نحو مقاربات أخرى لقضايا الثورة

نوفمبر 9, 2022

حسن النيفي

مقالات

مقال تحت عنوان (نحو مقاربات أخرى لقضايا الثورة) لحسن النيفي

ما من شك في أن الإخفاقات التي منيت بها الثورة السورية، والتي لا طائل من سردها وتكرارها،  قد حالت دون تحقيق منجز نوعي مباشر سواء سياسي أو عسكري، إلّا أن ضحالة المعطى السياسي يقابلها غنى وثراء ثقافي كان إحدى الكشوفات المعرفية لثورة السوريين، ولعل أبرز ملامح تلك الكشوفات هو الوعي السوري المنبثق من ثورة السوريين، ولا أدلّ على تبلور هذا الوعي من إصرار السوريين – على الرغم من تفاقم مأساتهم الممتدة إلى أكثر من عقد – على الاستمرار في رفضهم لنموذج الحكم الأسدي والعودة إلى حياة ما قبل عام 2011، ولعل الأهم من ذلك هو أن تجليات الوعي الجديد لم تكن ظاهرة نخبوية لدى فئة محددة من المجتمع، بل هي في سبيلها لأن تكون إحدى الظواهر الثقافية لدى العامة، يكفي الوقوف عند ملايين النازحين السوريين الذي يسكنون المخيمات في الداخل السوري، والذين هم الأشد بؤساً من الناحية المعيشية والأمنية، لقد آثر هؤلاء مواجهة واقعهم المرير بمزيد من الصبر والشجاعة، رافضين العودة إلى كنف نظام الأسد، علماً أن مخيمات الكثير منهم لا تبعد عن بلداتهم ومدنهم الأصلية سوى بضعة آلاف من الأمتار.

هذا الوعي الثوري الجديد للإنسان السوري جدير أن يجد ترجمته في عمل نضالي ينبثق من وعي جديد أيضاً، يتسم بالحيوية والقدرة على مواكبة المتغيرات، قادر على إبداع أفكار جديدة تمكّنه من فهم الواقع بعين بصيرة، بعيد عن الخمول والاستنقاع في أحواض المفاهيم المعلّبة والمستوردة، وانطلاقاً من هذا المنظور، يمكن لنا إعادة النظر في مسائل ثلاث:

العملية السياسية و(هيئة الحكم الانتقالي):

تُجمع القرارات الأممية ذات الصلة بالقضية السورية (جنيف1 – 2118 –  2254) على أن الحل السياسي في سوريا يبدأ بتشكيل هيئة حكم انتقالي، تتشكل من النظام والمعارضة، بصلاحيات كاملة، ولا شك أن تشكيل هذه الهيئة سيتم عبر عملية تفاوضية بين الطرفين، وهذا ما لم يتحقق حتى الآن، ولا حاجة للتكرار بأن نظام الأسد – مدعوماً من حلفائه الروس والإيرانيين –  رفض أي شكل من أشكال التفاعل الجدي مع هذا المسعى، وآثر الاستمرار في الحل الأمني المتمثل بقتل السوريين وبأقذر الأسلحة ووسائل الإبادة بما في ذلك السلاح الكيمياوي، وبهذا السلوك يكون النظام قد تجاوز التوصيف الدولي له على أنه نظام (استبدادي) وأكّد أنه نظام (إبادي)، وكان من المفترض أن يعيد المجتمع الدولي النظر في فحوى (الوصفة السابقة) المتمثلة بالقرارات الأممية، واتخاذ قرارات أو إجراءات أخرى توازي حجم الجريمة، ولئن لم يحصل ذلك بفعل قدرة الروس على تعطيل أي مسعى أممي يقارب القضية السورية بالطريقة الصحيحة، فما الذي يمنع قوى الثورة السورية من العمل على إيجاد إستراتيجيات جديدة للمواجهة، لا تتنكر للقرارات الأممية ولكن تجري بموازاتها، ولعل عدم توجه المعارضة نحو هذا الاتجاه هو ما مهّد الطريق أمام بعض الأطراف الإقليمية لتقديم مبادرات فيها الكثير من التفريط بحق السوريين، وليس تأييد المبعوث الدولي غير بيدرسن لمقترح (خطوة مقابل خطوة) سوى مثال عن مبادرات التفريط.

المجتمع الدولي والقضية السورية:

لقد أدّى الاستعصاء السياسي وانسداد المسارات السياسية في سوريا إلى شيوع حالة واسعة الانتشار من الإحباط والقنوط، متزامنة مع مزيد من القناعة لدى كثيرين بأن القضية السورية قد خرجت من أيدي السوريين، وأن المجتمع الدولي متمثلاً بالأطراف الدولية النافذة في سوريا هو وحده من يملك الحل، ولعل ما يزيد القناعة بهذه الفكرة هو تقاسم النفوذ داخل الجغرافيا السورية، الذي أفضى إلى وجود أربع سلطات أمر واقع، وكل واحدة منها تمثل أجندة أقل ما يقال فيها أنها بعيدة عن مشروع الثورة ولا تتقوّم على حوامل وطنية، ولا يتماهى سلوكها حيال المواطنين السوريين مع قيم ثورتهم وتطلعاتهم التحررية. ولعل اللافت في الانتباه أن شيوع الاعتقاد بافتقاد السوريين لأي قدرة على المبادرة لم يكن محصوراً في الأوساط العامة أو الشعبية، وإنما نما وتعزّز لدى الفئات النخبوية من كيانات سياسية معارضة رسمية وغير رسمية، وكذلك بدأ يتنامى في خطاب كثير من القطاعات الثقافية، وكأنه تحوّل إلى إحدى البديهيات. ولعل تعاطي القوى السياسية والثقافية مع هذه الفكرة بهذا النمط من التفكير العدمي إنما يسهم بوضوح بمصادرة أي مسعى ثوري لاستعادة القرار الوطني فضلاً عن أنه يجسّد دعوة لاستمراء اليأس والعطالة في الوعي والعمل معاً. في حين أثبتت الوقائع أن الركون أو الاعتماد على جهود المجتمع الدولي فحسب، لم تؤدِّ – بعد مرور أكثر من أحد عشر عاماً – سوى إلى هذا الخراب الماثل أمامنا، فضلاً عن القول: إن جميع الدول ذات النفوذ في الشأن السوري ما تزال حتى الآن مشغولة بإدارة الصراع في سوريا وليست من أولوياتها إيجاد حلول، وستبقى كذلك ما لم يبادر السوريون أنفسهم بالعمل على إيجاد الحلول قبل سواهم.

المرجعية الشعبية للثورة:

كانت إحدى معضلات الثورة السورية إبان انطلاقتها في آذار 2011، تتمثل في يُتمها السياسي، أعني غياب الدور الفاعل للقوى السياسية والأحزاب داخل سوريا، الأمر الذي حال دون أن يُترجَم المُنجز الثوري العظيم للسوريين إلى مكسب سياسي من جهة، كما أدّى ذلك إلى توجّه أنظار السوريين نحو الخارج، منتظرين أن تتشكل قيادة للثورة، تمثلهم وتوجه بوصلة الحراك الثوري من جهة أخرى، وقد أفضى هذا الانتظار إلى نشوء تشكيلات سياسية في الخارج ادّعت تمثيلها لثورة السوريين ولكنها – وبحكم نشأتها وطبيعة التحكّم الخارجي بتفكيرها وسلوكها – كانت بعيدة عما يتطلع إليه الثوار والطامحون في التحرر من نظام العبودية، بل ربما كانت أكثر تماهياً مع مصالح رعاتها وداعميها ومُشغليها، وفي موازاة ذلك، لم تستطع القوى الوطنية الأخرى إيجاد البديل عن تلك الكيانات الرسمية، بل ربما راحت تلك القوى الوطنية تستر عجزها بممارسات ثقافوية أحياناً تتجسّد في حوارات وندوات تبحث فيها حول قضايا تتعلق بسوريا (المتخيّلة)، ويصبح – حينئذ – الحديث عن اللامركزية وعلمانية الدولة أو إسلاميتها ومسائل الجندرة هو شغلها الشاغل، متناسيةً أن تحقق حلم السوريين برؤية سوريا المستقبل التي يحلم بها الجميع إنما هو مرهون بزوال نظام الإبادة الأسدي أولاً، ولعل الهروب من العمل لمواجهة هذا الاستحقاق (إزالة النظام)، هو هروب وتجاهل لما هو أولوية لدى الشارع السوري الذي ينتظر من يساعده على تجاوز الواقع المأسوي الذي يعيشه، ولا ينتظر من سيكون وصياً عليه.

لعل خيبة الشارع السوري من نخبه السياسية والثقافية لا تعني الاستسلام للعدم، بقدر ما تعني أن يتولى الحراك الشعبي السوري نفسه زمام المبادرة، ويعمل على أن تنبثق من صفوفه قيادة تكون هي النواة الحقيقية لقيادة ثورته، ويمكن لهذه النواة أن تتسع عبر أشكال وآليات تنسجم مع واقع السوريين الجغرافي والأمني، ربما اتصف هذا المسعى بالعودة الصفرية إلى البداية، ولكنه على أية حال – إن تحقق – فسيكون خطوة صلبة نحو الأمام أفضل من انتظار الوهم واجترار الخيبات.

المصـــدر

المزيد
من المقالات