حقاً هذه الأيام لا تشبه تلك، تغيرت الكثير من الأمور وبعضها استراتيجي أرسى قواعد جديدة، وبعضها نتائج منطقية لحالة استمرت لسنوات، لكن مهما تغير من أمور فلن تزول الذكرى أو تمحى الواقعة، تلك كانت من الأيام التي لا تنسى، لا تنساها إيران وأذرعها، معارك ريف حلب الجنوبي وبالذات موقعة خان طومان في ذات الريف الحلبي الذي يكثر التكهن هذه الأيام عن قرب المعركة الفصل فيه معركة رسم الخطوط النهائية لاتفاقات وتفاهمات بين الضامنين والقوى الفاعلة، لم يستطيعوا ترسيمها سلاما أو مواربة.
تغيرت أمور كثيرة اليوم أهمها فقدان الأمل فلا تضحيات دون أمل، والأمل اليوم تسحقه الاجتماعات والتسويات والمقايضات بعيداً عن الميدان، فضلاً عن الكارثة الإنسانية الكبرى التي تمر على المنطقة، ريف حلب الجنوبي ومعارك مرّغت فيها أنوف الغزاة بالتراب أولئك الذين جُلبوا من إيران ولبنان وباكستان وأفغانستان ليقاتلوا الشعب السوري في أرضه فكانت لهم هذه الواقعة التي سجلت في دفاتر إيران وحرسها الثوري ومليشياتها كإحدى الهزائم الكبرى وهذا حقاً.
قبل أربعة أعوام وبضعة أشهر كانت ترد مكاتبنا وغيرنا من الصحفيين والمشتغلين بنقل الأخبار صورٌ وأنباء تكشف عن حجم الضربة التي تلقّاها الحرس الثوري في خان طومان وتكشف عن قوة الفصائل الموحدة ذات السقف المرتفع. الثوار الذين يقاتلون في أرضهم دون سقوف سياسية ترسم لهم حدود التحرك وتحدد المدى المجدي لأسلحتهم. حتى إن إعلام النظام وإيران ومنْ والاهما لم يكن باستطاعتهم مجاراة الهزيمة أو التغطية عليها ولا نكرانها فتارة يقللون من حجم الخسائر وتارة يعتبرونها معارك هامشية.
وأذكر جيداً كيف تفتقت قرائحهم عن رواية ملحمية تحول ما نبثّه من أخبار عن المعركة إلى حالة فدائية “استشهادية” بطولية تشابه الملاحم الطائفية التي يشتغل عليها أتباع إيران في المنطقة فعنونت مثلا صحيفة “قانون” الإيرانية خبرها عن الهزيمة طومان بـ “حلب أصبحت كربلاء”. بينما ذهب الجانب الرسمي الإيراني لاعتبار نصر الثوار نصراً أميركياً وإقليمياً فعلّق وقتها رئيس البرلمان الإيراني علي لاريجاني مدعياً أن الولايات المتحدة ودولاً أوروبية أرسلت سلاحاً نوعياً إلى الثوار في سوريا.
كل ذلك لم يغير حقيقة الهزيمة النكراء والنصر المؤزّر، خاصة أن صور القتلى والأسرى تملأ الشاشات فكانت هذه الواقعة الصفعة الكبرى لقادة الحرس الثوري الإيراني “داخلياً” فبينما كانوا يسوقون لشعبهم معلومات عن نصر سهل “دائماً” ومساهمات رمزية من خلال إرسال بعض المستشارين كانت صناديق القتلى تصل إلى مطارات إيران وفيها قادة كبار فحدث أن حركت المعركة كل الأوساط الإيرانية، فاجتمعت لجنة الأمن القومي الإيرانية على عجل لبحث ما جرى وطالب بعض قادة الحرس الثوري بتوجيه اللوم لقاسم سليماني قائد فيلق القدس وعرّاب مشاركة الميليشيات الشيعية في قتال السوريين، وآخرون طالبوا بإيقاف إرسال الإيرانين للموت في سوريا.
في ريف حلب الجنوبي أحداث ومعارك طوتها الأيام وبقيت آثارها واضحة فارقة، فهناك وفي إحدى تلك المعارك أصيب قاسم سليماني وهناك قتل اللواء حسن همداني القيادي الكبير في الحرس الثوري وقادة من الصف الأول، ومن شمال حلب أُطلق اللقب الشهير لحسن نصر الله “حسن زميرة”.. وها هو الريف الحلبي يعود اليوم ليصبح الهدف الأول لقوات الأسد لكن هذه المرة عودة مع روسيا التي غابت وقتها عن المعركة، حتى إن ثمّة من حمّلها مسؤولية الهزيمة إذ تركت الميليشيات دون غطاء ناري أو استخباري وتخلت عن قصفها العشوائي للمنطقة مما ساعد في الهزيمة.
وهي أي روسيا كانت ترسل لإيران رسائل من دم مفادها “أنها سيدة المشهد السوري دون شركاء”، ويبدو أنها اليوم تريد محو الذكرى بدفعها قوات الأسد والميليشيات للمعركة بعد أن أفشلت خلال الأيام الماضية كل مساعي الهدنة أو حتى التهدئة بل زادت من قصفها الذي طال مناطق كانت بعيدة عن مسرح العمليات، فضلاً عن خطوات تقوم بها وتكررها قبل المعارك الكبرى تتمثل ببيانات تكشف عن حجم الخسائر الكبيرة لقوات الأسد واتهامات للفصائل بافتعال الهجمات وقصف المدنيين… بيانات عن استهداف للقوات الروسية والكثير من الكذب التسويقي غير المستغرب.
لكن ما قد يثير التساؤلات فعلاً هل تريد روسيا أن تنصّب نفسها العدو الجديد في معارك ريف حلب بعد أن أقصت إيران وتركت بعض المناطق شمال المحافظة لنفوذ حزب الله وهل تترك إيران هذه المعركة التي كلفتها الكثير على مدار السنوات التي خلت؟
أما فرص النصر أمام الفصائل فهي لا شك موجودة خاصة أن لهم في هذه الأرض ما يجعلهم الأقوى رغم أن كل الظروف تغيرت، فقد أصبحت هذه الجغرافيا جزءاً من خرائط الاتفاقات المتتالية (أستانا – سوتشي) كما وأدخلت في معادلة الطرق الدولية ومصالح الضامنين وتوافقهم واختلافهم فضلاً عن حجم الكارثة الإنسانية وطامة التهجير المتتالي الكبرى التي أحدثها السلوك الإجرامي الروسي كلها عوامل جديدة قد يصعب على الفصائل والناس تجاوزها اليوم في المعركة إلا إذا أعطَوا الأمل بأن أي نصر سيثمر نصراً ولن يثمر ورقة تفاوض في بازار قادم.