كشفت مجلة “نيويوركر” الأمريكية عن ما يمكن اعتباره أضخم ملف من الوثائق السرية التي تفضح جرائم الأسد، والتي تربطه مباشرة بعمليات القتل والتعذيب الجماعي.
وفي ما أسمته المجلة “ملفات الأسد”، ونشرته الاثنين، سردت المجلة قصة نقل أكثر من مئة وثيقة مسربة من النظام السوري، تم دفنها في بيوت مهجورة وكهوف، قبل تهريبها بصعوبة خارج البلاد، وقد مر المحقق بما يقارب الـ11 حاجزا للثوار، تبعد 40 كم عن الحدود، في شاحنة مرت عليهم ما يقارب مئة مرة، لكنها مرت هذه المرة محملة بالوثائق.
وحال خروج المحقق، فقد توجه نحو سفارة غربية، حيث سلم الوثائق التي سلمها إلى كريس إنجلز، المحامي الأمريكي الذي يقود وحدة جرائم النظام في “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة”، المستقلة التي تأسست عام 2012 بعد الأزمة السورية، والذي كان يدرب المساهمين بالتحقيق في الجرائم الدولية في البلقان وأفغانستان وكمبوديا.
واستطاع المحققون في هذه الوحدة تهريب أكثر من 600 وثيقة خلال الأعوام الأربعة الماضية خارج سوريا، كثير منها من مؤسسات استخباراتية عالية السرية، كانت تسرب إلى مقر المنظمة في أوروبا الغربية، وبعضها تحت غطاء دبلوماسية، حيث يتم مسح الوثائق، وإعطاؤها رمزا ورقما، وحفظها تحت الأرض.
وفي الأعلى، في غرفة مؤمنة بباب حديدي، توجد خرائط مفصلة بالقرى السورية، والأدوار المحتملة للمشتبه بهم في الحكومة السورية على لوح أبيض، والشهادات مترجمة وتملأ الجدران، حيث يشرف إنجلز، الأصلع ذو الواحد والأربعين عاما، والانضباط والدقة العالية، على هذه العملية، ويتسلم مباشرة من المحللين والمترجمين.
أوامر بالتعذيب
وسلمت اللجنة مؤخرا ملخصا من أربعمائة صفحة يربط التعذيب الممنهج وقتل عشرات آلاف السوريين بسياسات مكتوبة وموافق عليها من رئيس النظام السوري بشار الأسد، ويتم تنسيقها عبر أجهزته الأمنية، وتنفيذها عبر عملائه الذين ينقلون “نجاحات” حملتهم إلى مشرفيهم في دمشق، بحسب التقرير.
ويتحدث الملخص عن الأحداث اليومية في سوريا عبر عيون الأسد ومساعديه وضحاياهم، ويقدم سجلا للتعذيب الذي ترعاه الدولة، غير المتخيل بشدته وقسوته.
الجديد في التقرير هو ربط هذا التعذيب، الذي كان معروفا في سوريا، بأوامر موقعة، إذ قال ستيفن راب، الذي قاد فرق التحقيق للجان التحقيق الدولية في رواندا وسيراليون لستة أعوام كسفير الأمم المتحدة في “قضايا جرائم الحرب”، لتقرير “نيوروركر” إن توثيق “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة” أغنى من كل شيء رآه وحقق فيه في هذا المجال، بحسب تعبيره.
وأشارت “نيويوركر” إلى أن هذه الحالة هي المرة الأولى التي يتم بها تحقيق بلجنة مستقلة تمولها حكومات لكن بدون محاكمات، بالإضافة إلى أن مؤسس اللجنة بيل ويلي، محقق جرائم الحرب الكندي الذي عمل مع لجان تحقيق عالية المستوى، غضب من الشريط الأحمر الجيوسياسي الذي يشكل متابعة قضايا من هذا النوع، ما دفعه للبدء بالعمليات الإجرائية من جمع الأدلة وتنظيمها ضمن قضايا، حتى قبل أن تصدر الإرادة الدولية بملاحقتها.
ووحده مجلس الأمن يستطيع تسليم هذه القضية للمحكمة الجنائية الدولية، وهو ما منعته روسيا والصين، باستخدام حق الفيتو، في أيار/ مايو 2014، إذ رفضت قرارا يمنح المحكمة حق التحقيق في جرائم الحرب التي ترتكبها كل الأطراف.
وقال ويلي لـ”نيويوركر” إن اللجنة حددت عددا من “المجرمين الحقيقيين من أجهزة الاستخبارات”، الذين دخلوا أوروبا، وهو يسعى للحصول على الدعم المحلي بالتحقيقات.
وتعمل هذه اللجنة في سوريا، التي أصبح عدّ قتلى أزمتها مهمة شبه مستحيلة، توقفت عنها الأمم المتحدة قبل عامين، لكن لجانا تقدر عدد القتلى بنصف مليون تقريبا، بمستوى قتل متسارع، بالإضافة لأكثر من خمس ملايين لاجئ خارج البلاد يحاولون الوصول إلى أوروبا، ما يستنزف قدرات البلدان التي تسعى لتأمين اللجوء أو الدعم الإنساني، وقد ساهمت الفوضى في سوريا في صعود تنظيم الدولة، أخطر التنظيمات الجهادية التي استخدمت سوريا كأرض لتوسيع مساحات إرهابها.
التمرد
وأشارت “نيويوركر” في تقريرها، إلى بدايات الثورة في سوريا، حيث دخلت سوريا في موجة الربيع العربي، التي انطلقت بعد أن حرق محمد البوعزيزي نفسه في كانون الأول/ ديسمبر 2010، حيث خرج مئات الآلاف في الشرق الأوسط مطالبين بالإصلاحات الديمقراطية والاقتصاد وإنهاء الفساد.
في سوريا، قال بشار الأسد، في كانون الثاني/ يناير 2011 لصحيفة “وول ستريت جورنال” إن ما يجري في المنطقة “وباء لم يؤثر بسوريا بسبب إيمان شعبه، فعندما يكون هناك بعد بين سياستك وقناعات شعبك واهتماماته فسيكون لديك هذا الفراغ الذي يسبب الفوضى”.
وكانت ثقة الأسد مرتبطة بعمل أجهزته الأمنية التي حافظت على سلطة عائلته منذ عام 1971، في البلد الذي بقي لمدة 48 عاما تحت حكم عسكري، لا يشهد المظاهرات.
في 30 آذار/ مارس 2011، خاطب الأسد الأمة السورية من مجلس البرلمان، وبدل أن يعلن الإصلاحات؛ أعلن نيته بقمع المظاهرات، معتبرا أن “سوريا تتعرض لمؤامرة عظيمة تصل إلى الدول الأجنبية التي تريد تدمير سوريا”، مشيرا إلى أن “هذه ليست نظرية مؤامرة، لكنها مؤامرة بحد ذاتها”.
وتابع الأسد، حينها، بقوله إن “دفن التحريض واجب أخلاقي وديني ووطني، وكل أولئك الذين يستطيعون دفنه ولا يدفنونه هم جزء منه”، مؤكدا أنه “لا تنازل أو حلا وسطا في ذلك”.
داخل خلية الأزمة
وبعد يومين، اتسعت المظاهرات في البلاد، وأسس الأسد لجنة سرية أمنية، أسماها: “خلية إدارة الأزمة المركزية”، لتنسيق القمع، وكان رئيسها محمد سعيد بخيتان، أكبر رجال حزب البعث الحاكم بعد الأسد، وكان بقية أفرادها – الذين كانوا من الموثوقين للأسد – يتنقلون دوريا بين أكبر المواقع في الجيش والوزارات والأجهزة الأمنية.
وكل ليلة، كانت خلية الأزمة تجتمع في “شعبة قيادة حزب البعث”، في وسط دمشق، وتناقش استراتيجيات قمع المظاهرات، ما يتطلب معلومات مفصلة عنل كل مظاهرة، ولأن الخلية كانت تطلب تقارير من اللجان الأمنية وأجهزة المخابرات في كل المناطق؛ قررت تعيين شخص للقيام بالعمل الورقي.
ومن بين المتقدمين، كان عبد المجيد بركات، الشاب ذو الـ24 عاما الذي أنهى دراسة الماستر في العلاقات الدولية، ويعمل مع وزارة التعليم، وفي مقابلته في نيسان/ أبريل، قابله مسؤول كبير اسمه صلاح الدين النعيمي، بعد أن تفحص سيرته الذاتية، وسأله إن كان يجيد استخدام الكمبيوتر، وما هي رؤيته لحل الأزمة، فأجابه بركات بقوله إنه “لتجنب رد مسلح، يجب أن تقوم الحكومة ببعض التنازلات والإصلاحات”.
تفاجأ بركات بقبوله، إذ أنه استدعي للتحقيق من المخابرات العسكرية أثناء دراسته، وسئل عما إذا كان لديه أصدقاء يشاركون في نشاطات سياسية معارضة للحكومة، كما أنه انضم منذ بداية الثورة لأحد التنسيقيات، ما جعله معارضا يشرف على أكثر الوثائق سرية من كل البلاد.
في معظم الأيام، كان بركات يتلقى أكثر من 150 صفحة، تصنف التفصيلات التي تهدد حكم الأسد (من رسوم على الجدران، ومنشورات، ومظاهرات)، وفي النهاية، التهديدات العملية من المجموعات المسلحة، وكان بركات يقرأها جميعها، ويقدم ملخصات، يستلمها النعيمي ويسلمها لخلية الأزمة لكل الاجتماع.
لم يسمح لبركات بدخول غرفة الاجتماعات، لكنه رأى أفرادها، وكان النعيمي يقدم تفاصيل في كل محضر اجتماع، ومن بين الضيوف الدائمين لها كان هناك كبار مسؤولي حزب البعث، ونائب رئيس النظام السوري بشار الأسد، وشقيقه الأصغر، ماهر، القائد العسكري النزق، المصنف بقائمة العقوبات الأوروبية على أنه “المشرف المبدئي على العنف ضد المظاهرات”.
في نهاية كل اجتماع، كانت الخلية توافق على خطة لكل قضية أمنية، ثم يوقع رئيس الخلية بخيتان على المحضر، ويسلمها للأسد في القصر الرئاسي، ثم علم بركات أن الأسد راجع الطلبات المقدمة، ويوقعها، ويرجعها للتنفيذ. وفي بعض الأحيان كان يراجعها، ويزيل إجراءات ويضيف أخرى، كما أنه قدم طلبات بدون استشارة خلية الأزمة، ما جعله يتأكد من أنه لا يوجد قرار أمني، مهما كان صغيرا، لا يتم بدون موافقة الأسد.
بعدما بدأ بركات في العمل لخلية الأزمة بفترة قصيرة، فإنه بدأ بتسريب الوثائق، إذ كانت المذكرات الأمنية تظهر أن الأجهزة الاستخباراتية كانت تستهدف المتظاهرين والناشطين الإعلاميية وتطلق النار عليهم عشوائيا، وهو ما كان بركات يصوره أثناء تواجده في الحمام، ويرسله إلى معارف له في المعارضة السورية، كانوا يرفقونه إلى منظمات إخبارية عربية.
وكانت خطة بركات هي تسريب أكبر قدر ممكن من المعلومات ثم مغادرة البلاد، لأن كل اشتباه بالتهريب داخل الخلية كان يرفع الفرص بأن النظام، عاجلا أم آجلا، سيكتشف أنه كان وراءها.
المحققون
وينتقل تقرير “نيويوركر” المطول إلى جانب آخر، ففي أحد أيام تشرين الأول/ أكتوبر 2011، وبينما كان بيل ويلي يزور مبعدا ليبيا في النيجر، تلقى مكالمة من السفارة البريطانية، تتضمن طلبا بالتالي: بينما كانت الأزمة السورية تنجرف نحو حرب أهلية، كانت السفارة تبحث عن شخص يدرب الناشطين على توثيق انتهاكات حقوق الإنسان.
أخبر ويلي المتصل أن عددا من المنظمات تصنف الانتهاكات، لكن كان لديه عرض مقابل، وهو تدريب السوريين على جمع نوع من الأدلة يمكن أن تمثل إدانات بشكل أفضل، وتعقب السير الإجرامي صعودا لأعلى ما يمكنه أن يصل إليه. فبدلا من إظهار الجرائم؛ كان ويل يريد أن يربطها بالنظام، سواء قام المجتمع الدولي أو لم يقم بالتحقيق، وهو ما وافقت عليه السفارة البريطانية.
وتقاطع عمل ويلي القديم مع عودة القانون الجنائي الدولي ميدانيا، إذ إنه منذ محاكمات نورمبيرج وطوكيو، لم يكن هناك تحقيق دولي حتى وقعت جرائم البلقان في التسعينات، وأدت إلى لجنة يوغسلافيا، والتي كان ويلي، الذي تخرج بشهادة دكتوراة بتخصص القانون الجنائي الدولي من جامعة يورك – برسالة حول جرائم الحرب وتطور القانون الإنساني الدولي – محللا ها، وعمل في رواندا بالتحقيق بجرائم الحرب، وفي الكونغو كان المحقق الأول للمحكمة الجنائية الدولية.
أثناء عمله مع المحكمة الجنائية الدولية، وصل ويلي لقناعة أن النظام القضائي الدولي كان متأثرا بـ”عجز” الإدارات العليا، فمنذ انطلاقها في 2002، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تسعة تحقيقات، وأنفقت أكثر من مليار دولار، وأدانت ثلاثة رجال: أميري حرب وسياسيين سابقين، وجميعهم من الكونغو، مما أصاب ويلي بخيبة أمل ودفعه ليصبح مراقبا إنسانيا للأمم المتحدة في العراق.
وبعد مغادرة العراق عام 2008، أسس ويلي شركة استشارات خاصة، أسماها “تساموتا”، تساعد الحكومات الغربية والأمم المتحدة في منع جرائم الحرب في البلدان المضطربة، عبر تدريب الشرطة والجيش والأمن بالتحرك بحسب القانون الدولي.
وفي تشرين الأول/ نوفمبر 2011، سافر ويلي إلى إسطنبول مع زميلين له في المؤسسة لتدريب السوريين على جمع الأدلة التي تفيدهم كأدلة لجرائم حرب، إذ اختار زميل له بعض الناشطين والمحامين السوريين لهذه المهمة، والذين أعجبت ويلي شجاعتهم، لكنهم لم يكونوا يعملون بفعالية.
وقال ويلي لـ”نيويوركر”، إن “ميلهم في هذه الأيام هو التحرك بالكاميرات والهواتف وتصوير جرائم النظام في المناطق المدنية ثم نشرها على اليوتيوب”، مشيرا إلى أن هذا غير مفيد للاستخدام كدليل جنائي، رغم المخاطر التي يتعرضون لها، إذ أن تصوير غارة جوية على مشفى، على سبيل المثال، لا يقدم دليلا على أن هناك مسؤولين كبارا خططوا لهم، وهذا ما يهم المجتمع الدولي.
“ملك الأدلة”
وعلم ويلي الناشطين الذين حضروا معه كيفية تصوير وقياس آثار المدفعية، وتحديد زوايا التأثير، وجمع الشظايا، وتحديد نوع السلاح، وحساب نقطة الإطلاق، لكن “الشيء الأكبر الذي أردت منهم التركيز عليه كان وثائق النظام”، معتبرا إياها “ملك الأدلة في العمليات الجنائية الدولية”.
وبعد الجلسات الأولى، دعا دويلي ستيفن راب، السفير الأمريكي لقضايا الجرائم الدولية، حينها، للحديث مع عشرات السوريين، إذ كان ويلي وراب يعرفان بعضهما من أيام لجنة رواندا، واتفقا على تأسيس “منظمة” لجمع الوثائق التي يمكن استخدامها يوما ما في المحاكم.
وانطلق المحققان من فكرة أن لجنة الأمم المتحدة لجمع انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا لم تمد صلاحيتها إلى حد الاتهامات، وبدل التعامل مع الوثائق، اعتمدت الأمم المتحدة على المقابلات التي أجرتها في مخيمات اللاجئين وعبر سكايب، “وهي أدلة غير متوفرة للاتهام”، بحسب راب، لأن الشهود يتحدثون بسرية، والمحاكمات علنية.
وعندما عاد الناشطون والمحامون، الذين أصبحوا محققين الآن، عادوا إلى سوريا، قدم ويلي خطة لإنشاء “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة”، وحددوا لها ميزانية، أمنتها بريطانيا فقط، في حين أن الحكومات الغربية رصدت مئات ملايين الدولارات لمشاريع إنسانية كل عام، لكنها، بحسب ويلي، “لا تقدم لهذا النوع من المشاريع، لأن ما تقوم به هو من اختصاص الحكومات أو الأمم المتحدة والمحكمة الجنائية الدولية”.
جمع الوثائق
وبالرجوع إلى بركات، قالت “نيويوركر” إن خلية إدارة الأزمة سائلت بركات عن التسريبات، مما جعله يغادر سوريا، لكن قبل تأمين محاضر الاجتماعات الموجودة في مكاتب أعضاءها، كما أنه خطط لسرقة المراسلات بين خلية الأزمة والمكتب الرئاسي، ورئيس الوزراء، ووزارة الداخلية، وهو ما قام في أحد الأيام، عندما جمع ما يستطيع من الوثائق، قبل أن يسافر ما يقارب مئتي وخمسين ميلا شمالا نحو الحدود التركية.
كان الجيش السوري يسيطر على المعبر الحدودي، لكنه استطاع الهرب عبر إلصاق أكثر من ألف ورقة على جسده، والدخول إلى فندق تحت اسم وهمي، قبل أن تدرك دمشق أنه غادر، وفي الشهر التالي، بعد أن غادرت والدته، خرج بركات للعلن، وأخبر الجزيرة أنه أراد إيصال الوثائق للمحكمة الجنائية الدولية.
بعد هرب بركات بقليل، نقلت الخلية اجتماعاتها من مقرب حزب البعث إلى مكتب الأمن القومي المحصن في دمشق، إلا أن انفجارا حصل داخل غرفة الاجتماعات في تموز/ يوليو 2012، وسط أنباء عن حصول انقلاب، وأدى لمقتل رئيس خلية الأزمة حسن تركماني، ورئيس مكتب الأمن القومي هشام بختيار، ووزير الدفاع وائل راجحة، وصهر الأسد عاصف شوكت، الذي كان نائب وزير الدفاع حينها.
في اليوم التالي، عنونت صحيفة “التايمز” البريطانية مانشيتها بالتالي: “واشنطن تبدأ التخطيط لانهيار الحكومة السورية”، ثم انشق رئيس وزراء النظام السوري رياض حجاب، والناطق باسم الخارجية السورية جهاد مقدسي، كما انشق اللواء الكبير المسؤول عن إيقاف الانشقاقات عبد العزيز جاسم الشلال، متهما الجيش بـ”تنفيذ مجازر ضد الانتفاضة الشعبية البريئة”، وأعلن “انضمامه لثورة الشعب”.
داخل الجيش السوري الحر
ووثق المحققون السوريون علاقاتهم داخل الفصائل الرئيسية في الجيش السوري الحر الذي سيطر على الأراضي، ولم يكن للثوار بداية “مصلحة بالتوثيق”، بحسب ويلي، الذي أضاف أنهم “كانوا يدخلون ويسيطرون على منشأة للنظام، ثم تخرج الهواتف، ويبدأ الصراخ وإطلاق النار في الجو، ثم يأخذون ما به ويسيطرون على الأسلحة، لأن هذا ما يحتجاونه، ثم يحرقونه ويخرجون”، مما يفوت كل الأدلة الموجودة.
وقال ويلي إن اللجنة أخبرت الثوار: “خذوا الوثائق بداية، وضعوها جانبا ليمكن إخراجها من البلاد، وضعوا ملاحظة متى تمت السيطرة عليها وأين، وضعوها في صناديق، وغلفوا الصناديق، ثم وثقوا انتقال الوثائق، لكن لا تتلاعبوا أو تضمنوا رصاصا في المواد”، لأن محامي الدفاع في المحكمة يمكن أن يناقش لإزالة هذه الأدلة.
وعادة يتعاون المحققون السوريون مع التنظيمات المسلحة عندما يهاجمون المباني الأمنية والاستخباراتية، لكن القوات الحكومية تحاول تدمير أي ملفات لم تستطع جلبها معها، وفي الأيام التي تلي انسحابها، تبدأ “قصفا كبيرا” على المواقع الأساسية، بحسب محقق كبير مع اللجنة، كما أن الأنابيب قد تنفجر وتدمر مئات آلاف الصفحات قبل دخوله وزملائه.
وفي بعض الأحيان، يتصل الثوار بالمحققين لجمع الملفات بعد انتهاء القتال”، إذ قال ويلي إن “تسلسل النقل مهم، لكنه لا يعني الكثير في المحاكم الدولية، رغم أن الناس قد يقتلون ويصابون وهم ينقلون هذه الوثائق”.
سعاة مصابون
كان أول الإصابات أثناء محاولات إخراج الوثائق ساعيا، أصيب وجرح عام 2012، بينما كان يجري في طريق تهريب بحقيقة مليئة بالوثائق.
منذ ذلك الحين، أصيب اثنان آخران أثناء استخراج الوثائق، وقتل أحدهم – شقيق نائب كبير المحققين مع اللجنة – في كمين للجيش السوري.
وفي عام 2012، اعتقل ساعٍ وزوجته على حاجز لجبهة النصرة، التابعة لتنظيم القاعدة، إذ اكتشف المسلحون الوثائق في حقيبته، فأطلقوا سراح زوجته، لكنهم هددوه بالمحاكمة والقتل بتهمة العمالة للنظام، إلا أن اللجنة استطاعت إخراجه مقابل فدية خمسة آلاف دولار، بحسب ويلي.
وتمثل النصرة وتنظيم الدولة تهديدات للمحققين مثل النظام، إذ أنها تعتبر العلاقات مع الغرب، بالإضافة لمفهوم العدالة الدولية غير المعتادين عليه، اتهامات كبيرة، إلا أن المحققين مدربون جيدا عما عليهم عمله إذا تم اعتقالهم، كما أن المعدات التي يملكونها مشفرة ولا يستطيع أي شخص لا يعرف العمل أن يفك تشفيرها، ومن بين كل المحققين، اعتقلت مرأة واحدة، وهي مدانة الآن من قبل النظام السوري.
أطنان من الأوراق
ويمثل نقل الوثائق للحدود أخطر المهمات في عملية “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة”، لأن الورق ثقيل ويمثل اتهاما لمن يحملها، كما أن الصور، الأسهل في الحمل، صعبة الاعتراف والتحديد في المحكمة.
وتصل عادة الوثائق عبر حقائب يصل وزنها إلى عشرين كيلو غرام، لـ250 صفحة، ويتم تهريبها عبر الحدود، بحسب ويلي، الذي أشار إلى أن هذا يتم للدفعات الصغيرة، في حين أن نقل الوثائق الأكثر عملية تحتاج مزيدا من التخطيط.
وقال ويلي إن اللجنة أخرجت من سوريا ما يقارب من 600 ألف وثيقة، تصل إلى أطنان، ولهذا فهي تحتاج عربات، والعربات تحتاج أن تمر عبر الحواجز، ولذلك فأنت تحتاج استطلاعا، وتحديد نوع الحواجز، كما أن اللجنة تدفع للسعاة وللثوار لتأمين الدعم اللوجستي”.
كما أن الدفعات الكبيرة من الأوراق تعتمد على الدول الصديقة للتفاوض على فتح الحواجز، ولذلك تبقى الوثائق مخبأة لشهور.
وفي أحد المرات، تركت آلاف الأوراق من الأدلة مع امرأة عجوز في بيت جنوب سوريا، لكن المحقق لم يوضح لها طبيعة الملفات، لكن المرأة، ومن شدة البرد، حرقت الأوراق.
وقال كبير المحققين لـ”نيويوركر” إنه في المناطق العدائية كان هو وزملاؤه يخبؤون الصناديق تحت الأرض، ويحددون الموقع، ويأملون أن يرجعوا لها بعد شهور أو سنوات، عندما يتوقف القتال، وهو ما أكده ويل الذي قال إننا “نملك كميات هائلة من الوثائق التي لا زالت في سوريا، والتي لا نحركها”، مشيرا إلى أنها تصل إلى نصف مليون صفحة.
عمل موازٍ
وبالموازاة مع جمع الوثائق ونقلها؛ جند ويلي محللين عسكريين وسياسيين، ومترجمين ومحامين في أوروبا.
ففي عام 2015، ارتفعت ميزانية “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة” إلى ثمانية ملايين دولار سنويا، وفريق عملها إلى 150 شخصا، بما فيهم موظفين في المقر وفي مكتب تحليل الفيديوهات في أوروبا، بالإضافة للمحققين في الشرق الأوسط.
ووصلت العديد من الوثائق التي يتم تحليلها من مبان المخابرات في العاصمة دمشق، وعادة ترجع للقرارات التي قامت بها خلية إدارة الأزمة، لكنها كانت تحتاج ملاحظات ومحاضر من الاجتماعات لإتمام خط القيادة.
وقال بركات، الذي يعيش الآن في إسطنبول، إن كريس إنجلز ومحلل آخر زاره في إسطنبول لمعاينة الوثائق من خلية الأزمة، “وأنفقوا ثلاثة أيام يسألونني عنل كل تفصيل قمت به، وتفاصيل عن الاجتماعات”، كما صوروا الأوراق المسربة، ووعد بركات بتأمينها حال انعقاد محاكمة.
وبدأت اللجنة بغربلة وثائق بركات، الأصلية والموثقة، وتحليل العلاقات بين قرارات خلية الأزمة والتحركات الإجرامية لعناصر الأمن في المحافظات المختلفة.
وبدأت مهمة تعقب العملاء السابقين للنظام، الذين يريدون توضيح أدوراهم، تصبح أكثر بساطة، بسبب انشقاق معظمهم، إذ وجد محللو اللجنة منشقين أثرياء في الخليج وتركيا وأوروبا، كما أخذوا شهادات من جنوب تركيا، من مخيم محصن بشدة، يسمى “أبايدن” يضم ضباط النظام السابق وعائلاتهم، مع أنهم غير مدرجين في هذه القضية، التي تركز على المسؤولين الأكبر.
وشبه ويلي هذه الشهادات بأنها “عشر سنتات متراكمة”، كما قالت اللجنة أنها قابلت مئتين وخمسين ضحية في مناطق عديدة لتأمين “دليل نمطي” على أن الجرائم ارتكبت بطريقة منهجية، بربطها بهذه الوثائق، إذ كان الهدف تأسيس علاقات قوية، عبر مستندات النظام والشهادات من الشهود والضحايا.
“الناشط”
وتحدث تقرير “نيويوركر” عن ناشط يدعى مازن الحمادة، تمثل فرصة لتعقب أثر السياسات المحددة للنظام السوري على المدنيين، وهو ما كانت تحاول إخفاءه مسبقا.
حمادة، الذي ولد عام 1977، هو الابن الأصغر لسبعة عشر طفلا في عائلة وسطى متعلمة في دير الزور، وكان مختصا ميدانيا في شركة “شلومبيرجر” الهولندية، المختصة بالدراسات النفطية، والتي عملت في دير الزور، وينتمي لعائلة من المعارضين التاريخين الذين اعتقلوا حتى قبل اندلاع الثورة، وركزوا على فشل الحكومة بردم الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وقال حمادة، لمجلة “نيويوركر”، في التقرير إن “النظام كان يعمل على خدمة النخبة”.
وفي عام 2011، كتب رئيس مكتب الأمن القومي مذكرة سرية لرئيس خلية الأزمة، تحدث بها عن “قلة الوطنية” في دير الزور، وردها إلى “النظام القضائي الفاسد وتأجيل القضايا والمحسوبيات واللجوء إلى الرشوة لاستعداد الحقوق”.
وكانت الأجهزة الأمنية في المنطقة بدون كفاءة، وموالية للأسد، ومنذ الأيام الأولى للثورة، في شباط/ فبراير 2011، أرسل رئيس المخابرات العسكرية في دير الزور، اللواء جمعة جمعة، أوامر لكل أتباعه بـ”إعداد الكاميرات لتصوير المشاركين والمحرضين ليتم تحديدهم ومحاسبتهم في المستقبل”، وهو ما استطاع محققو اللجنة الحصول عليه، من بين أوامر أخرى مرتبطة بقمع الثورة، من فرع المخابرات العسكرية في دير الزور، بعد تركه.
ونفذ رجال الأمن في دير الزور الأوامر، ففي 4 شباط/ فبراير، وقع رئيس مكتب الأمن القومي في دمشق أمرا “بالتحقيق والبحث واعتقال” من كتب “يسقط الأسد” على الطريق العام في دير الزور، وهو ما لم يستطع رئيس فرع الأمن السياسي تنفيذه بحسب ما رد على الفرع.
وفي 18 آذار/ مارس، كان هناك مباراة في دير الزور بين الفريق المحلي “الفتوة”، وفريق “تشرين” في اللاذقية، الذي كان يفضله، إذ كان حمادة يعيش بجانب الملعب، وسمع هتافات ضد النظام، مما دفع النظام لإلغاء بقية مباريات الدوري.
شاهد من أهلها
وفي بقية آذار/ مارس، وصف المسؤولون في دير الزور الثورة بمصطلحات واضحة، ففي أمر لأتباعه في دير الزور، وصف جمعة المظاهرات في سوريا بأنها “متأثرة ببعض البلدان العربية التي شهدت مشاركة الشباب للمطالبة بالتغيير والحريات والإصلاح وخلق الوظائف للشباب وتحسين معايير الحياة ومحاربة الفساد”.
لكن لاحقا، تبنى مسؤولو المنطقة لغة المؤامرة التي أتت من دمشق، فبعد ساعات من خطاب الأسد المتلفز في 30 آذار/ مارس، وافق أعضاء لجنة الأمن في دير الزور على اعتبارها “مرجعية ونقطة فارقة في عملنا”، ومعظم قرارات المجموعة المستقبلية أصبحت متأثرة بالقلق من الخيانة، والفتنة، وتسلل الأجانب، و”المشروع الصهيوني الأمريكي”.
وتحمس حمادة وأصدقائه للثورة، وأصبحوا يجتمعون في مسجد الحي، عثمان بن عفان، لتنظيم مظاهرات بعد صلاة الجمعة، فقد كانت “قضية لوجستية، وخرج الجميع من المسجد يوم الجمعة”، مضيفا “ولو استطعنا الخروج من الكنائس لخرجنا”.
وبحسب المحاضر الموجودة في لجنة دير الزور، فإن أفرادها قرروا “التسرب للمساجد مع موالي حزب البعث، إذ دخل ما يقارب مئتا شخص لكل مسجد، للتعامل مع أي قضية مرتبطة بالتحريض.
وقسمت اللجنة كل مجموعة لثلاث فرق: فريق داخل المسجد، والآخر يقوم بالاستطلاع، والثالث يظل مستعدا، لكن هذه الخطة انقلبت، إذ أبلغ محافظ دير الزور اللجنة “أن معظم الرجال الذين اعتقلوا من رجال الأمن كانوا من رجال البعث”، الذين تركوا الحزب وانضموا للمتظاهرين.
وكان حمادة يصور المظاهرات، واستجابة رجال الأمن، رغم أن النظام قطع الإنترنت عن حيه، ولذلك رفع المقاطع على اليوتيب من مكان عمل زميله، وبعضها انتهى لمواقع عربية.
ولمكافحة نشاطات كهذه، أخبر المحافظ اللجنة الأمنية: “يجب أن نرشح خبراء إنترنت بين رجالنا للتعامل مع المواقع العدائية التي تبث السموم في البالد عبر مواقع، مثل الفيسبوك”، وبينما كانت اللجنة تناقش أهمية إظهار القمع إلا أن العنف تصاعد، إذ قال جمعة إن المتظاهرين كانوا ينشرون “إراقة الدم، سعيا لاستجلاب تدخل خارجي”، وهو ناتج قال إنه يسعى لتجنبه.
وفي اليوم التالي، أرسل رسالة من جملة واحدة لأتباعه في المخابرات العسكرية في المحافظة: “المطلوب منكم منع رجالكم من إطلاق النار بشكل عشوائي وقتل المدنيين بشكل عشوائي”.
وفي أيار/ مايو، انهار الأمن في المحافظة بشكل سريع، إذ أن الرجال المسلحين بالعصي ورصاص الصيد والمولوتوف أحرقوا مركزين للشرطة وأربع سيارات وستة دراجات للشرطة، كما علمت المخابرات أن هناك شخصا يحاول تجنيد المتطوعين لتفخيخ سيارة خارج منزل جمعة، إذ حذر رئيس الفرع الأمن السياسي في المحافظة: “قد يكون هناك موجة من الاغتيالات”.
حمادة، الذي اعتقل مرتين سابقا، استمر بتنظيم المظاهرات، لكنه بدأ يقضي الليالي في منزل آمن مع الناشطين الآخرين، كما اعتقل أحد إخوانه ولم يخرج حتى الآن، ففي لقاء مع اللجنة الأمنية، حذر جمعة أن الاعتقالات قد تكون “سيفا ذا حدين”، وتزيد عدد الناس الغاضبين الذين يطالبون بإطلاق سراح عائلاتهم.
نهاية أيار/ مايو، أرسل جمعة عدة رسائل معبرا عن غضبه بأن المحققين كانوا يصعقون المعتقلين بالكهرباء، ويطفؤون السجائر بأجسادهم، ويضربونهم “على كل مكان بطريقة مخيفة”، ويهينونهم عبر إجبارهم على الجلوس على قناني الصودا، قائلا إنه يرفض “احتجاز شخص من ضحايا التعذيب حتى يكون هناك تقرير مكتوب حول حالته الصحية، يتضمن أولئك المسؤولين عن اعتقاله”.
وانتهى تردد جمعة في صيف 2011، إذ أن الأدلة من لجنة العدالة الدولية والمحاسبة أظهرت أن معتقلي فرع الأمن العسكري كانوا يضربون بالقبضات والكوابل والعصي حتى يفقدوا الوعي، وتكسر عظامهم، وكانت أسنانهم تسقط، ويدحشون في عجلات السيارات، ويضربون حتى تدمى أقدامهم، ويصعقون بالكهرباء، بعد أن يصب عليهم الماء، وينتهكون حتى يتبولوا دما، ويضربون حتى الموت، كما شارك جمعة شخصيا في عدد من هذه التحقيقات.
“الأوامر”
وتابع تقرير “نيويوركر” السرد بأنه في 5 آب/ أغسطس 2011، عقدت جلسة خلية إدارة الأزمة اجتماعها المعتاد في شعبة قيادة البعث، بعد خمسة شهور من المظاهرات التي استمرت واندلعت في بقية المحافظات، وهو ما أرجعه أفراد اللجنة إلى “التراخي في التعامل مع الأزمة”، بحسب الوثائق المسربة.
وألقت الوثائق باللائمة على “التنسيق الضعيف والتعاون بين الأجهزة الأمنية المختلفة”، وقرروا تلك الليلة إعطاء أوامر محددة لاستهداف أشخاص محددين.
أولا، فإن على كل الفروع الأمنية شن حملات اعتقال يومية للبحث عن منظمي المظاهرات، وأولئك “الذين يشوهون صورة سوريا في الإعلام الأجنبي”، ثم “بعد أن يتم تطهير كل قطاع من الأشخاص المطلوبين، يجب أن تنسيق أجهزة الأمن وأعضاء البعث والمليشيات المحلية على ضمان عدم رجوع ناشطي المعارضة إلى هذه الأحياء”.
ثالثا، فإنهم يجب أن “يؤسسوا لجنة تحقيق مشتركة على مستوى المنطقة، مكونة من ممثلي كل الأجهزة الأمنية، التي يجب أن تحقق مع المعتقلين، ويجب أن “ترفع النتائج لكل الفروع الأمنية، لتستخدم بتحديد الأهداف الجديدة التي يجب استهدافها”.
وأصبحت هذه السياسة العمود الفقري لقضية لجنة العدالة الدولية والمحاسبة ضد مسؤولين في النظام السوري، فمع وثائق بركات من دمشق، وصفحات اللجنة الـ600 ألف التي استطاعت احصول عليها من الدولة، استطاع المحللون تعقب هذه الأوامر ضمن سلاسل مختلفة من الأوامر من خلية إدارة الأزمة.
وأرسل رئيس خلية الأزمة هشام بختيار، رئيس المكتب الأمن القومي، هذه الأوامر إلى المكاتب المحلية لحزب البعث، الذين ترأسوا اللجنة الأمنية لكل محافظة، بالإضافة لأوامر إضافية بـ”القيام بما يجب عليكم القيام به لإنهاء الأزمة”.
وأرسل رؤساء الفروع الأمنية الرئيسية – المخابرات العسكرية، المخابرات الجوية، الأمن السياسي، وإدارة المخابرات العامة – هذه الأوامر إلى الفروع المحلية والدولية، الذين مرروها لعملائهم في الأمن المحلي.
وسافر أعضاء خلية الأزمة إلى المحافظات التي تشهد ارتباكا للإشراف على تشكيل لجان التحقيق المشتركة، مما سهل المهمة على لجنة التحقيق، لأن “كل الأسماء كانت على كل المستندات”، بحسب ويلي.
وقال إنجلز لـ”نيويوركر”: “إذا أرسلت هذه الأوامر، دون أن يكون هناك رد فعل عليها، فإن هذا يخبرنا كثيرا، لأنه من الأهمية بمكان أن نرى هذه الأوامر ترجع بشكل تقارير عبر التسلسل إلى أعلى”، لتؤكد أن هؤلاء الأشخاص اعتقلوا وحقق معهم، وأن قيادة النظام السوري في دمشق توافق بقيت على علم بالانتهاكات في مواقع الاعتقال.
وقال ويلي إن “الفشل الدائم بالسيطرة على من يتحرك بطريقة جنائية سيتم استخدامه للاتهام، إذ أن قانون الأوامر ومسؤولية الإشراف سيستخدم كثيرا في هذه الحالة”، خصوصا أن خلية الأزمة طلبت قوائم بكل المعتقلين، كما أن بعض أفراد اللجان الأمنية المحلية اتخذ خطوات صارمة لإرضاء مشرفيهم، كما وجدت نسخة من أوامر خلية الأزمة في الرقة بملاحظة مكتوب عليها: “لقد قمنا بهذا منذ زمن”.
وبحسب القانون الدولي، فإن الحكومات ملزمة بالتحقيق في تقارير انتهاكات حقوق الإنسان.
وفي أيلول/ سبتمبر، أرسل الادعاء العام في دير الزور ثلاثة رسائل عبر الفاكس – آخرها حصلت عليه لجنة التحقيق – للمحافظ، ووزير العدل السوري، ورئيس لجنة التحقيق المشتركة، تطالبهم بالتوقف عن انتهاك القانون السوري، إذ كتب على واحدة منها إن “أهالي وأقارب المعتقلون يسألون بشكل يومي عن مصير أبنائهم وآبائهم وإخوتهم، ويجب عليكم الاستماع لما يقولون، كما أن ثلاجة المشفى مليئة بالجثث المشوهة المتحللة لأنها بقيت هناك منذ مدة”.
“التحقيق”
وظهر اسم مازن الحمادة على قائمة الاعتقال في دير الزور، كما كان اثنان من إخوته مطلوبين، بالإضافة لأحد أصهرته.
وفي أحد أيام آذار/ مارس 2012، طلب طبيب من حمادة إن كان يستطيع تهريب حليب أطفال لامرأة في داريا، في ريف دمشق، وجمع هو وأبناء إخوته خمسة وخمسين علبة من الحليب، وخبؤوها تحت ملابسهم، وسافروا للقائها في أحد المقاهي.
وحالما سلم الحمادة الحليب، قبضت عليه الأجهزة الأمنية مع أبناء إخوته، وسحبوا قصمانهم على ملابسهم، ووضعوهم في سيارة كبيرة، ليقول إنه “لم يكن لديه فكرة عما كان يجري، وطول الطريق كانوا يقولون لنا: سنعدمكم”.
وبعد أن عروهم حتى ملابسهم الداخلية، وضربوهم، وألقوهم في زنزانة بطول 12 قدما، مع أربعين معتقلا آخرين، علموا أنهم كانوا في فرع المخابرات الجوية في مطار المزة العسكري، أحد أسوأ مراكز الاعتقال في البلاد.
وبعد أسبوعين، وضع المعتقلون في هانجار صغير، بأبعاد أقل من أربعين قدما بعشرين قدما (13 مترا × 6 أمتار)، وكان هناك 170 معتقلا، وضعت أيديهم بين أقدامهم، ويجلسون راكعين.
“أنت تتعفن”
وقال حمادة لـ”نيويوركر”: “أنت تتعفن هناك، لأنه لا يوجد هواء ولا ضوء شمس، وتطول أظافرك، لأنك لا تستطيع قصها، وعندما تحك جلدك فأنت تدميه”.
ولم يكن المعتقلون قادرين على غسل أنفسهم أو تغيير ملابسهم، وملأت التقرحات أجسادهم.
وعبر البلاد، كان المعتقلون يشربون مياه المحاريض، ويموتون من الجوع والتسمم والأمراض، مما دفع الناس للجنون وفقدان ذاكرتهم، بحسب حمادة، الذي تحول أخيرا لخلية اعتقال انفرادية مع عشرة آخرين.
في أحد الأيام، تمت تعمية حمادة واقتياده إلى غرفة للتحقيق، وبدأ المحقق، الذي قال حمادة إن اسمه سهيل، بتحديد هويته، إذ يعتقل الكثير ويعذبون مع كونهم اعتقلوا بالخطأ.
عندما سأل سهيل عن معلومات حول ناشطين آخرين التقاهم حمادة في دمشق، تردد حمادة، فبدأ التعذيب، إذ أن “أول شيء كانوا يستخدمون السجائر التي أطفؤوها على قدمي”، وكانوا يصبون عليه الماء وصعقوه باستخدام أسلاك وأقطاب، فاعترف أخيرا بأسماء أصدقائه الذين قتلوا في دير الزور.
وكانت هذه الأسماء مجرد البداية، إذ سأله سهيل: “كم شخصا قتلت من الجيش العربي السوري؟”، فرغم اعتراف حمادة بتنظيم المظاهرات ورفع الفيديوهات والحديث للإعلام الأجنبي، كانت الصعوبة: “كيف تختلق قصة قتل هؤلاء الأشخاص؟”.
وبدأ الشبح، حيث علقت يدا حمادة في أنبوب في السقف، وبقيت أقدامه مرتفعة بمسافة 16 ياردة عن الأرض، فأصبح كل الثقل على يديه، “ثم بدأت أشعر بأن الأصفاد بدأت تجرح يديه، وبقيت لذلك أكثر من نصف ساعة، ثم بدأت بالصراخ واستمررت بالصراخ حتى وضعوا حذاءا عسكريا في فمي”.
وكانت هذه الطريقة تستخدم في الفروع الأمنية، بـ”تنويعات مختلفة”، إذ أن العديد من المعتقلين كانت أيديهم تعلق وراء ظهورهم، وبعضهم كان يترك لأيام، والآخرون يتوقفون عن التنفس.
وأخبر مساعدو سهيل أنه إذا اعترف بحمل الأسلحة فسيطلق سراحه، ولأنه لم يعترف، فقد كسر أربعة من ضلوعه، وفي تلك الحالة، وافق على الاعتراف بحمله سلاح صيد، فتركوه، لكن هذا لا يتسق مع جرائم الإرهاب، فعذبوه جنسيا ليعترف بحمله “كلاشينكوف”، واستمر التعذيب حتى اعترف حمادة بكل شيء أرادوا منه أن يعترف به.
أنماط تعذيب متشابهة
وفي كل مقابلات الشهود، وجدت “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة”، أنماطا ثابتة للتحقيق في كل الفروع عبر البلاد، فقد كانوا يعتقلون بحسب سياسة “خلية الأزمة”.
وبجانب تحديد أهداف جديدة، كانت نتائج هذه التحقيقات تشارك مع الأجهزة الأخرى، وكان المعتقلون يظلون في ظروف غير إنسانية لشهور أو سنوات بدون دخول محاكمات قضائية.
ولم تكن الاعترافات بالإكراه تستخدم لأهداف أمنية، لكنها أعطت غطاء قانونيا لعملية الاعتقال، فقد كان الاعتراف بالجرائم يضع الناشطين المضادين للحكومة أمام احتمال مواجهتهم لتهم خطيرة، وإذا تم إدانتهم، فقد يظلون في الاعتلاق لسنوات، كما استخدمت هذه الاعترافات كإيهام ودعاية للحديث عن مؤامرة ضد سوريا، إذ أجبر المعتلقون على الاعتراف بالمشاركة بالخيانة أو التحريض.
تعذيب المحققين
ووصل هذا التعذيب ضد بعض المحققين كذلك، ففي أكثر من حالة، كان المحقق يرجو المعتقل أن يعترف بجريمة ليتوقف عن إيذائه.
وأكد كريس إنجلز هذه الفكرة قائلا إن “هناك فكرة أنهم يجب أن يحصلوا على نتائج، فالأدلة على أن بعضهم لم يقم بما عليه كانت حقيقية، وهناك أدلة على أن هناك أشخاصا لم يقوموا بذلك”.
وكان الخط الأخير من سياسة استهداف خلية الأزمة هو أمر رؤساء الأجهزة الأمنية بـ”إعطاء مكتب الأمن القومي بشكل دوري أسماء عناصر الأمن المترديين أو غير المتحمسين”، الذين اعتقل بعضهم في خلية حمادة.
وبعد شهور من التعذيب، وقف حمادة مع ابن أخيه فهد لوضع بصمات على تقاريرهم، التي تضمنت اعترافاتهم بالتأكيد، رغم أنهم لم يستطيعوا التأكد لأنهم ممنوعون من قراءة تقاريرهم.
ووقف ولد عمره 17 عاما بجانب حمادة وفهد، وعندما علم الحراس أنه من داريا، ضربوه بالأرض، وجلب أحدهم شعلة وأحرقوا الطفل كاملا، بحسب حمادة، ثم التفوا عليه، وأحرقوا رقبته وكل جسمه، إذ قال حمادة: “لقد كان وجهه يذوب”.
وقال مراسل “نيويوركر” إن عيون حمادة أصبحت حمراء، وبدأ صوته يخفت، ثم أجهش بالبكاء، عندما تذكر الطفل، الذي ظلوا يحاولون ليومين مع المعتقلين الآخرين تضميد جراحه، وهو يموت بين يديهم، وعندما أتى الحراس لأخذ جثته، صرخ حمادة بهم، فشبحوه لعدة ساعات، إذ قال إنك “تريد أن تقتلهم بأي طريقة، لتنتهي من كل هذا، لأنك تعب من التعذيب والنوم والاستيقاظ والعيش هكذا كل يوم”.
المشفى 601
بداية 2013، وبعد عام تقريبا من الاعتقال، استلقى حمادة على أرضية الهانجار، فبعد استدعائه والتحقيق معه لسبعة أو ثمانية مرات، أصابه مرض في عينيه وأصبحت تدمع قيحا، وأصبح الجلد على قدميه مميتا.
وبينما كان المعتقلون يقفون كلما دخل الحارس، لم يعد حمادة يستطيع، فقد وصل الأمر إلى “التبول دما”، بحسب قوله، مما دفع رئيس التحقيق لإرساله إلى “المشفى 601” العسكري الموجود في سفح جبل المزة، ويطل عليه القصر الرئاسي.
وكان حمادة قد سمع بهذا المشفى، فقد أرسل إليه بعضهم المعتقلين، وقليلون من عادوا منه، فتوجس، لأن “هذا ليس مشفى، بل مسلخا”.
وبالرغم من حالة حمادة، فقد ضربه الحراس أثناء أخذه للمشفى، واستخدم أحدهم الأنبوب “الأخضر”، الذي كان الحراس يسمونه بـ”الأخضر الإبراهيمي” نسبة للمبعوث الأممي إلى سوريا حينها.
وفي ممر المشفى، كان الممرضون الذكور والإناث يضربونه بأحذيتهم ويدعونه بالإرهابي، وعندما وصل إلى جناحه، ربط في سريره مع سجينين آخرين، وطلبت منه ممرضة أسماءه، ثم ضربته بعصا.
وأشار تقرير للأمم المتحدة ذلك العام أن بعض الموجودين في المشافي كانوا يساهمون بتعذيب المعتقلين في المشفى 601.
وفي تلك الليلة، استيقظ حمادة وهو يطلب الذهاب للحمام، فضربه حارس طيلة الطريق لهناك، لكنه ذهب لوحده، وعندما فتح الحجرة الأولى، وجد رتلا من الجثث، المشوهة والزرقاء، ثم وجد اثنين آخرين في الحجرة الثانية، بدون أعين، وكان هناك جثة أخرى في الحوض، فخرج فازعا، لكن الحارس أعاده لهناك، وقال له “تبول فوق الجثث”، فلم يستطع، وبدأ يشعر أنه يفقد الإحساس بالواقع.
وبحسب تقرير للجنة الأمم المتحدة، كانت جثث المعتقلين “تحتجز في الحمامات” في عدة فروع أمنية في دمشق.
لاحقا تلك الليلة، بحسب حمادة، مشى حارسان سكرانان إلى عنبره، وبدؤوا يسألون: “من يريد دواء؟”، فرفع بعض المعتقلين أيدهم، فاختار الجندي معتقلا متحمسا، وبدأ يضرب السجين على رأسه حتى فتحه، ثم سحب النخاع الشوكي من رأسه، وأمر مريضا آخر سحبه للحمام.
وقالت الأمم المتحدة إن العديد من المرضى عذبوا حتى الموت في “المشفى 601″، وكان هذا الجندي يسمي نفسه “عزرائيل”، ويتذكره ناجون آخرون كانوا يعذبون المساجين بطرق مشابهة.
وقال حمادة إنه عندما رأى هذا تأكد أن هذا مصيره، فبدأ يطلب من أحد الأطباء أن يرجعه لفرع المخابرات الجوية، رغم أن الطبيب قال له إنه لا زال مريضا، فأكد له أنه قد تعافى، فأرجع في اليوم الخامس خارج المشفى، من نفس الحراس الذين أدخلوه، فكانوا يضربونه ويشتمونه لأنه لم يمت، ثم شبح لأربعة ساعات.
في حزيران/ يونيو 2013، أحيلت قضية حمادة للقضاء، ونقل إلى سجن عدرا المركزي في دمشق، حيث عرض ملفه لإثبات القضايا ضده (لأن السجون السورية تحت الإشراف القضائي، والفروع الأمنية ليست كذلك)، وكان الرد أنه اعتقل بـ”تهمة الإرهاب وأنه محروم من الحرية منذ 5 حزيران/ يونيو 2013″، بنفس التاريخ، وكأن الخمسة عشر شهرا التي قضاها في المخابرات الجوية لم تكن.
الهجوم الكيماوي
وفي الساعات الباكرة من 21 آب/ أغسطس، أطلقت الحكومة السورية صواريخ تحمل غاز السارين على أحياء غوطة دمشق، وقتلت أكثر من 1400 شخص.
وردا على ذلك، قال الرئيس الأمريكي باراك أوباما إن “الأسد تجاو الخط الأحمر، وسنتخذ إجراء عسكريا ضد أهداف للنظام”، قائلا إنه ينتظر موافقة الكونجرس، وهو ما لم يحصل لاحقا.
وبعد الهجوم الكيماوي بقليل، نقل حمادة والعديد من المعتقلين إلى المزة، بدون توضيح، وبدأ عناصر الأمن بنقلهم إلى هانجار فارغ كبير، حيث يعتقد أن أحد الصواريخ التي كانت تحمل السارين أطلقت من قاعدة المزة، التي كان يتوقع أنها هدف للضربات الأمريكية، وداخله كان الحراس يسخرون من المعتقلين قائلين إنهم سيموتون لو تعرضت سوريا لضرب أمريكي.
وفي بداية أيلول/ سبتمبر، تخلت الولايات المتحدة عن فكرة الحملة العسكرية، وأعيد حمادة لمحكمة الإرهاب في دمشق، حيث حصلت جلسة الاستماع أخيرا.
وفي الجلسة، أشار القاضي إلى أن حمادة اعترف بمهاجمة المواقع العسكرية وقتل الجنود، فأظهر له مواقع حرق السجائر في قدميه، ويديه النازفتين، وظهره النازف، في مشهد معتاد داخل المحاكم السورية، فحكم القاضي ببراءته.
قبل إطلاق سراحه، تم التحقيق معه من عناصر الأمن السياسي، وسألوه عن المظاهرات التي شهدها قبل عامين، فاعترف: “نعم، كنت متظاهرا، وشتمت الأسد”، مضيفا “لقد كنت في الجحيم، وإذا كنتم تريدون اعترافي فخذوه”، وعندما أرجعوه للمحكمة، أسقط القاضي قضيته.
“مدينة أشباح”
وعندما عاد حمادة إلى دير الزور، وصفها بـ”مدينة أشباح”، فبعد عامين من القتال الكثيف والضربات الجوية، تدمرت معظم المباني، كما سقطت مئذنة مسجد عثمان بن عمان، ولا زال اثنان من أبناء إخوته معتقلين في المخابرات الجوية، في دمشق، واختفى أفراد آخرون من المواقع الأمنية.
وبعد وصوله إلى دير الزور، وظهور تنظيم الدولة هناك، وتحول الأزمة السورية لحرب أهلية، قرر حمادة الهرب إلى تركيا، ومنها إلى اليونان، وسافر أكثر من 1700 ميل إلى هولندا، حيث كانت أخته هناك قبل الحرب، في رحلة لا يكاد يذكرها، مقابل ما مر به حمادة.
صور قيصر
ودعمت هذا السجل من الفظائع في “مشفى 601” ما يقارب 55 ألف صورة، هربوا من سوريا على يد ضابط في الشرطة العسكرية يعرف نفسه باسم “قيصر”.
وقبل الحرب، وثق قيصر وزملائه مواقع الجرائم وحوادث السير، بما في ذلك عناصر للجيش في دمشق، ورفعوا الصور على حواسيب الحكومة، ثم طبعوها وأضافوها لتقارير الوفاة الرسمية.
وفي 2011، أصبحت هذه الجثث للمعتقلين، وجمعت كل يوم من الفروع الأمنية، وسلمتها للمشافي العسكرية.
وفي “المشفى 601″، صور فريق قيصر الجثث في المشرحة وفي الكراج، وكل جثة كانت تعطى رقما، عادة من أربع أرقام – مثل رقم حمادة 1858-، وتوضع على رقم وتلصق على صدره أو على جبهته بخط عريض.
ويظهر رقم آخر الفرع الذي قتل به المعتقل، إذ كان هناك ما يقارب 11 ألف جثة، وكان فريق قيصر يوثق في بعض الأيام أكثر من 50 جثة، تكون إما هزيلة، مشوهة، مقطوعة، محروقة، مطلقا عليها الرصاص، مضروبة، مخنوقة، مكسورة، مذوبة.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة، بعد أن ينهي فريق قيصر التوثيق، يكتب أحد الأطباء عادة “جلطة قلبية” في شهادة الوفاة، ثم تجمع الجثث وتلقى بعيدا، وفي حالات نادرة كان أفراد العائلة قادرين على الحصول على الجثث، بعلامات تعذيب كبيرة.
وتابع التقرير: “بعض الجثث كانت تسلم من المستشفى فقط في حالة توقيع العائلة بيانا يؤكد أن ابنهم اختطف وقتل على يد الإرهابيين”.
واستطاع قيصر الهروب من سوريا في آب/ أغسطس 2013، بعدد من الفلاشات التي خبأها في جواربه، وبقيت الصور سرا حتى استطاع التحدث لفريق من المحققين الدوليين والخبراء، في كانون الثاني/ يناير الذي تلاه.
وبدون رابط يحدد اسم المعتقل برقمه، فإن تحديد هذه الجثث صعب، لأن معظم الوجوه مدمر، أو العيون مقتلعة.
ونشر نشطاء مقربون من قيصر بضعة آلاف صور، مما سمح للعائلات بمعرفة مفقوديها، إذ وجدت بعض العائلات أنها كانت تدفع رشاوى لتأمين تعامل محترم للأقارب الذين قتلوا قبل ذلك.
وحتى الآن، تم تحديد 730 ضحية، استطاع حمادة تمييز بعض من كانوا معه في الزنزانة عبر هذه الصور.
نهاية اللعبة
وبين صور قيصر، وقضية “لجنة العدالة الدولية والمحاسبة”، قال ستيفن راب إنه “عندما يأتي يوم العدالة، فنحن نملك أدلة ممتازة لم نحصل عليها منذ قضية نورمبيرج”.
ويعتقد ويلي وإنجلز إن القضية إذا ذهبت إلى المحكمة، فإن اللجنة تملك أدلة لإدانة الأسد وحلفائه بعدة تهم وجرائم ضد الإنسانية، منها القتل والتعذيب وبعض التصرفات غير الإنسانية الأخرى.
وعندما سئل الأسد في مقابلة لمجلة “فورين أفيرز” حول صور قيصر، أجاب: “من قال إن هذا تم على يد الحكومة وليس الثوار؟ من قال إن هذا ضحية سورية وليس شخصا آخر؟”.
حمزة الخطيب
وفي 2011، قالت لجنة الأمم المتحدة للتحقيق إن طفلا عمره 13 عاما اسمه حمزة الخطيب، قتل تحت التعذيب في المعتقل، وردت لجنة التحقيق السورية إن “مصورا قضائيا صور ستة صور ملونة للجثة، وأعطيناه الرقم (23) ولم نجد علامات ضرب أو تعذيب، وقتل الطفل بإطلاق نار، غالبا من زملائه الإرهابيين”.
ووجد فريق التحقيق السوري أن الطبيب الذي قال إن العضو الذكري لحمزة الخطيب قتل “أخطأ بالقضية مع تحليل سابق”.
وتضمن صور قيصر ست صور لجثة الخطيب، تظهر عيونه مقلوعة ومغلقة، ورأسه بنفسجيا بشدة من الضرب، وقضيبه مقتلعا، وفي كل الصوار، كان هناك رقم 23 على هذه الصور.
ورد المبعوث السوري للأمم المتحدة بشكل رسمي على فريق التحقيق الأممي في سوريا، بقوله إن “ادعاءات الاعتقال التعسفي والتعذيب في سوريا لم تعد ذات مصداقية”، متابعة بأنه “لا يوجد معتقلون بشكل غير قانوني في سوريا بسبب التظاهر السلمي، وإذا سألتم أفرادا استخدموا السلاح أو قاموا بالتحرك الإرهابي في سوريا، فهذه قضية أخرى”.
“لعبة نلعبها”
وبعد شهور من الرسالة، قال الأسد لبابرا والترز أن مشاركة سوريا بالأمم المتحدة هي “لعبة نلعبها، وليست شيئا نعتقد به”.
وانطلقت هذا الأسبوع جولة جديدة من المفاوضات بين النظام السوري والمعارضة في جنيف، حيث لم يلتق الوفود بشكل مباشر بعد، وقبل المفاوضات، أخبرني بركات، المسؤول السابق في دمشق، إن وفد المعارضة طلب نسخا من الوثائق التي سرقها من الحكومة السورية، إلا أن الوفد فشل بتأمين شحنة.
وبينما يسترجع النظام السوري أراضٍ خسرها لصالح الثوار، أصبح سقوط نظام الأسد أقل احتمالية، إذ أعلن وزير خارجيته وليد المعلم أننا “لن نناقش أي شخص يناقش الرئاسة”.
ورفض ويلي وفريق اللجنة الحديث عن أي تغيير للنظام في سوريا، إذ أنهم “لا يريدون أن يعلقوا في سراديب سياسة” إنهاء الحرب السورية، فهم “ببساطة واثقون أن عملهم سيرى النور يوما ما، في محكمة، في حكم قصير نسبيا”.
ويتلقى حمادة في هولندا علاجا طبيعيا ليشفي ضلوعه المتكسرة، كما أنه يدرس الهولندية، وينظم مظاهرات مضادة للأسد في الميادين، متسائلا عن مصير أخيه وأصدقائه المفقودين، وهو يبكي قائلا: “هل هم أحياء؟ هل هم أموات؟”، معتبرا كل يوم “مأساة. إن كل يوم مأساة. إنه موت. إنها حياة من الموت”.