تبدو أي محاولة لالتقاط معالم أو ملامح ما يمكن أن تُسفر عنه الأحداث المُتفجرّة في سورية، أقرب إلى العبث، نتيجة التعقيدات المرتبطة بالقضية محليًا وإقليميًا/ دوليًا، سيما وأن العامل السوري “الذاتي” انحسر كثيرًا أو تحول -بشكلً أو بآخر- إلى تفصيلٍ بسيط داخل جملةٍ من المصالح المتضاربة لقوىً كبرى تسعى لإعادة إنتاج المنطقة برمتها من البوابة السورية.
لكل هزيمة ثمن، وتسديد الفاتورة كاملةً خطوة روتينية تتعلق بتلك البديهية، أو هذا ما يؤكده -على الأقل- أصحاب الفكر السياسي، بالتالي ربما جزء مما يحصل الآن يتعلق في أحد تفاصيله أن المكون الأساسي للحراك الثوري الذي بدأ في آذار2011، بات خارج المشهد تماما أو يعيش على هوامشه يُوثق معالم الخسارة، ويحاول إحالة الخذلان إلى لغة مكتوبة للتعبير عن مرارة الواقع، وفي أحسن الأحوال يراقب ما يحدث خلف ستارٍ سميكٍ من العجز.
انطلاقاً من ذلك التوصيف -سواء صحّ أم كان خطأ- تبدو مسألة تفنيد الأسباب والدوافع التي أدت إلى ما يعايشه الواقع السوري،
عملية مركبة وشديدة التعقيد، تحتاج إلى تشريح حقيقي لكل ما مرت به الثورة من مراحل وما أحاط بها من تداخلات محلية/ دولية قادت نهايةً إلى ضرب المحاولات الطموحة لخلق مفهوم مغاير للوطنية السورية، وأعادت إنتاج ثقافة قبلية عائلية، أنتجت بدورها مظاهر أعتى لتحالفات (السلطة والمال) استطاعت إحياء منظومة قيمية أبدعها النظام وكانت المظاهرات في ميادين وأحياء سورية أصدرت شهادة وفاةٍ باسمها.
كثيرة هي وجهات النظر التي تؤكد أن أي تغيير للواقع لا يمكن أن ينجح دون وقفة حقيقة مع الذات ومراجعات نقدية للتجربة تؤدي إلى استخلاص نتائج توصف أسباب الفشل أو الإخفاق، وعلى أهميتها تبقى هذه الرؤية ضمن الحالة السورية وفق الظروف الراهنة أشبه بترفٍ فكري، ليس فقط لطبيعة الصراع والقوى المتصارعة، بل أيضاً، لأن الواقع السوري يدفع بعديد الشواهد شديدة الصراحة في التعبير عن محدداته ومعطياته وفق معايير ملتصقة بالحقيقة (حد الوقاحة)، وبهذا المعنى لا تنفك حالة ناشئة على أكتاف الثورة عن محاولاتها التعتيمية على هذا الواقع للحفاظ على مصالحها.
بالتالي يصبح أي تأويل أو تفسير بأن ما يظهر من تفاصيل رديئة في المشهد السوري المعارض أو الثوري، حالة طبيعية تنبع من عمق وحجم التغييرات المتواصلة -وليس الآن هو الوقت المناسب لإزاحتها أو معالجتها- يؤشر بطريقة أو بأخرى لمدى تغلغل البعثية (كفكرة) داخل الجسم الثوري بناء على مصلحية مبالغ فيها كان ومازال عنوانها القفز من السفينة الغارقة.
هناك من يرى أن أولى الخطوات باتجاه إيجاد حلول أو مخارج جديدة تساعد في تغيير الواقع، تكمن في إعادة الثقة لشريحة الشباب التي قادت ركب التغيير في سورية،
ولكن يغيب عن أصحاب الطرح أن ذلك الشباب يتوزع الآن بين السجون أو المهاجر أو تحت شاهدات القبور، وهو ما يجعل من طروحاتهم متأخرة إلى حد بعيد، والمنطقي أكثر -ربما- البحث عن كيفية بناء جسور للتواصل والحوار بين معظم الشرائح وفي مختلف أماكن تواجدها تسهم في بلورة رؤيةٍ جديدة يكون فيها للشباب دور أساسي وبارز.
من جهةٍ أخرى ربما كان (لطهرانية) شباب الحراك والثورة في سورية، دور فيما وصلنا له من نتائج، إذ أن الثورة -خاصةً- بعدما وصلت إليه من تعقيدات وتحالفات واصطفافات، وما نشأ عنها من صراعات في الحالة السورية، لا تحتمل أفكاراً (كريستالية)، لأن الواقع أكثر قسوة وخشونة من الأحلام الشاهقة والرغبات الصادقة لأصحابها، ويتطلب إعادة ترتيب الأولويات وقراءة المشهد بطريقةٍ مغايرة، بدلاً من ترك الساحة لمجموعةٍ من المنتفعين باتوا يتحكمون في جانب كبير من مفاصل الثورة وأطرها السياسية والمدنية والثقافية.
“أيها الحلم تواضع قليلًا، وتحقق”، تبدو المقولة أكثر جمالا من التمترس خلفها الآن، فالأحلام سيما على المستوى الجمعي لا تنمو أو تُزهر في أطرها المكتوبة وتفسير معانيها اللغوية وما تحمله من أضداد، وهي دون شك تحتاج إلى واقعية أكثر في قراءة ما يحدث ومحاولة تغييره أو على الأقل امتصاصه، إذ ومهما كان الواقع سيئاً، سيصبح أكثر سوءا في المستقبل في حال عدم مواجهته، والبحث عن حلول ممكنة لا تسمح “لشخوص ومؤسسات” الرداءة الاستفراد بمشهد الثورة.