مظاهرة بستان القصر.. منبر الثورة الحلبية

نوفمبر 9, 2022

ورد فراتي

مقالات

بعد دخول الثوار إلى مدينة حلب في تموز عام 2012، وتحريرهم عدداً من أحياء المدينة بشكل حرف U، باتت تُعرَف باسم “القسم المُحرَّر” من المدينة، فيما حافظ النظام على سيطرته على عدد من الأحياء بين الأحياء المحررة، نشأ بين القسمين خط رباط طويل، تخلّلَتْه عدة معابر سلكَها المدنيون بين قسمي المدينة، والتي تناقصَت تدريجياً حتى اقتصرَت على معبر بستان القصر أواخر عام 2012، أو “معبر الموت” كما بات الإعلام يعرِفه، بسبب استشهاد عدد من سالكيه نتيجة قنص جنود النظام المتمركزين في مبنى القصر البلدي، أو مبنى الإذاعة المشرِفَين عليه.

شكّل معبر بستان القصر فرصة ليس فقط للموظفين أو طلبة الجامعة الذين كانوا يقطعونه من المناطق المحررة باتجاه المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وليس فقط للمدنيين من قاطني المناطق الخاضعة لسيطرة النظام الذين كانوا يدخلون منه إلى القسم المحرر لتأمين المواد الغذائية الأساسية، التي توافرَت فيها بأسعار أقلّ منها في مناطقهم؛ بل أيضاً بالنسبة للثوار والناشطين من قاطني الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام، والذين باتوا يتحركون في أيام الجمع عبره إلى القسم المحرر، للمشاركة في تظاهرة حيّ بستان القصر الأسبوعية، بعد أنْ انتهى الحراك الثوري في أحيائهم مع تحول المدينة إلى منطقتي سيطرة.

حراك حلب الثوري قبل التحرير 

تأخّر الحراك الثوري في مدينة حلب عن قريناتها من المدن السورية الأخرى، فلم يشهد زخماً ملحوظاً في عموم المدينة حتى أواخر عام 2011، التي بدأ فيها الحراك يشهد تزايداً ملحوظاً في عدد نقاط التظاهر اليومية في المدينة، وفي حجم التظاهرات وأعداد المتظاهرين، التي وصلَت ذروتها أواسط عام 2012 قبيل دخول الجيش الحر إلى المدينة، الذي قسّمها إلى منطقَتَي نفوذ وسيطرة.

لكنّ انقسام المدينة هذا كان سابقاً على دخول الجيش الحر إليها، فقد تفاوَت زخم الحراك الثوري فيها بين الأحياء “الراقية” نسبياً، التي لم يستطع حراكها تجاوز عتبة “المظاهرات الطيارة”، وبين الأحياء الشعبية التي برزَت أسماؤها كحواضن للثورة السورية، وهي نفسها الأحياء التي شكّلَت القسم المحرر من المدينة لاحقاً، مثل أحياء صلاح الدين والشعار والصاخور وطريق الباب، إضافة إلى حي بستان القصر الذي أشرفَت على حراكه تنسيقية حيّي بستان القصر والكلاسة بطريقة مميزة، حتى باتت شوارع الحي تشهد مظاهرة مسائية يومية، يرتَصِفُ فيها الثوار أمام “قاشوشهم” مُردِّدين هتافات الثورة السورية وأهازيجها، وتنقُلها مباشرة كاميرا المكتب الإعلامي في الحي على القنوات الإعلامية المهتمة بمتابعة الشأن الثوري، وهو ما جعل الحي قِبلةً لثوار المدينة من الأحياء “الغربية”، الذين كانوا يقصدونه لاستراحة ثورية مُتنعِّمين بساعة من التظاهر دون الجري هرباً من “شنتيانات” الشبيحة أو دوريات الأمن.

كان دخول الثوار إلى حلب إعلاناً بشكل أو بآخر عن انتهاء مرحلة الحراك السلمي في المدينة، وتحول المسار الثوري فيها إلى معركة تحرير تهدف لإخراج المدينة بكلِّيَّتها عن سيطرة نظام الأسد، وذلك بعد تحرير ريفي حلب الشمالي والشرقي، خاصّة مع التحول الذي طرأ على شكل المجموعات التي كان يقمع بها النظام الحراك الثوري في المدينة، والتي لم تعد تقتصر على دوريات فروع الأمن أو مجموعات “الشبيحة”، بعد انتشار حواجز “جيش النظام” في الكتلة المتبقية تحت سيطرته من المدينة، وهو ما عنى بالنسبة للثوار أنّ أيّ مظاهرة ستُواجه بالرصاص الحي مباشرة، بصورة أعنف من حالات إطلاق الرصاص الانتقائيّة التي كان النظام يمارسها بشكل جراحي، لنشر الرعب بدرجة معينة لا تصل إلى تفجير غضب الأهالي فيخرجون بكلّيّتهم عليه، وهو ما كان واضحاً في العدد الأسبوعي للشهداء والجرحى في مظاهرات المدينة في النصف الأول لعام 2012، كأنّ أحداً يوجه الشبيحة لتحقيق عدد معيّن من الضحايا، وهو الاستنتاج الذي أكّده لاحقاً مُنشَقُّون عن فروع نظام الأسد الأمنية في المدينة.

لذلك توقفَت المظاهرات بشكل كامل في الأحياء الخاضعة لسيطرة النظام في المدينة، بينما اقتصرَت مظاهرات الأحياء المحررة -التي كانت تخرج بشكل يومي قبل التحرير- على مظاهرات أيام الجمع في نقطتين أو ثلاث نقاط في المدينة، كان أبرزها وأكبرها مظاهرة حي بستان القصر.

مظاهرة بستان القصر الأسبوعية

بعد التحرير تحوّل أفراد تنسيقية حيّي بستان القصر والكلاسة إلى سدّ الحاجة المتزايدة لحيّهم مع حالة الفراغ في السلطة التي نشأَت عن التحرير، فشكل بعض أفراد مجموعة الحماية السابقة للمظاهرات كتائب عسكرية، رفدَت جهود الثوار في معركة التحرير، كان أبرزها مجموعة “أحمد دبيح”، العسكري المنشق من أبناء عائلة “سندة”، والذي أصبح في فترة قصيرة أحد أبرز قادة الثوار العسكريين.

بينما افتتح المكتب الإغاثي للتنسيقية والذي كان ينشط سراً سابقاً مقرّاً له، وبات يجمع بيانات العوائل الأكثر حاجة من الحي، لتوزيع مساعدات إغاثية لها على شكل سلل غذائية كانت تدخل إلى المدينة من الحدود السورية التركية عبر الريف المحرر، فيما فعّل آخرون منشآت خدميّة عامّة في الحي شملَت طبية ومدرسة ابتدائية ومكتباً خدميّاً وضابطة شُرطيّةً باسم أمن الثورة للحفاظ على ممتلكات الأهالي.

أما “أبو مريم” هتّاف الحي سابقاً، فقد اختار أن يحافظ على الحالة المميزة لحراك الحي الثوري من فترة ما قبل التحرير، فأعاد تنشيط مظاهرات الحي الذي اشتهر بها، من خلال مظاهرة أسبوعية تخرج فيه بعد صلاة الجمعة، كان يقصدها الثوار من مختلف أحياء المدينة في قسمها المحرر، وحتى من قسمها الخاضع لسيطرة النظام عبر معبر بستان القصر.

وفي فترة قصيرة تحوّلَت المظاهرة الأسبوعية هذه إلى منبر ثوري، لم يقصُر رسائله على المطالبة بإسقاط نظام الأسد وتحيَّة المدن السورية الثائرة، بل جاوزها إلى التنديد بقسوةٍ بكل تجاوز للثوار في الأحياء المحررة، وأصبحَت هتافات مثل: “يا للعار.. يا للعار.. شبيحة صاروا ثوار” اعتياديّةً في تظاهرات الحي، والتي كانَت تشير إلى بعض مقاتلي وقيادات الفصائل في المدينة، الذين يرتكبون أخطاءً بحق المدنيين لم تكن مبررة بالنسبة للثوار، الذين رأوا فيها نهجاً شبيهاً بنهج شبيحة الأسد.

بل إنّ هذه المظاهرة كانت منبراً لأغنيات ثورية كان يجهد “أبو مريم” بتأليفها تجاوباً مع أحداث المدينة والثورة، ولا أعتقد أنّ أحداً من حلب ينسى أغنية “حجي مارع حرامي”، التي غنّاها أبو مريم في المظاهرة احتجاجاً على تجاوزات بعض أفراد أكبر الفصائل العسكرية في المدينة “لواء التوحيد”، وقائده “حجي مارع” الذي كان يُعتبَر بمثابة حاكم عسكري للمدينة، فما كان من “حجي مارع” إلا أنْ أطلق حملة تفتيش واسعة على قطاعات اللواء العسكرية المنتشرة في المدينة، دون أنْ يتّخذ أي إجراء تجاه المظاهرة التي استمرّت تردّد هذا الهتاف شهرين أو يزيد!

فيما تحوّلَت أشهر أغاني مظاهرة الحيّ الثورية “حُر حُر.. حرية”، إلى الطابع الممَيّز لمظاهرات حلب.

استمرَّت مظاهرات حي بستان القصر الأسبوعية ترسم صورة الثورة السورية في حلب، وتؤرّق مع نظام الأسد كلّ من تسول له نفسه من الثوار ارتكاب تجاوزات بحق المدنيين في المناطق المحررة، وبقي “أبو مريم” يشرِف على هذه المظاهرات حتى اختطافه في آب عام 2013، من قبل تنظيم داعش في المدينة، والذي لم يرجع منه أبداً..

أما المظاهرة فقد بقي ثوار المدينة يؤُمّونها بعد صلاة الجمعة من كلّ أسبوع، هاتفين للحرية والكرامة وإسقاط النظام، حتى سقوط المدينة أواخر عام 2016..

المصـــدر

المزيد
من المقالات