معارك كبرى وإمكانيات ضعيفة وانتصارات معجزة

نوفمبر 29, 2022

العقيد عبد الجبار العكيدي

مقالات

كنت قد بدأت في مقالي السابق بالكتابة عن معارك تحرير الثكنات العسكرية الكبرى، في سلسلة مقالات عن المعارك العسكرية التي شهدتها وعايشتها أو سمعت عنها من الثوار الثقات في الحقبة التي كنت فيها قائداً للمجلس العسكري في حلب، وفي مقالي هذا سأتحدث عن المعركة الحقيقية الأولى لكتائب الجيش الحر التي كانت في غاية الأهمية، وكان لهما كبير الأثر في سير المعارك اللاحقة وتطورها.

معركة تحرير معبر باب الهوى الأولى:

شبهها كثير من الثوار بغزوة بدر، لأن النصر فيها كان أشبه بالخيال، بل ضربا من المحال، وكانت بداية معارك التحرير.

فمع غروب شمس الثامن عشر من أيار عام 2012، النظام مازال بكامل جاهزيته، قوياً مسيطراً على معظم المناطق ومعنويات جيشه عالية، ولم يكن قد تعرض لهزائم حقيقية بعد، ممنياً جنوده ومؤيديه بنصر قريب، والقضاء على من سماهم بالإرهابيين، بعد أن اجتاحت جحافل قواته في الشهر الرابع من العام نفسه معظم القرى والبلدات في أرياف حلب وإدلب فأحرق البيوت واعتقل ونكل بالمدنيين.

جيش النظام في المعبر على أتم الاستعداد القتالي من حيث التحصين والتسليح والعتاد القتالي، معززا بكتيبة دبابات، وعربات الفوزديكا، يسانده الطيران الحربي والمروحي، بالإضافة الى مدفعية الفوج 46 الذي يبعد عنه أقل من 20 كم.

في الطرف المقابل ثوار متسلحون بالعزيمة والإيمان وعدالة القضية التي يقاتلون من أجلها، سلاحهم عبارة عن بنادق الصيد، الكلاشنكوف، بضع رشاشات (ب ك س)، قواذف (أ ر ب ج) فقط مع بعض القنابل اليدوية، وقليل من الذخيرة.

كان الثوار حينذاك قد بدؤوا بتنظيم صفوفهم وتوحيدها ضمن تشكيلات عسكرية، يقود معظمها ضباط منشقون، في حالة ثورية متميزة وحماس ومعنويات تعانق عنان السماء، بعيداً عن التعصب للفصيل أو القائد.

وبالرغم من قلة أجهزة الاتصال، وضعف التواصل، إلا أن المؤازرات أتت من كل حدب وصوب، من ريف حلب الغربي والجنوبي، ريف إدلب الشمالي، حارم، معرتمصرين،  ريف حلب الشمالي رغم بعده وانتشار حواجز النظام التي تعيق وصولهم إلى المنطقة إلا أنهم أبوا إلا المشاركة، بالإضافة إلى مقاتلين وعناصر منشقين من جميع المحافظات، فكانت الملحمة الكبرى، التي تعتبر المعركة الأولى الحقيقية للجيش الحر، وكانت الشرارة التي أشعلت معارك التحرير في المنطقة، خطط لها وقادها أسد مغوار لا يشق له غبار، ابن مدينة سردين في ريف إدلب، العقيد محمد رزوق أبو علي، وإلى جانبه ثلة من الضباط والقادة الثوريين من خيرة ما أنجبت الثورة.

تجمع المقاتلون في رأس الحصن، وألقى فيهم قائدهم خطبة حماسية ألهبت المشاعر والأحاسيس الوطنية، حضهم فيها على الانضباط والثبات في المعركة، واستحضر قول الله تعالى “وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين”، مبيناً لهم معاني التضحية، قائلاً لهم: ” نحن ذاهبون إلى الشهادة”.

شرح العقيد الخطة العسكرية التي أعدها مع مجموعة من الضباط، قَسَم القطاعات وحدد محاور القتال، وأوكل المهام القتالية للقادة الذين كان أبرزهم، المقدم محمد بكور أبو بكر، الرائد خالد العيسى، الملازم أول الشهيد أحمد الفج، النقيب الشهيد مصطفى عبد الرزاق، النقيب الشهيد محمد اليوسف، النقيب علي شاكردي، المقدم عبد الرحيم الحمود أبو فريد، الملازم أول مرشد الخالد، والمقدم جهاد الأحمد، العقيد عبد اللطيف عبد اللطيف، المقدم عبيد عبيد، الرائد أنس إبراهيم، المقدم حكمت عبد الوهاب، النقيب أحمد الحلو.

كانت ساعة الصفر مع آخر ضوء وبدأ الثوار بالتسلل إلى الساحة الكبرى في المعبر القديم الواقع بالقرب من مدينة سرمدا، حيث مفرزة الأمن العسكري، ومفرزة الأمن السياسي، وكتيبة الدبابات، ودارت رحى معارك عنيفة، أبدت فيها قوات النظام مقاومة شرسة، وكعادته في الإجرام والانتقام من المدنيين العزل، صب النظام جام غضبه وحمم مدفعيته، وقذائف دباباته على المدنيين في القرى الآمنة، للضغط على الثوار لإيقاف الهجوم.

بعد منتصف تلك الليلة المقمرة أنهك المقاتلون من التعب، وقلت الذخيرة بين أيديهم، وكادت المعركة أن تتوقف بعد تعرض اثنين من معاوني قائد المعركة للإصابة، هما المقدم أبو بكر، والرائد خالد العيسى، الذي فقد إحدى عينيه، ما أدى لخروجهم من المعركة، بالإضافة لإصابة النقيب أحمد الحلو.

إصابة الضباط زادت من إصرار قادة المعركة على استكمالها حتى النصر، ساعدهم على ذلك الموقف الأصيل للقائد الثوري الحر حمزة الشمالي أبو هاشم، ابن مدينة حمص العدية، الذي كان قد حصل على شحنة بسيطة من الأسلحة الخفيفة وذخائرها، كان أهمها قذائف (أ ر ب ج) جديدة، لإيصالها إلى محافظة حمص، وعندما علم بالمعركة أعطى تعليماته لمرافقي الشاحنة بتوزيعها بالكامل على المشاركين في المعركة دون أن يعرفهم أو يسألهم لأي فصيل يتبعون، فكان لتلك القذائف والذخائر دور مهم في ثبات المقاتلين، وتدمير دبابات العدو، وحسم المعركة التي استمرت بعد وصول مؤازرات جديدة من كل ثوار المنطقة والمناطق المجاورة.

مع بزوغ الفجر اقتحم الثوار كتيبة الدبابات يتقدمهم قائد المعركة، وحمي الوطيس، واشتعلت النيران في دبابات ومدرعات النظام، وبدأت فلول قواته بالانسحاب باتجاه المعبر الجديد، بعد أن تكبد خسائر بشرية كبيرة، زادت عن 125 قتيلاً من جنوده وضباطه، وتدمير \ 22\ مدرعة وآلية.

زئير الأسود في أرض المعركة سُمع صداه عند كل الأحرار المتابعين لمجريات المعركة، وبدت ملامح النصر تظهر، وعلت التكبيرات من كل مساجد المنطقة، معلنة البشرى بنصر معجزة، إلا أن الزئير كان حزيناً فيه غصة ألم على مقتل قائد المعركة وضيغمها، الذي أحبه الجميع، فقد ارتقى شهيداً، مقبلاً غير مدبر، ملاقياً وجه ربه كما تمنى.

لم يستوعب النظام الصدمة ولم يتقبل هذه الخسارة الكبيرة التي ستؤدي لفقدانه أهم منفذ حدودي دولي، فبعد ثلاثة أيام أرسل رتلاً ضخما من الدبابات وناقلات الجند المدرعة من الفوج 46 (قوات خاصة)، مروراً بمدينة الأتارب، لتعزيز ومساندة قواته التي تجمعت في المعبر الجديد، في محاولة يائسة للحفاظ عليه.

تداعى الثوار من كل أبناء المنطقة بإمكانياتهم البسيطة للتصدي للرتل ومنعه من الوصول إلى المعبر، وهنا برزت حنكة وخبرة القادة العسكريين، فكانت خطة النقيب مصطفى عبد الرزاق، والملازم أول أحمد الفج، والشيخ عصام الصالح، بنصب كمين محكم عند الممر الإجباري للرتل، بين حرشي كفر كرمين، عند مفرق التوامة، فتم تدمير الرتل، واغتنام عربات بيك آب عدد ثلاثة مركب عليها رشاشات دوشكا، وكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، وكانت أول مرة يمتلك فيها الثوار رشاشات الدوشكا، وتم قتل عدد كبير من عناصر النظام، وأسر كثير منهم، وارتقى العديد من أبطال الجيش الحر شهداء، أذكر منهم الشيخ عصام الصالح، قائد كتيبة شهداء حزانو، الذي قُتل غدراً بعد أن أعطى الأمان لأحد عناصر النظام.

معركة تحرير مدينة الأتارب:

أدرك الثوار أنه لن تتوقف محاولات النظام إرسال الأرتال والمؤازرات من الفوج 46 إلى قواته التي أصبحت شبه محاصرة في معبر باب الهوى، فكان لا بد من تحرير مدينة الأتارب التي تمر أرتاله عبرها.

وفي الثامن والعشرين من شهر أيار 2012، شنت كتائب الثوار بقيادة الملازم أول أحمد الفج، ومشاركة ثوار المنطقة وضباطها المنشقين، هجوماً عنيفاً على قوات النظام في المدينة، ودارت معارك طاحنة في شوارعها استمرت ثلاثة أيام، أسفرت عن طرد قوات النظام من المدينة، وتمركزها في مبنى البلدية، ومبنى قيادة المنطقة، وعلى أطرافها، وقد ارتقى خلال هذه الملحمة أبطال سيخلدهم التاريخ، وليت مقالي يتسع ليتشرف بذكرهم جميعاً، اذكر منهم الشهيد النقيب مصطفى عبد الرزاق، والشهيد النقيب محمد اليوسف.

المحاولة الأخيرة- رتل باتبو

في صباح السابع والعشرين من شهر رمضان الموافق 14 آب 2012، كانت المحاولة الأخيرة للنظام، حيث أرسل رتلاً هو الأضخم لم تشهد المنطقة مثله من قبل، حيث انطلق من معسكر الطلائع في المسطومة، الذي كانت تتجمع فيه قواته الخاصة، رتلاً مدججا بكل صنوف الأسلحة، يقوده قائد الفوج 46، متوجهاً إلى المعبر، فاستنفر كل أبناء المنطقة من أرياف إدلب وحلب، عسكريين ومدنيين لملاقاة الرتل والتصدي له، وكانت الملحمة الكبرى الجديدة حين وصوله إلى بلدة باتبو، فتم تدمير الدبابات وحاملاتها، ودبابات النجدة، وكاسحات الألغام، واغتنام دبابتين، وحاملتي دبابات، وكثير من الأسلحة والذخيرة والآليات، ولأول مرة يصبح لدى الجيش الحر دبابات، وتم حرق الرتل وتدميره بالكامل عدا دبابتين استطاعتا الوصول إلى المعبر، وتحت غطاء القصف الجوي العنيف من الطيران الحربي والمروحي، استطاع قائد الرتل الهرب مع ما تبقى من عناصر حامية المعبر باتجاه إدلب والمسطومة.

ارتقى في هذه المعركة، التي استمرت منذ الصباح وحتى العاشرة ليلاً، كثير من الشهداء، أذكر منهم: الأستاذ أحمد غزال أبو أحمد، الملازم أول المنشق سعود المحمد، أبو الفاروق ابن مدينة الفرقلس، العسكري المنشق أحمد عواد، ابن الجولان المباع.

تحرر المعبر، وتحررت المنطقة بالكامل، وأصبح تحت سيطرة الجيش الحر ثاني منفذ حدودي، بعد معبر باب السلامة الذي تحرر قبله بأقل من شهر، لينسحب النظام جاراً ذيول الهزيمة، في أول فصول فقدان السيادة الوطنية.

وها أنا أكتب بعد أكثر من تسع سنوات، عن معارك تحرير سطرها الأبطال بدمائهم الطاهرة الذكية، لتكون منارة تنير الطريق نحو الحرية والكرامة، وتستلهم منها الأجيال القادمة الدروس والعبر، في التضحية والفداء، وقصص يرويها الأجداد للأحفاد.

المصـــدر

المزيد
من المقالات