لم يصبنا التبلد، ولا جفّت مشاعرنا، لكننا تعلقنا بحبال الأمل.
مفجع ذاك الكم الهائل من الألم الذي يتدفّق من قصص النّساء في سوريا، بمجرّد أن تفتح معهنّ حديثاً قد يبدو عادياً، أو بمجرّد كونه يتعلّق بهن. ربّما علمتهن قسوة السنوات الأخيرة من الثورة أن ينسين سؤال الآخرين عنهن، ليجدن من الغرابة بمكان، ومن الحفاوة بمكانٍ أيضاً سؤال الآخرين ” كيف حالكِ” أو ” كيف تعيشين”؟!
لا أحد أبداً يمكن أن يتخيل كيف تواجه آلاف من النساء من الأرامل وزوجات المصابين والمعتقلين وحدهن صعوبة الحياة، قسوتها ووعورتها وجفافها، ولا أحد مهما تعاطف يمكنه أن يسدّ ألم لحظة تعرضت لها امرأة واضطرتها لأن تتحول من قطة منزلية إلى لبوة، الانهيار بالبكاء غالباً ما يكون سيّد الموقف، فلم تعد هناك أكتافٌ تبكي عليها النّساء بعد أن تفككت روابط الأسر، وبات وجود أب أو أخ أو أقارب في ذات المكان معهن أمراً مدهشاً، وميزة لا تغافل عنها، هذا في حال كان هذا الشخص داعماً ومسانداً، وليس مستغلاً وطامعاً بكفالات اليتامى، أو راغباً في متابعة ممارسة رحلة الاستبداد الممارس على أهل بيته، فهذا مفهوم الرجولة في نظر كثيرين!
في إحدى الدورات التدريبية التي ترتبط بمشاريع مهنية، وبينما نناقش موضوع القوة، وكيف مررنا جميعاً بتجارب قاسية، واستطعنا اجتيازها، رفعت سيّدة من حمص يدها وطلبت أن تتحدث، وقفت أمام الجميع وسردت لهم كيف فقدت أبناءها الثلاثة، بعد أن ربّتهم حتى غدوا شباناً أقوياء، وكيف كانت تنظر إليهم بوصفهم الذخيرة الوحيدة، والأمل الباقي لها
في هذه الحياة، بعد مرور ثماني سنوات من المعاناة، كانت حياتها معلّقة بهم، أحلامها، مشاريعها، هواجسها وأفكارها مرتبطة بهم، وإذا بهم يرحلون شهداء معاً دون سابق إنذار!
كانت تراقبها سيدة أخرى من دير الزور بعينين حزينتين، ولم تتمالك نفسها فقدمت لها كلمات المواساة الصادقة، ولكنها تحدثت بعد حين، وأخبرتنا كيف فقدت ما يزيد عن العشرين من أقاربها الذين يرتبطون بها بقرابة مباشرة، من بينهم خمسة شبان، أولاد أخيها رحلوا في تفجير أليم، وتحولوا إلى أشلاء، كيف تفحّم الأطفال، وكيف كان الفقد الأخير مفجعاً بحادث أليم لأمها جعلها تعتقد أن النوم الهادئ خرافة أو كذبة! كانت كلماتها نازفة، وصدى الوحدة والغربة يهدر كعاصفة تحاول أن تتفادها كل ليلة، وكل يوم، بل كل لحظة.
تذكرت أماً لثمانية أيتام كيف انهارت بالبكاء منذ مدّة في جلسة مشابهة وهي تتحدث عن غدر القريب، ووحشة الدرب، وتحملها وحدها العبء، ولحظات كثيرة كانت تشعر فيها بالعجز عن فعل شيء، وكانت تشعر أن الأيام تمرّ بلا جدوى، فقضية إطعام الصّغار هي وحدها التحدي والقضية المصيرية التي يتوجب عليها أن تتعامل معها، وتفاعلت معها زوجة المصاب التي كانت تترك طفلتها الرضيعة عنده، وتخرج لتبيع ما تصنعه من بضاعة في السّوق، ثم تعود مسرعة لتعتني به وبأطفالها، قصص كثيرة تخبر باستمرار كيف يغدو الواقع أزمة حقيقية ما لم يفتش كل إنسانٍ عن مخرج، السيدات أتين ليسمعن كلمات تتعلق بالأمل، وربما أتين بملء إرادتهن لشراء هذا الأمل بأيّ ثمن، وقد تكاتفن معاً، في وحدة حال، ورغبة بالتحدي، وهل يحنو على الغريب إلا من شابهه وجعاً.
لم تفقد واحدة منهن إيمانها بالله في لحظاتها العصيبة، ولم تجزع وهي تسرد مأساتها، ولم تفقد صوابها لكثر ما تعرضت له من شدائد، بل كانت صادقة العزم تفتش عن مخرج، عن تعلّم حرفة تعود عليها برزق كريم، أو إتقان مهارة تغيّر مجرى حياتها.
قالت إحداهن: منذ عشرين سنة لم أشعر بالسعادة قدر ما شعرت بها اليوم، فقد بتّ أملك حلماً يقودني للعمل، للإنجاز والعطاء، وهذا الحلم سأتمسّك به وأدافع عنه بكلّ قوّتي.
كنتُ مدركة كيف عمل نظام الأسد على قتل الأحلام بل على وأدها، فنسبة الأمية التي نُصدم بها اليوم ليست وليدة فراغ، والمرأة البالغة من العمر ثلاثين أو أربعين أو خمسين سنة لم تجهل فجأة، فأميّتها قديمة، وهي من إنجازات نظام عمل ويعمل على نشر الجهل والخرافة في البيئات الفقيرة والمعدمة، علينا ألا نضع كل اللائمة على الحرب، فالتخطيط للتجهيل أمرٌ متعمد، وهو نهج الحكومات المستبدة التي تدرك أن من السّهل فرض سطوتها على الشعب كلما ارتفعت نسبة الفقر والجهل فيه، لأن الحاجة ستحرمه من التفكير، ومن ثم المطالبة بحقوقه، كم كانت ثورتنا عظيمة حين هدمت كل ذلك! ولكن لابد من عمل.
لا مخرج حقيقي ما لم نكافح الظلم والجهل، ونسعى جاهدين لأن تنبع الإرادة من داخلنا نحن، إرادة ثابتة حقيقية، غير مستوردة، وغير معبأة داخل سلّة مساعدات إنسانية، من أراد مساعدة الشعب فليخلق له مقومات حياة شريفة، وعمل شريف، الكرامة الحقيقية في العمل والسّعي، والذل كل الذل في القبول بما لا يجب قبوله.
كل التحية للنساء الصامدات رغم زلزلة الواقع، الجميلات أفعالاً رغم قبح الحال، المثابرات على الأمل الممزوج إيماناً وسعياً، أنتن روحُ الأرض وعطرها، ابقين بشموخ وعزّة وكرامة.