نشرت جريدة العربي الجديد ثلاثة مقالات عن موضوع الفدرلة في سورية والموقف الدولي منها، اثنان منها للصديقة رانيا مصطفى، والثالث لكاتب هذه المقالة، يوحي مقالا رانيا -من وجهة نظري- ببعض الإرباك والتشويش في التمييز بين أهداف المجتمع الدولي من ناحية، وسبل الوصول إليها من ناحية ثانية. فضلًا عن إرباك يخص مفهومات الطائفية والانفصال والانقسام والفدرلة. لذا كانت هذه المقالة الموسعة من أجل تحليل الواقع السوري الحالي، وتحديد مستقبل سورية وفق الرؤى والأهداف والمصالح الدولية، على أن نختمها بتناول طموحات الشارع السوري وإمكانات نجاحه في تحقيقها والنواقص التي تعوق سبيله.
أولًا أهداف المجتمع الدولي في سورية واستراتيجياته:
* الصراع في سورية وعليها:
تشهد الأرض السورية في الوقت الراهن نوعين منفصلين أو شبه منفصلين من الصراع الدولي، صراع السيطرة على الأرض السورية أولًا، وصراعًا داخل الأرض السورية على قضايا ومسائل دولية متنازع عليها. لذا لا بد من التمييز بين هذين الشكلين من الصراع فالأول يعنى بمصالح الدول في سورية ذاتها، بينما الثاني لا يكترث بتاتًا لمصير سورية الأرض والشعب والثروات. بل تتعقد الأمور أكثر حين نلحظ تداخلًا بين الصراعين كليهما، وتداخل اللاعبين أيضًا. فإذا ما استثنيا قوى الاحتلال الصهيوني والأميركي، نلحظ تنافسًا وتنسيقًا واضحًا بين جميع القوى الفاعلة في سورية، وذلك مرده أولًا إلى إقرار الفاعلين الدوليين بمناطق النفوذ ومصالح كل من أميركا والدولة الصهيونية، وثانيًا بسبب عدم رغبة الاحتلالين الصهيوني والأميركي في توسع مساحة سيطرتهم داخل سورية في الوضع الراهن، ما يضع الآخرين أمام تنافس على ما تبقى من ناحية، ويفرض عليهم حدًا أدنى من التنسيق في مواجهة الاستراتيجية الأميركية المهددة لمصالحهم من ناحية ثانية.
في حين نلحظ منذ قرابة ثلاثة أعوام، أي بعد توقيع درعا على اتفاق المصالحة وخضوع إدلب لاتفاق الثلاثي الضامن، تراجع حدة الصراع على سورية مقارنة بالمرحلة التي سبقتها، في مقابل تصاعد حدة الصراع في سورية، أي الصراع داخل سورية على مكتسبات سياسية أو اقتصادية خارج سورية، كما في الصراع الروسي- التركي حول ليبيا، أذربيجان، اليونان، أو الصراع التركي- الإيراني حول التمدد عربيًا، أذربيجان، وصولًا إلى الخلافات الأميركية- الروسية حول العلاقة مع الصين ومع الدول الأوروبية، مع بروز خلافات أميركية- تركية أحيانًا وإن لم تخرج عن إطار التصادم السياسي والإعلامي. حيث يعود تصاعد الصراع الدولي في سورية في الآونة الأخيرة إلى قناعة اللاعبين الدوليين باستعصاء الحل في سورية راهنًا، طبعًا الحل من وجهة نظر المصالح الدولية البعيدة كل البعد عن مصالح الشعب السوري، حيث يعود هذا الاستعصاء بشكل أساسي إلى ضخامة حجم التنافس الدولي (روسيا، تركيا، إيران) على سورية أولًا، وإلى استراتيجية الصبر الأميركية في سورية ثانيًا، إذ تصر أميركا على تأجيل حل المسألة السورية وفق اتفاق دولي واضح ومحدد.
في حين تظهر بين الفينة والأخرى ملامح الصراع الدولي على سورية بين القوى الثلاث الأكثر انخراطًا (روسيا، إيران، تركيا) كما في الخلافات الروسية- الإيرانية في منطقة سهل حوران وجبله، والخلاف الروسي- التركي في محيط منطقة إدلب، وأحيانًا صراع إيراني- تركي في المنطقة ذاتها، وتشهد منطقة شرق الفرات ملامح صراع ثلاثي يتربص الانسحاب الأميركي المحتمل، على الرغم من استبعادي حصوله في المدى المنظور. حيث ينطلق الصراع الدولي ثلاثي الأطراف على سورية من رغبة كل منهم في السيطرة على كامل الجغرافيا السورية استنادًا إلى مصالحهم الاقتصادية والجيوسياسية في سورية، في حين تلجم الأطراف الثلاثة من حدة صراعها على سورية ووتيرته نتيجة عجزها منفردة عن إحكام قبضتها على كامل الجغرافيا السورية، لا سيما في ظل إصرار الإدارات الأميركية المتتابعة على انتهاج استراتيجية الصبر في سورية، وإن كان هناك ميل أميركي واضح تجاه سيطرة روسية أكبر من السيطرة التركية والإيرانية. وعليه فنحن أمام هدوء حذر قد يتبعه تفجر الصراع الدولي على سورية، أو اصطفاف أميركي واضح مع أحد أطراف النزاع، في كل الأحوال تبدو الصورة مشوشة بهذا الخصوص حتى الآن، وإن كنت أميل إلى احتمال استمرار حالة التوازن الحذر السائدة اليوم مدة طويلة من الزمن (من خمس إلى عشر سنوات).
* آليات السيطرة الدولية على سورية:
تعمد جميع الدول الفاعلة والمحتلة للأراضي السورية إلى إحكام قبضتها الميدانية عبر مليشيات عسكرية محلية مرتبطة بها مباشرة، يتم إسنادها في وقت الحاجة بدعم عسكري مباشر من قوى الاحتلال، باستثناء قوى الاحتلال الصهيوني التي تحكم قبضتها وتفرض مصالحها بقواها العسكرية المباشرة. فمن ناحية تعتمد القوات الأميركية على قوات الحماية الكردية أو قوات سورية الديمقراطية التي تقوم بدعمها عسكريًا وسياسيا، مع الرفض الإقليمي لها ولسيطرتها. في حين تعتمد إيران على مليشيات طائفية شيعية لبنانية (حزب الله) وعراقية وأفغانية وأحيانًا سورية أيضًا. أما تركيا فتعتمد على كتائب ومليشيات سورية سنية غالبًا، تخضع لإدارتها وتحكمها المباشر. أما روسيا فقد اعتمدت على أشكال عسكرية ميدانية متعددة، بدأت بالاعتماد على المليشيات الإيرانية بالتزامن مع استقدامها مليشيات فاغنر غير الرسمية، ثم عملت على تشكيل الفيلق الخامس كبديل من الجيش السوري النظامي. إذ تنطلق منهجية روسية في تشكيل الفيلق الخامس، من تشكيله من ألوية متعددة وشبه منفصلة ذات طابع طائفي ومناطقي، يتركز كل لواء في منطقة جغرافية محددة بوصفه مكونًا من أبنائها كما في اللواء الثامن الموجود في درعا، مع العلم لم تنجح روسيا حتى اللحظة في تكوين فيلق قوي وقادر على بسط نفوذه على أغلب الجغرافية السورية. فمثلًا شُكل اللواء الثامن في محافظة درعا، بتركيبة مناطقية وطائفية محددة، وسعت روسيا -وما زالت- إلى تشكيل لواء خاص بمحافظة السويداء من أبناء المحافظة، وكذلك الأمر في ما يخص محاولاتها لتشكيل جسم عسكري عشائري في محافظتي الحسكة ودير الزور. ومن ثم فالفيلق الخامس من ناحية اسمية هو جسم عسكري في مستوى سورية، في حين إن مضمونه مختلف عن عنوانه، فهو تشكيلات عسكرية متعددة لكل منها تركيبتها الطائفية أو المناطقية أو القومية أو مزيج منهم، وذات صلاحيات نافذة في منطقة جغرافية محددة لا أكثر، وهو ما يتناقض مع مفهوم الجيش الوطني ذي التركيبة المتنوعة داخل مجمل تشكيلاته، ويناط به وبكل تشكيلاته حماية كامل الوطن بعيدًا من الاعتبارات المناطقية أو الطائفية أو العرقية التي توليها روسيا الأولوية دائمًا.
إذًا ومن كل ذلك نلحظ تشابهًا -وربما تطابقًا- في الآليات العسكرية الروسية والأميركية والإيرانية والتركية تجاه سورية وفيها، فكل منها تتعامل مع أرض سورية وشعبها وفق رؤية تقسيمية، وكأنها قطع متناثرة اجتماعيًا وجغرافيًا، مستفيدين من بعض الهياكل العسكرية والسياسية المتعصبة قوميًا أو طائفيًا أو إثنيًا أو مناطقيًا، إذ نجحت قوى الاحتلال -حتى اللحظة- في دعم هذه القوى وتحويلها إلى قوى أمر واقع بفعل الدعم المالي واللوجستي والعسكري الضخم، مع العلم أنها مجتمعة كانت قوى هامشية في تركيبة سورية الثقافية والسياسية قبل الثورة وحتى خلال العام الأول من الحركة الثورية التي كانت تعكس رؤية شعبية تشاركية، لا تميز بين المناطق والانتماءات الدينية أو القومية أو الفكرية، مع تمييزها الوحيد المستند إلى الموقف السياسي بين مؤيدي الثورة ومؤيدي النظام. طبعًا لا تتناقض ممارسات قوى الاحتلال الميدانية تجاه النسيج الاجتماعي السوري مع رغبة كل من هذه القوى في سيطرتها على كامل الجغرافية السورية، وذلك انطلاقًا من ثلاثة عوامل رئيسية هي:
- – تفكيك البنية الاجتماعية السورية، ما يسهل على المحتل التحكم في الشارع السوري.
- – تصعيد الصراع السوري- السوري على أسس طائفية أو قومية أو مناطقية، ما يهمش من الصراع مع المحتل.
- – بناء مليشيات تابعة وخاضعة بشكل مطلق للمحتل استنادًا إلى تعزيز الانتماءات ما قبل الوطنية والمصلحية، ما يجعلها على تناقض كامل مع سائر القوى الوطنية السورية.
استنادا إلى ما سبق من عرض لطبيعة الأهداف والصراع الدولي في سورية أولًا، وإلى آليات السيطرة الدولية على سورية ثانيًا، يصبح من الضروري التساؤل حول الرؤية الدولية لمستقبل سورية الذي يسمى إعلاميًا بالحل في حالتي توافق المجتمع الدولي أو عدم توافقه، وهو ما سوف نحاول مقاربته في القسم الثاني.
ثانيًا: تبعات السياسات الدولية على سورية الأرض والشعب:
نسلط الضوء في هذا القسم على أبرز ملامح سورية القادمة وفق الرؤى الدولية، سواء حدث ذلك عبر توافق المجتمع الدولي على مسار الانتقال، أم جرى الانتقال من دون توافق دولي، على الرغم من صعوبة البت في ذلك منذ الآن، لكني أعتقد بإمكانية تحديد ملامحها العامة استنادًا إلى فهم أهداف المجتمع الدولي وآليات سيطرته التي تناولناها في القسم الأول. وسوف نوضح ذلك من خلال استعراض بعض الاحتمالات المتداولة ونحاول التمييز بينها وتحديد احتماليتها وحدودها وهي:
* الطائفية:
في البداية لا يتطلب تطييف أي مجتمع كان، فصلًا جغرافيًا كاملًا بين مكوناته الدينية سواء الطائفية منها أم الإثنية، وإن كان ذلك نتيجة محتملة لتصاعد الصراع الطائفي لاحقًا. وهو ما ينطبق اليوم على الحالة السورية التي تصاعد فيها الخطاب الطائفي بفعل ممارسات النظام أولًا، وقوى المعارضة التقليدية ثانيًا؛ لا سيما الإسلاميين منهم، والمجتمع الدولي وتحديدًا الإقليمي ثالثًا. لنصبح أمام تصاعد واضح في النهج الطائفي، كما يتجلى سياسيًا في هياكل المعارضة وبعض اجتماعاتها ذات التوصيف الطائفي، مؤتمر العلويين، المسيحيين السنة، الشيعة، وتجلى ميدانيًا في مليشيات عسكرية طائفية متعددة شيعية وسنية، وأحيانًا مسيحية ودرزية، الأولى محسوبة على النظام، والثانية على المعارضة، وهما الأبرز والأقوى والأكثر انتشارًا في الوقت الراهن.
طبعًا لا يعني تصاعد الحالة الطائفية ميدانيًا؛ انقسامًا سياسيًا على أساس طائفي بالضرورة ، بمعنى تحول سورية إلى ثلاث أو أربع دول طائفية. كما لا يعني فصلًا ديموغرافيًا بين الطوائف، كأن تتحول محافظة ما إلى لون طائفي محدد (سني، شيعي)، يمنع على المختلف طائفيًا دخولها بغرض العمل أو الإقامة أو ربما السياحة أيضًا. ولا يمكن إنكار وجود بعض التجمعات ذات الصبغة الدينية أو الطائفية في سورية حاليًا، كما لا يمكن تجاهل سيطرة المليشيات الطائفية على بعض المدن والبلدات السورية، ومحاولة فرضها نمطًا اجتماعيًا طائفيًا (وقانونيًا إن أمكن)، وهي بالضبط آلية تطييف المجتمع والنظام السياسي كما خبرناها في دول الجوار. هذه الحالة الطائفية القسرية مدعومة دوليًا من إيران وتركيا بالحد الأدنى، ومدعومة كذلك من أميركا وروسيا لكن لا داعي للجدال حول ذلك الآن، لذلك فهي تفتح الباب أمام تصاعد الصراع الطائفي مستقبلًا وأمام ارتفاع مستوى الاستقطاب الطائفي لدرجات مقلقة ومخيفة قد تصل في أحد مراحلها إلى ممارسة جرائم طائفية ممنهجة واسعة النطاق بحق الآخر الطائفي (شهدنا ذلك بشكل محدود في السنوات الأخيرة)، ما سوف يساهم في نزوح طائفي وتجمعات طائفية داخل مناطق خاضعة لسيطرة مليشيات عسكرية من اللون الطائفي ذاته.
في كل الأحوال لم أتطرق إلى هذا الاحتمال في أي من مقالاتي السابقة، ولا أرغب في التطرق إليه راهنًا انطلاقًا من إدراكي لوعي الكتلة الاجتماعية السورية هذا الخطر ورفضها له وقدرتها على مجابهته، لكن لا يلغي ذلك وجود هذه الحالة اليوم وتنامي قاعدتها الاجتماعية أيضًا. ومن ثم فخطر الانقسام الطائفي (انقسامًا وليس انفصالًا أو فدرلة)، قائم استنادًا إلى الحسابات الدولية، لكنه بعيد المدى وفق الحسابات الشعبية السورية، أما الواقع الديمةغرافي فهو قابل للتغيير مع مضي الزمن، ولنا في تجارب شعوب أخرى مثالًا على ذلك، وخصوصًا العراق قبل الاحتلال الأميركي والإيراني وبعده.
* الانفصال:
الانفصال هو انشطار دولة قائمة إلى دولتين أو أكثر، وهو أمر يبدو مستبعدًا في الحالة السورية نتيجة اعتبارات عدة، من دون أن نستبعد حصوله في حالة تصاعد الصدام الدولي على سورية. حيث تتعارض مجمل مصالح الدول الفاعلة (المحتلة) في سورية -باستثناء أميركا والدولة الصهيونية- مع خيار انفصال جزء من الأرض السورية عنها، حتى في ما يخص مناطق الحكم الذاتي الكردي لذا فجميعهم يعارضونه. وهو ما تجلى سابقًا عند محاولة انفصال إقليم كردستان العراق بدعم أميركي قبل بضعة سنين وبالتحديد في 2017. في حين تتوافق مصالح أميركا والدولة الصهيونية مع سيناريو الانفصال وتشظي الدول، من العراق وسورية إلى ليبيا والمغرب والبقية، إذ تنطلق المصلحة الأميركية من حماية قاعدتها العسكرية (الدولة الصهيونية) والحفاظ على تماسكها، وعليه فسورية لم -ولن- تشكل قاعدة عسكرية أميركية متقدمة في المنطقة، بما يشمل قوات سوريا الديمقراطية أيضًا. في حين تنطلق دول الاحتلال الأخرى كلها من كون سورية قاعدة رئيسية في مشروع هيمنتهم أو تمددهم في المنطقة، فسورية مركز النفوذ الإيراني تجاه المنطقة العربية، ولا سيما في حماية سيطرتها على كل من لبنان والعراق، وكذلك سورية هي خط التماس الوحيد لتركيا مع المنطقة العربية، فضلًا عن أهميتها للأمن القومي التركي، وروسيا هي موقع قاعدتها العسكرية الوحيدة في المنطقة حتى الآن.
وعليه فإن الرؤية الأميركية والصهيونية تتناقض مع الرؤية الروسية والتركية والإيرانية، في ما يخص الموقف من الانفصال، لكن على الرغم من الميل الأميركي والصهيوني نحو تقسيم الدولة السورية، من أجل ضمان تفوق الدولة الصهيونية على مجمل دول المنطقة، فإن تحقيق هذه الرغبة تصطدم بمعارضة إقليمية واضحة، دفعت؛ وتدفع دول الإقليم إلى التقارب على الرغم من الاختلاف من أجل مجابهة الرغبة الأميركية، تمامًا كما حصل بعد استفتاء إقليم كردستان العراق، وأيضًا بعد الإصرار الأميركي على دعم سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على جانبي نهر الفرات، المتجاهلة انعكاساتها على الأمن القومي التركي، ما دفع الأتراك والإيرانيين والروس إلى التقارب والتعاون من أجل كبح المخطط الأميركي في حينه. في كل الأحوال ونتيجة كل ما سبق أجد أن احتمالات الانفصال قليلة جدًا، إلا إن تصاعدات الخلافات الروسية والتركية والإيرانية على سورية قد تبلغ حد المواجهة المباشرة في مرحلة من المراحل، وهو احتمال مستبعد في المستقبل القريب وربما المتوسط أيضًا، لكنه يبقى قائمًا في ظل التنافس بينهم.
* الفدرلة:
توضح الفقرة السابقة صعوبة -إن لم نقل استحالة- انفصال مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية عن الدولة السورية الراهنة، استنادًا إلى العامل الخارجي وتحديدًا الإقليمي، ويتضاءل احتمال الانفصال أكثر إن تعمقنا في العاملين الجغرافي والبشري، إذ يصعب تكوين دولة كردية على جزء من الجغرافية السورية الحالية (أي في ظل غياب امتدادها التاريخي كاملًا) بحكم تداخل البنية الاجتماعية العربية- الكردية، ونتيجة غياب مقومات الدولة المستقلة الأساسية كالمعابر والإمكانات البشرية واللوجستية. لكن مع استبعاد احتمال الانفصال إلا أن احتمال الفدرلة وتشكيل حكم ذاتي سياسي أمر محتمل، بل مرجح أيضًا، إذ ما نظرنا إلى الموضوع من ناحية المصالح الدولية في سورية. وهو ما يحدث الآن بشبه توافق دولي، روسي إيراني أميركي وتركي، وإن كانت الموافقة التركية مشروطة.
إذ تربط تركيا موافقتها على إقامة حكم ذاتي كردي في سورية بشرطين رئيسيين، الأول فرضته تركيا ميدانيًا بتوافق دولي وصمت أميركي، من خلال سيطرة الجيش التركي والقوى المسلحة السورية المحسوبة عليها على الشريط الحدودي بين تركيا وسورية، وبعمق جغرافي يلبي المخاوف الأمنية التركية بحدها الأدنى وربما الأعلى. أما الشرط الثاني فيتمثل في استبعاد أي مشاركة سياسية أو عسكرية لـ BKK، أو أي تشكيل يماثله ويتحالف معه، وهو الشرط الذي حاولت الإدارة الأميركية السابقة (ترامب) مقاربته من خلال جلسات الحوار الكردي- الكردي الذي رعته في عامها الأخير، بغرض تلبية المطالبة التركية أو إيجاد حل يلبي مخاوفها بالحد الأدنى، ومن ثم يضمن موافقتها. طبعًا لم يصل الحوار إلى خواتيمه ولم يحقق حتى اللحظة الغرض الأساسي منه ويبدو أن الإدارة الأميركية الحالية غير معنية، أو لا تملك الوقت الكافي لمعالجة هذه الإشكالية.
* الانقسام والتقسيم:
للانقسام أشكال عدة ومتعددة نجد أغلب تجلياتها، في الحالة السورية اليوم، وخصوصًا اجتماعيًا، كالانقسام السياسي بين مؤيدي النظام ومناهضيه، والانقسام الطائفي الذي يزكيه المجتمع الدولي والمليشيات الطائفية المسيطرة ميدانيًا كما وضحنا سابقًا، إلى الانقسام القومي الذي يغذيه المجتمع الدولي أيضًا والقوى القومية المتعصبة. بل تشهد بعض مناطق سورية تجليات لانقسامات في مستوى البنية الفوقية، أي مؤسسات الدولة وهياكلها، من خلال سيطرة قوى الأمر الواقع وفرض حالة أشبه ما تكون بدولة داخل دولة كما في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية والمناطق المحسوبة على تركيا. فحتى اللحظة تتحكم قوى الاحتلال في هذه الانقسامات، وتسيرها وفق مصالحها الراهنة والمستقبلية، وتحرص على عدم تحولها إلى نموذج انفصالي مستقل بذاته ولو مؤقتًا. وهنا لا بد من استذكار بعض الحوادث البغيضة الناتجة نن هذا الانقسام، كحالات طرد السوريين وترحيلهم وفق انتمائهم الديني أو الطائفي أو العرقي أو القومي، فمن المؤسف حدوث ذلك في أكثر من منطقة ومن عدد لا يستهان به من قوى الأمر الواقع المختلفة من المحسوبة على النظام إلى المحسوبة على المعارضة.
* سورية في ظل توافق قوى الاحتلال:
عملت قوى الاحتلال على تقسيم سورية اجتماعيًا وبالتحديد طائفيًا وعرقيًا بغرض تسهيل تحكمها في المجتمع السوري عبر إثارة النعرات الصدامية في ما بينه، كما عملت على تقسيم سورية جغرافيًا (من دون انفصال) بشكل يعكس الحد الأدنى من مصالحهم أولًا، ويكبح -ولو مؤقتًا- احتمالات الصدام في ما بينهم ثانيًا. طبعًا لا يعني الانقسام المجتمعي فدرلة الدولة تلقائيًا بناء على طبيعة الانقسامات الاجتماعية وهويتها، بل يؤدي غالبا إلى تطييف النظام السياسي، في حين تتطلب الفدرلة مزيجًا متطابقًا بين التقسيم المجتمعي والجغرافي، وهو ما يتوفر نسبيًا في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية. لذا يبدو أن الدولة السورية المحتمل التوافق عليها دوليًا، ذات نظام سياسي طائفي أولًا، وفدرالي ثانيًا.
* سورية في ظل تصادم قوى الاحتلال:
لا يمكن تجاهل احتمال تصادم قوى الاحتلال الخارجية بشكل مباشر على أرض سورية مستقبلًا، نظرًا إلى مدى تعارض مصالحها وطموحاتها في سورية وحولها، لذا قد نشهد صدامًا عسكريًا محتدمًا في ما بينهم، إن نجحت الولايات المتحدة الأميركية في التقليل من مخاوفهم من مخططاتها تجاههم، وكذلك إن نجحت في إثارة حماسهم وتنافسهم على سد الفراغ الذي تتركه، ولو نسبيًا. طبعًا لن نتطرق الآن إلى دور الشارع السوري في استثمار هذه المرحلة، بقدر ما نود تسليط الضوء على تأثير ذلك في شكل سورية وطبيعتها ونظامها المستقبلي، بعد حسم الصراع لصالح محتل وحيد، مع عدم تناسي احتمال تشظي سورية إلى دولتين أو ثلاث يحتل كل منها دولة من الدول المتصارعة على سورية. إذ أعتقد أن تطيف النظام السياسي السوري القادم أمر محسوم في حسابات القوى الخارجية، وكذلك بما يخص الفدرلة وبالتحديد في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، وإن كانت بعض قوى الاحتلال ترى بالحكم الذاتي الثقافي حلًا وسطيًا مقبولًا لها وللنظام الإقليمي والدولي. وسوف يؤدي تصادم قوى الاحتلال وصراعها إلى التقليل من تبعات الانقسام الجغرافي على بنية المجتمع السوري (إلا لو قسمت سورية نتيجة الصراع الدولي عليها)، كما قد يساهم في إنهاك قدرات القوى المسيطرة واستنزافها، ما سوف ينعكس إيجابيًا على قدرات المقاومة الشعبية لاحقًا.