“كنا نتوقع عودة نبيل ليكون مرشدنا من جديد، أو أن نتمكّن من رؤيته مجددًا، لكن لسوء الحظ، عرفنا عام 2018 أنه قُتل قبل عامين في المعتقل. تخيلوا أننا لم نتمكّن من الحداد عليه بشكل طبيعي، كان الأوان قد فات”.
هذا ما كانت ترجوه الصحفية السورية وواحدة من أبرز مؤسسي جريدة عنب بلدي خلود حلمي، بشأن مصير الصحفي السوري نبيل شربجي الذي اعتقل عام 2012 وتوفي متأثرًا بالتعذيب في سجون النظام السوري عام 2015، بحسب ما قالته بـ”المحكمة الشعبية” في لاهاي.
و”المحكمة الشعبية” مبادرة من منظمات فاعلة في مجال دعم الصحفيين لتحقيق حرية الإعلام والتعبير، ولتسليط الضوء على الإفلات من العقاب على الجرائم المرتبكة بحق الصحفيين، ولا يعتدّ بها قانونيًا.
وتُعرّف المحاكم الشعبية على أنها وسيلة لمساءلة الدول عن انتهاكات القانون الدولي من خلال بناء الوعي العام وإنشاء سجل أدلة شرعي، ولعب دور مهم في تمكين الضحايا وتسجيل قصصهم.
“بعدما خسرنا نبيل تابعنا عملنا، ونزلنا إلى الشوارع وأجرينا المقابلات مع الأشخاص، ووزعنا الجريدة في مدينتنا، وأنا هرّبت جريدة عنب بلدي عدة مرات إلى دمشق”، تابعت خلود حلمي، “نجوت بأعجوبة، لكنهم لم ينجوا: نبيل الذي قُتل بعد التعذيب. أخي الذي أُوقف في أيار 2012، وهو أيضًا شارك في تأسيس الجريدة، ولا أعلم ما إذا كان على قيد الحياة أم لا. أحمد شحادة أيضًا، وهو مدير التحرير، احتُجز مرتين وأُفرج عنه من قبل النظام، ولكن بعد ذلك قُتل بصاروخ في داريا، وأيضًا خسرنا مراسلًا شارك في تأسيس عنب بلدي بغارة على المدينة، وخسرنا شخصين آخرين في مراكز الاحتجاز قُتلا من قبل النظام”.
“كل هذه الخسائر التي رأيناها لم تمنعنا من متابعة العمل. اليوم عنب بلدي، وأقولها بفخر، من أبرز وسائل الإعلام الإخبارية المستقلة، المهنية المحترفة، في سوريا”، قالت خلود، مضيفة، “نحن نتابع لتحقيق حلم الذين لاقوا حتفهم. هذا كان حلم نبيل ونحن نتابع تحقيق هذا الحلم”.
محكمة شعبية
خلال 11 عامًا، كان كل من يحاول نقل الوقائع وتوثيق تفاصيل الحراك في سوريا مستهدفًا من قبل قوات النظام السوري، ما أسفر عن فقدان مئات الوجوه لأشخاص تهمتهم الوحيدة أنهم حملوا صوت ملايين السوريين من خلال كلماتهم، وأصواتهم، وصور كثيرة التقطتها عدساتهم.
ورغم المطالب المستمرة من قبل الصحفيين والناشطين السوريين بإيقاف إفلات النظام السوري من العقاب على الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين، اقتصر التحرك الدولي لإنقاذ الصحفيين السوريين والأجانب على بيانات إدانة لم تحقق أي جدوى تُذكر.
وفي يومي الاثنين والثلاثاء 16 و17 من أيار الحالي، عُقدت جلستا استماع ضمن “محكمة شعبية” تهدف إلى تسليط الضوء على ضرورة إيقاف الإفلات من العقاب على الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين والقضية الرمزية لمقتل الصحفي السوري نبيل شربجي.
وتضمنتا إدلاء الشهود بشهادتهم، بينهم صحفيون سوريون وأقارب لصحفيين قُتلوا خلال ممارسة عملهم، إلى جانب شهود عرفوا نبيل شربجي، ليقدموا شهادات حول عمله الصحفي وحياته ومعاملته في السجن.
ما الجدوى؟
تضمنت جلستا الاستماع الإدلاء بشهادات حول بداية الحراك السلمي في سوريا ودور نبيل شربجي في تأسيس جريدة عنب بلدي، وطريقة اعتقاله من قبل قوات النظام ومقتله في سجن “صيدنايا” سيئ السمعة، في أيار 2015 بعد نحو ثلاث سنوات من اعتقاله.
وتضمنت لائحة الاتهام الموجهة ضد قتلة نبيل مسؤولية الحكومة السورية عن انتهاك حقه بعدم التعرض للتعذيب وانتهاك حقه بالحياة.
الصحفي السوري والمدافع عن حقوق الإنسان وأحد الشهود في القضية منصور العمري، أوضح في حديث إلى عنب بلدي، أن هذه “المحكمة الشعبية” عمل مناصرة من قبل المجتمع المدني لتسليط الضوء على الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين.
وقدم العمري دليلًا ملموسًا للمحكمة، وهو قطعة قماش من قميص سربها عند خروجه من المعتقل كتب عليها أسماء 82 معتقلًا في “الفرقة الرابعة” بالدماء والصدأ باستخدام عظام الدجاج، بينهم نبيل شربجي، خلال الفترة التي قضياها معًا في المعتقل.
الصحفية السورية وعضو مجلس الإدارة في مؤسسة عنب بلدي، وإحدى الشهود خلال المحاكمة، خلود حلمي، اعتبرت حضورها المحكمة “مسؤولية أخلاقية”.
الصحافة “مسؤولية”
رغم أن قتل الصحفيين واعتقالهم كان محاولة لإخفاء الأصوات المؤثرة، حمّلت تلك الحوادث مسؤولية أكبر لصحفيين آخرين شعروا أنهم أمام تحدٍّ كبير يجبرهم على الاستمرار في طريق بدأه زملاؤهم.
“مقتل نبيل كان مؤلمًا على الصعيد الشخصي، وحمّلنا أمانة إيصال صوته وصوتنا معًا”، قالت حلمي، مشيرة إلى أن الحياة وإكمال الطريق كان من حق نبيل لكن النظام قرر عن سابق إصرار وترصد اعتقاله وقتله.
“لو كنت ميتة وكان نبيل عايش”، كررت حلمي هذه العبارة مرارًا لتنقل حجم المسؤولية التي تشعر بها والتي دفعتها لتتابع عملها في مجال الصحافة وتقف في المحكمة لمناصرة القضية التي جمعتها بزملائها الصحفيين الذين فقدتهم.
وأضافت حلمي “فقدان عنب بلدي لنبيل وزملائه كان الدافع الأكبر للاستمرار، إذ إنهم لم يعودوا بيننا ليكملوا طريقًا بدأناه معًا، ما يضعنا أمام مسؤولية كبيرة”.
“أؤمن بأهمية الكلمة الحرة، ومحاولة الأنظمة القمعية اغتيال أصواتنا دليل حقيقي على دور الصحافة”، بهذه الكلمات أكدت أن الصحافة “سلاح” حتى على المستوى الدولي.
“خسرنا جزءًا من ذاكرتنا”
اعتمد التوثيق ونقل الحقائق في السنوات الأولى من الثورة السورية على عمل فردي من قبل مئات الصحفيين والإعلاميين والمواطنين الصحفيين الذين صنعوا الجزء الأكبر من ذاكرة السوريين.
عمل نبيل على تأسيس المكتب الإعلامي التابع لـ”تنسيقية داريا” لتسليط الضوء على ما شهدته المدينة منذ بدء الاحتجاجات في سوريا ونقل الوقائع للعالم بأكمله.
ووضعه عمله بالمكتب الإعلامي أمام مسؤولية حمل أرشيف يضم المظاهرات والأنشطة الميدانية والتجاوزات والانتهاكات التي ارتكبها النظام في داريا.
ومع تطور الحراك المدني في سوريا، شارك في تأسيس جريدة عنب بلدي عام 2011، وهي أول تجربة صحفية مستقلة في مدينة داريا.
حين أوقف قائد الموكب الأمني الذي يجول في داريا نبيل عرّف عن نفسه بـ”نبيل شربجي، أنا صحفي” محاولًا لفت النظر إليه ليكون “كبش فداء” ويعتقل وحده، ما دفعهم لاعتقاله ومصادرة جهازه المحمول وهاتفه الشخصي و”الهاردات” التي تضمّنت الكثير من الوثائق، بحسب ما قالته الصحفية خلود حلمي.
“خسرنا جزءًا من ذاكرتنا بخسارة نبيل، كان جزءًا لا يعوّض”، تابعت حلمي، لافتة إلى أن الصحافة في الحالة السورية محاولة توثيق، وخسارة الصحفي تعني خسارة الكثير من الوثائق التي تدين النظام.
الإفلات من العقاب.. الانتهاكات مستمرة
أطلقت منظمة “مراسلون بلا حدود” (RSF)، و”صحافة حرة بلا حدود”، و”لجنة حماية الصحفيين”، “محكمة شعبية” في محاولة لمحاسبة ثلاث دول، من بينها سوريا، لعدم تحقيق العدالة في جرائم قتل الصحفيين.
وتعقد جلسات الاستماع، المتعلقة بسوريا، بالتنظيم مع “المركز السوري للإعلام وحرية التعبير”.
وانعقدت الجلسة الأولى في 2 من تشرين الثاني 2021، وقُدمت خلالها لائحة اتهام رسمية إلى المدعية العامة والمحامية الدولية لحقوق الإنسان، ألمودينا برنابيو، تضمّنت تهمًا ضد الحكومات السريلانكية والمكسيكية والسورية لعدم تحقيق العدالة في جرائم قتل ثلاثة صحفيين من بينهم الصحفي السوري نبيل شربجي.
وقدمت المنظمات خلال الجلسة الأولى توثيقًا للقضايا الثلاث، وشهادات لـ13 صحفيًا تعرضوا لانتهاكات وتهديدات لتقييد حريتهم، لإبراز الأثر الذي يتركه الإفلات من العقاب على الضحايا وعلى الأوساط الصحفية والمجتمعات.
ورغم ارتفاع سوريا مرتبتين على مؤشر “حرية الصحافة” الخاص بمنظمة “مراسلون بلا حدود” لعام 2022 عما كانت عليه في عام 2021، تتصاعد الجرائم المرتكبة بحق الصحفيين بشكل متواصل منذ بدء الاحتجاجات الشعبية في العام 2011، جرّاء إفلات مرتكبيها من العقاب.
وجاءت سوريا في المرتبة 171 على مؤشر المنظمة الذي شمل 180 بلدًا، متقدمة بمرتبتين عن تصنيف 2021.
وبحسب “المركز السوري للحريات الصحفية” في “رابطة الصحفيين السوريين”، أنهى تعدد الأطراف العسكرية في مختلف المناطق السورية احتكار النظام للانتهاكات، لتتسع لائحة الجهات المسؤولة عن ارتكاب الانتهاكات التي تجاوزت 1435 انتهاكًا منذ آذار 2011 وحتى نهاية آذار 2022، كان الضحية فيها إما إعلاميًا أو مؤسسة إعلامية.
وحلّت حالات القتل بحق الإعلاميين في سوريا منذ عام 2011 في المرتبة الأولى لناحية أعدادها الموثقة مقارنة ببقية أنواع الانتهاكات الأخرى، كالإصابة والضرب والاعتقال وغيرها، إذ وثّق المركز 463 حالة قتل بحق الإعلاميين السوريين والأجانب في سوريا وخارجها منذ آذار 2011 وحتى نهاية آذار 2022.