بالرغم من الظروف القاسية التي مرت بها المدينة في مختلف مراحل الثورة، إلّا أن الجميع يتفق أنها أصبحت ملاذًا آمنًا يلجأ إليه أهالي المناطق المحررة، خوفًا من البراميل وقصف الطيران والتشرد المتكرر. يوضح العم أبو عبد الرحمن، وهو من أهالي المدينة، سبب اختيار النازحين مدينة حماة مكانًا لنزوحهم، «بالإضافة لقرب المدينة من معظم المناطق المشتعلة، فإننا نتحدث هنا عن مدينة عاشت النزوح قبل عشرات السنين، عن شعب يعرف تمامًا أن من سمع عن المأساة ليس كمن عاشها، ما جعلها مقصدًا لكل طالب للأمان، خاصّة للمعارضين المهجّرين قسرًا من عامّة الشعب، وهم النسبة الأكبر من النازحين، كما أن الأحداث المتتالية أدت في النهاية إلى جعل المدينة منطقة آمنة عسكريًا، ما يعزز كونها هدفًا للنزوح والاستقرار».
أول النازحين .. والتعامل الشعبي
مع انطلاقة الثورة السورية، ومنذ الشهور الأولى استقبلت حماة أول النازحين إليها فعليًا، كجرحى من مدينة الرستن، حيث كانت تعيش وضعًا صعبًا بسبب العمليات العسكرية فيها، وتوالت بعدها وفود النازحين من أحياء حمص وريفها بشكل أساسي عام 2012، والكثير منهم استقروا منذ ذلك الحين في حماة، يكلمنا أبو عبد الرحمن عن تفاعل الناس مع قضية النازحين: «اعتبر الحمويون النازحين ضيوفًا في المدينة أكثر منهم نازحين، حين بدأ النزوح إلى المدينة، فُتحت مئات البيوت الخالية لإيوائهم، وقُدّمت المساعدات بكافة أشكالها، واستقدم أرباب العمل العمّال منهم، وساعدتهم الجهات الإغاثية لفتح مشروعات صغيرة يرتزقون منها، بنشاط شعبي بحت، كانت بحقّ ثورة من نوع آخر».
معطيات جديدة .. ونازحون جدد
محطات كثيرة مرت بها ثورة حماة في تلك الفترة، لكن أهمها حتى اليوم هو خروج ثوار حماة منها في نيسان 2013 بعد معركة غير متكافئة في حي طريق حلب شمال غرب المدينة. يتحدث الناشط الإعلامي جان لوراف انعكاسات المعركة على موضوع النزوح قائلًا «بعد معركة طريق حلب، توقف الحراك الثوري داخل المدينة بشكل كامل وبكافة أشكاله، فهدأت المدينة نوعًا ما، وخفّت حدّة الاعتقالات والمداهمات، لأن معظم المطلوبين إما قد اعتقلوا أو خرجوا مع الثوار بعد المعركة، ما هيّأ المدينة لتكون منطقة آمنة، جعلها تستقبل مئات آلاف النازحين من مختلف المناطق السورية الملتهبة، فبعد حمص، استقبلت دفعات ضخمة منهم من ريفي حماة وادلب ومنطقة حلب بشكل أساسي، والمنطقة الشرقية والرقة وريف ودمشق بشكل أقل، وعددًا كبيرًا من مدينتي إدلب وأريحا مؤخرًا».
وعدا عن النازحين الذين استقروا في حماة، فإن عددًا من أهالي المناطق المحررة فضّلوا بقاءهم فيها رغم الظروف القاسية، وتبقى حماة مركزًا حيويًا مهمًا لهم لتسيير الأوراق الرسمية الضرورية، ولقبض الراتب التقاعدي بالنسبة للمتقاعدين، بحسب أحد العاملين في مجال التعليم، «أصبحت المدينة مركزًا حيويًا مهمًا لأهالي المناطق الشرقية والشمالية، الكثير من الزملاء المتقاعدين في قطاع التعليم يأتون لحماة كل شهر خصيصًا لقبض رواتبهم التقاعدية، في حين أتى من منطقة الرقة فقط نحو ثلاثة آلاف طالب وطالبة لمدينة حماة بهدف إجراء امتحان الشهادة الثانوية التابع لوزارة تربية النظام لدورة عام 2014، وتضاعف لسبعة آلاف في دورة 2015 وفق إحصاءات رسمية لمديرية تربية حماة».
تفاعل النظام مع القضية
من الناحية الإنسانية، تجاوب النظام مع الأعداد الضخمة من «الوافدين» كما يسميهم، بإخلاء عدّة مدارس وتخصيصها كمراكز إيواء لهم، ويعلل الناشط جان على هذه الاستجابة بأنها لم تكن إلّا مدخلًا آخر للفساد وتلقي الرشاوى والوساطات لقاء تأمين غرفة لهذه العائلة أو تلك، ومن جانب آخر، استعملها النظام لإيواء المحسوبين عليه من الميليشيات واللجان المسلحة وعائلاتهم كما فعل مع الذين هربوا منهم من مدينتي إدلب وأريحا هذا الصيف، أما عن تسهيل النظام لعمل المنظمات الإغاثية في المدينة كالهلال الأحمر واليونيسيف والرعاية الاجتماعية فهو «ليس إلّا ورقة رابحة بيده أمام المجتمع الدولي لا أكثر»، كما يعتقد جان.
ومن الناحية الأمنية، لم يختلف تعامل النظام مع النازحين عن تعامله مع أهالي المدينة، فإضافة لتعرضهم للمضايقات بسبب كونهم آتين من مناطق محررة، ذاقوا ما ذاقه أهل المدينة من المداهمات والاعتقالات، والطبيب محمد مثال على ذلك، فبعد أن نزح مع عائلته، وهو من حمص القديمة، إلى حماة واستقر فيها، اعتقله حاجز للنظام في شارع العلمين بحماة، وبقي عدّة شهور لا يعلم عنه شيئًا، لكنه «ما إن خرج من الاعتقال حتى ترك البلد دون عودةً»، كما أخبرنا صديقه، وكعادته على بث الفساد عند كل فرصة، استغل النظام حاجة الكثير من النازحين وعمل على تجنيدهم لصالحه، سواء كمخبرين أو كعناصر في الميليشيات المسلحة التابعة له، وحصلت العديد من حالات الاعتقال لناشطي المدينة وخاصة في مجال الإغاثة جرّاء ذلك.
يتساءل البعض عمّا يسمعه حول أحوال النازحين المادية المتردية اليوم في المدينة، لكن أبا عبد الرحمن يرى أن ذلك طبيعي، فبالرغم من عمل المنظمات الإغاثية بشكل مستمر، إلا أن ذلك لا يحدث أثرًا كبيرًا في مدينة أصبح فيها عدد النازحين أضعاف عدد السكان الأصليين، «في وقت تعبت فيه النفوس وضعفت، وقل الدخل المادي جراء ارتفاع سعر الدولار وتهاوي سعر الصرف الليرة السورية»، مما أدى إلى قفزات متتالية في أسعار المواد الأساسية، معتبرًا أن «جميع الناس اليوم في ضائقة، من لديه معين من أهله المغتربين فقط يستطيع إكمال حياته أقرب ما يمكن إلى الطبيعي مع الاستغناء عن رفاهيات العيش».
بحسب الناشط الحقوقي جواد الحموي، فإن عدد النازحين فقط في المدينة فاق المليوني نازح، وقد حاولنا الوصول إلى إحصائيات أدق من الهلال الأحمر العربي السوري، لكننا لم نجد ردًا من طرفه.