين بالعصي والسكاكين ما تسبب بسقوط عدد من الشهداء كان أولهم محمد أكتع الذي أصيب بطعنة قاتلة من أحد الشبيحة أمام جامع آمنة في جمعة صالح العلي في 17 حزيران 2011، وفي كثير من الأحيان كانت مجموعات الحماية تضم رجالا أو نساء كبارا في السن مهمتهم التدخل من أجل التخليص من أيدي الشبيحة وتأمين وصولهم إلى سيارات الشرطة التي ستنقلهم إلى المعتقلات، لأن احتمال خروجهم من السجون أحياء أكبر من أحتمال نجاتهم من طعنات وضربات الشبيحة، ولا أذكر أن مظاهرة خرجت في حلب في تلك الفترة مرت دون اعتقالات أو إصابات، لذلك كانت كلمة “استشهاديين” هي أول ما يخطر في بال من يريد وصف المتظاهرين في مدينة حلب خلال تلك المرحلة من عمر الثورة.

ربما يختلف معي البعض بحجم الأثر الذي تركته هذه الأسباب على مسار الثورة في حلب، أو ربما يأتي من يذكر أسبابا أخرى أكثر أو أقل تأثيرا، وبكل تأكيد فإن ملف الثورة في حلب أعقد بكثير من أن يتم شرحه واختصاره من قبل شخص واحد في مجموعة مقالات، ولكني أحاول عبر هذا المقال وما سيتبعه أن أشرح بعض المعلومات الخاطئة أو الغائبة عن جمهور الثورة، معتمداً على مراجعة الأحداث التي عايشتها في مدينة حلب خلال مراحل الثورة.

المصـــدر

المزيد
من المقالات