كتمت كثيراً قبل الكتابة عن نبيل شربجي، نبيل لمن لا يعرفه صحفي وناشط سوري من مدينة داريا، معرفتي به تعود لأكثر من عشرين عاماً، كان حينها طالباً وكنت مدرسه المتطوع واستمرت صداقتنا حتى بعدما غادرت سوريا وبدأت الثورة السورية عام 2011 حيث كان من أنشط الثائرين في مدينة داريا وكان التواصل حينها بيننا يوميا.
اعتقل النظام السوري نبيل في 26 شباط 2012 من داريّا. قضى نبيل الفترة الأولى معتقلًا في قسم التحقيق بالمخابرات الجوية في مطار المزة بدمشق، ثم نُقل إلى سجن عدرا المركزي، وبعدها إلى سجن صيدنايا.
في أيار 2015، أتى الخبر صاعقا علي وعلى أصدقائه أن نبيل قتل تحت التعذيب في سجون الأسد، لكن وفاته تحت التعذيب وثقتها قصة تتحدث عن نبله وإيثاره بشكل تحولت إلى فيلم وثائقي استخدمها أكثر من مخرج سوري اليوم، لقد وثق نبيل أسماء رفاقه المعتقلين من داخل زنزانته بدمه كما وضع على قصاصات من القماش والورق أسماء وهواتف وأماكن سكن جميع رفاقه في الزنزانة، على قطع من قميص، كي يتم تهريبها إلى الخارج.
هذه القصة أخرجها الصحفي منصور العمري معه حين أطلق سراحه. وأخرج معه أسماء المعتقلين الذين وثقهم نبيل بدمه، كما وثق طرق التعذيب داخل السجن عبر رسالته إلى صديقه منصور قائلاً:
“منصور، يا زلمي أديه زعلت لما طلعت من عندنا، وحاولت كمل اللي أنت بلشت فيه، وكنت ماشي فيه، بس ظروف كتير تغيرت وصارت صعبة كتير… صرنا أكتر من 90 واحد بالغرفة… اشتقت لنغني سوا، وتحكيلنا أفلام، وتجعزوني أنت و ****** طول فترة ترييحك… والله ورجعنا يا شريك على نغم راجعين يا هوى… سلام. عدرا المركزي. 15/4/2013”.
أما وفاته تحت التعذيب فقد وثقها أكثر من معتقل فقد ذكر عمر الشغري، أحد الشهود على وفاة نبيل في المعتقل: “كان السجان يأتي صباح كل يوم، ويصرخ “عرصات المهاجع مين عندو فاطس؟”، يومها أجاب شاويش زنزانة مجاورة أنه لديه أحدهم، فسأله السجان عن الاسم الكامل واسم الأم وتاريخ الولادة، أجابه الشاويش: نبيل شربجي. ثم ذكر اسم والده ووالدته وتاريخ ميلاده، أتذكر ذلك اليوم جيدًا، فقد كان صديق نبيل المقرب معي في الزنزانة ذاتها، وبكى حين سمع اسمه، وتدهورت حالته النفسية والصحية كثيرًا لسماعه خبر وفاة أعز أصدقائه”.
قصة نبيل هي قصة الألم السوري اليومي لمئات الألوف من المعتقلين السياسيين والمختفين قسريا في سجون الأسد، حيث يتعرضون لتعذيب قروسطي يقضي على حياتهم يوميا، قصص تأتينا يوميا وهي تشعرنا بالعجز وعدم القدرة على المساعدة أو تخفيف الألم، فنظام الإبادة الأسدي يأخذ كل هؤلاء الضحايا كرهائن وعوائد لاقتصاد شبيحته الذي يعتمد على الابتزاز والرشاوى وتهديد الأهالي بالخوف الدائم ومنع وصول أية معلومة لهم لضمان استمرار هذا المورد، إنها أبشع سياسة يمكن أن يتخيلها المرء اليوم لابتزاز حكومته التي يفترض بها أن تحميه، فإذا بها تعتقله وتعذبه حتى الموت ثم تبتز أهله للحصول على المال مقابل معلومات كاذبة وغير دقيقة.
إنها قمة المأساة بالنسبة للسوريين اليوم، وتبقى قضية المعتقلين كالجرح النازف الذي لا يكف عن النزيف مع جرعات كبيرة من الألم، لقد عقد مجلس الأمن جلسة غير رسمية لقضية المعتقلين لكن لا يمكن لأي مؤسسة أن تحل هذا الملف الذي يعتبره الأسد خاصته ويمنع أية دولة من الاقتراب منه وهو ما يفسره بمعنى السيادة.
السيادة بالنسبة له تعني حريته في قتل شعبه وإبادته ومنع الآخرين من التدخل في هذا “الحق”، لقد دمر الأسد معنى السيادة كما وضع في مواثيق الأمم المتحدة وحوله إلى “حق” الإبادة وفي الحقيقة لم يكن النظام السياسي الأول ولن يكون الأخير الذي يقوم بذلك، من نظام الخمير الحمر في كمبوديا إلى كوريا الشمالية وإيران، كلها أنظمة أخذت شعوبها رهينة لها بحق استخدام السيادة الذي يعني بالنسبة لهذه الأنظمة الحكم عبر القتل والتعذيب.
رسالتنا اليوم إلى نبيل ورفاقه أن النضال ضد التعذيب والنضال من أجل إطلاق سراح كل المعتقلين يجب أن لا يتوقف حتى تتحقق حرية كل السوريين في سجون الأسد.