من دفاتر الثورة/ بركان حلب

نوفمبر 17, 2022

محمد جمال طحان

مقالات

في عصر أحد أيام حزيران اجتمعنا في مزرعة أحد الأصدقاء، كنّا عشرة من الذين يديرون محاور التظاهر في المدينة، وكلٌّ منّا لديه مجموعات ينقل إليها الحركة اللازمة في المناطق التي تكفّل بضبط حراكها السلمي بما يضمن أقلّ التضحيات الممكنة. قرّرنا إرباك الشبيحة والأمن بثلاثة أيام من المظاهرات المتتالية في أنحاء مختلفة من حلب لإنهاكهم قبل يوم الخميس حيث نفاجئهم بمظاهرات تشمل محاور متعدّدة وفي غير يوم جمعة، لعلّنا نتمكّن من الوصول إلى الساحات الرئيسة في حلب، بحيث نهيّئ الظروف المواتية لجمعة تهزّ أركان النظام وتبيّن دور حلب في ثورة الكرامة. الشعار الذي آثرت تعميمه (يا حلب ثوري ثوري هزّي القصر الجمهوري).

يومان من التحضيرات سبقت يوم الخميس الذي كان حافلاً بالأحداث التي تلي جمعة “سقوط الشرعية” وتسبق جمعة “ارحل”. المحاور التي اتّفقنا عليها تبدأ عشوائياً على أن تتواتر صباحاً وظهراً ومساءً حتى السيطرة على الساحات الرئيسة، هي: محور الجامعة – باب الحديد – الأشرفية – الشيخ مقصود- ساحة باب جنين- الجميلية – المشارقة – الخالدية – شارع النيل – هنانو – سيف الدولة – صلاح الدين – شارع فيصل.

يومان كنت وسراب نستقلّ سيارة مخابرات بيجو استأجرناها بمبلغ كبير. ملأناها بالمعدّات اللازمة من لافتات وأعلام وأجهزة تصوير واتصال، ورحنا ننسّق العمل بين الحواري، ونوزّع منشورات، نصوّرها محليّاً، وتبيّن مواقف حلب من الأحداث. وحينما يستدعي الأمر، في حركة سير متعسّرة أو في مقابل حاجز طيّار، كنّا نُطلق زمور النجدة الخاص بالأمن، فيوسّعون لنا الطريق الذي نشقّه بسرعة جنونية، لنتجنّب أيّ تفتيش محتمل.

يوم الأربعاء كان مخصّصاً للجولة مع الدكتور ياسر، لتجهيز العمل غير المعلن، الذي لم يكن يعلم به سوى بضعة أشخاص من التنسيقية، وكانت كل تظاهرات المحاور، تغطيةً لما سنقوم به، فيهزّ أركان النظام في حلب، بشكل يحوّل الأنظار إلى ما تقوم به حلب نصرةً للمدن المنكوبة، التي يركّز النظام عليها، بعد أن ضمن حسون (مفتي الجمهورية) ومرتزقة النظام من مشايخ وتجار أن تبقى حلب موالية وبعيدة عمّا يحدث في درعا وحماة وحمص.

بدايةً ركبنا سيارة “لانسر” قمنا بها في جولة إلى مساكن هنانو وحلب الجديدة والمحلّق، تواصلنا خلالها مع أشخاص وأعطيناهم شرائط مسجّلة لرفعها إلى الفضائيات ومواقع الإنترنت. ثم وضع ياسر عدسات لاصقة زرقاء شفافة بين جفنيه، وخطّ سكسوكة على ذقنه، تمهيداً لاستئجار سيارة “سيراتو” باسم مستعار، كي لا يتم التعرّف عليه بعد القيام بالعملية.

يوم الخميس كانت بداية الجولة مع عبد الرؤوف في محيط الجامعة لنرقب سير انطلاق التظاهر منها. كان عدد الشبيحة وعناصر حفظ النظام واتحاد الطلبة الموالين، أكثر من عدد المتظاهرين الذين تمت ملاحقتهم وحشرهم في السيارات. الضرب بالهراوات لم يتوقّف، والمطاردة من الجامعة إلى نزلة أدونيس.

الميدالية التي كانت معي ركّزتها على النافذة ورحت أصوّر ما يجري حولي معتمداً على تحرّك السيارة بدلاً من تحريك يدي كي لا تظهر الكاميرا. في منتصف نزلة أدونيس استطعنا نصب حاجز مؤقّت بين عدو المتظاهرين وعناصر حفظ النظام الذين يطاردون فلولهم. واستطعنا أن نقلّ اثنين من المتظاهرين ونهرّبهم باتّجاه شارع اسكندرون ليلتحقوا بالمتظاهرين هناك.

قال لنا أحدهما: – أبو رامي، متعهد مقصف كلية هندسة الكهرباء سلّم كثيراً من المتظاهرين للأمن، ليتكم تنشرون الخبر ليحذَره الآخرون.

تابع عبد الرؤوف جولته بين الجامعة والجميلية والتحقت أنا بسراب لأرى سير التظاهر في شارع النيل، ثم محور باب الحديد. الهدف المعلن كان التحرّك من كل المحاور الساعة الثانية والنصف بعد الظهر ومحاولة الاتجاه لتصبّ كل التظاهرات في ساحة سعد الله الجابري، تمهيداً لغايتنا الأساسية التي كان توقيتها في الثالثة. وتطلّب تنفيذها أن يتمّ الاتفاق مع 12 شخصاً من التيرب (أتارب) ليقوموا بالعمل، ونقوم نحن بحمايتهم من خلال مجموعات، ضمّت كل مجموعة بين أربعين وستين شخصاً ليبلغ عدد من يقومون بالتغطية ستمئة شخص.

من الذين تولّوا عملية تحويل الآخرين إلى الساحة المقصودة: رأفت وعلي ومروان وصبري وأبو فادي وأبو زيد وأبو الجبن وجليلاتي. كلّ منهم كان يصور ويغطّي الأحداث ويرفع التسجيل ويتواصل مع الفضائيات. لم نستطع تحقيق الهدف، ولم يتمكنّ أي محور من الوصول إلى ساحة سعد الله، حيث مكثنا برهة في الفندق السياحي، وواكبنا سير المظاهرات ونحن نراقب الساحة من الشرفة.

كان يوماً شاقّاً وطويلاً، تخلله كثير من المخاطر. مع ذلك كنّا مصرّين على تحقيق الهدف.

قبيل المغرب، تواصلنا من جديد مع محاور التظاهرات في الانطلاقة المسائية لتتجه كلّها إلى القصر البلدي، كي نحوّل النظر عن الهدف الأساسي الذي نعمل عليه وهو إسقاط تمثال الرئيس في ساحة باب جنين، قرب حديقة عبد الناصر.

حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً كنت أتهادى مع علي بدران حول ساحة التمثال ننتظر قدوم مجموعات هاتفناهم لينضمّوا إلينا في الساحة بحثاً عن الفرصة السانحة، يبدو أنهم يقتربون ويرون هذا العدد الكبير من الحرّاس فينسحبون. حكيت له أنني منذ يومين رأيت مجموعة من التلاميذ بثياب بيضاء يطوفون، ظهراً، حول التمثال، وكأنّ أحداً وشى بما سيحدث. والآن، المنطقة مطوّقة بالكامل، وسيارتا شرطة تجاوزتا الرصيف وصعدتا الدرجات حول التمثال لحمايته.

المصـــدر

المزيد
من المقالات